أكاد أجزم أنه لا يوجد شعب يضاهي الشعب المصري في كرمه وسخائه وشهامته وطيبته، ومساندته لبعضه البعض وقت الأزمات، وحفاوة استقباله للغريب والملهوف. هذه هي القاعدة التي تحكم المصريين، بعيدًا عما يمكن أن يكون استثناءً، أو شذوذًا عن القاعدة.
هذه هي القاعدة التي تحكمنا- كمصريين- على مدار التاريخ، دونما حاجة إلى أدلة، وهي كثيرة. ولكن يمكنني أن أستند على مواقف ثلاثة عاصرتها، أحكيها بوصفي شاهد عيان، بعيدًا عما يمكن أن أستدعيه من الذاكرة التاريخية من مواقف وأحداث على مدار التاريخ المصري، التي هي أكثر من أن يمكن أحصرها. أولها: عندما كنت طفلا، وقد حدث زلزال الثاني عشر من أكتوبر عام ١٩٩٢.
يومئذ رأيت كيف يساند الشعب المصري بعضه البعض في محنته، في وقت كانت كلمة زلزال غريبة على مسامعنا وعلى وعينا. يومها وجدنا كل مصري يجود بما لديه، ولو كان قليلا، لإغاثة من يحتاج إلى المساعدة. وفي هذه المحنة تظهر شهامة المصري، التي يمكن أن يفقد حياته لإنقاذ ذويه وجيرانه. في نصف دقيقة فقط- هي عمر هذه الهزة- ينجح هذا الزلزال في توحيد مشاعر المصريين، بالرغم من اختلاف ثقافاتهم أو أديانهم أو فئاتهم الاجتماعية، أو انتماءاتهم السياسية، أو مناطقهم الجغرافية. لقد طغت هذه الروح على روح التعصب أو المخاصمة أو الاختلافات.
ثانيها: عقب أحداث يناير ٢٠١١، وبعد التعدي على أقسام الشرطة وحرقها، ومحاولة بعض المتربصين نشر الفوضى في شوارع مصر، حيث أصبح الشعب يحكم نفسه بنفسه، في هذه اللحظة التاريخية يظهر المعدن الأصيل للشعب المصري، فإذا به هو من يحرس بيوته، وشوارعه، وحواريه وأزقته، في القرى والمدن، وأصبحت اللجان الشعبية هي من تحاول ضبط حركة الشارع المصري، فتقف في وجه من يحاولون الاستغلال والاحتكار، كما وقفت في وجه البلطجية، وآثروا وضع أيديهم في أيدي الجيش والشرطة، حتى يعود الأمن والأمان للشارع المصري ثانية.
فعل المصريون هذا، ولم يستغلوا الأحداث، فعلوا هذا في الوقت الذي لو حدث هذا الأمر في دول أخرى لسادت الفوضى والبلطجة والانتقام الاجتماعي من الأغنياء لصالح الفقراء. وهي حالات وجدناها في دول مجاورة، بدأت فيها الفوضى ولم يستطع أحد إيقافها. هذا هو الشعب المصري الذي لم يستغل الأحداث ليحقق مصالحه الضيقة، التي تأتي على حساب وطنه.
هذا بالرغم من ظروف المصريين آنذاك التي كانت في منتهى الصعوبة، وكان الحراك الثوري هو الحاكم لحركة الشارع المصري، ولو كانت حدثت مثل هذه الأحداث الفوضوية لربما وجدنا لها مبررا. وبالدرجة نفسها، فإن هذا التلاحم الشعبي هو الذي واجه بجسارة محاولات سرقة الدولة المصرية، فوقف في ظهر جيشه عام ٢٠١٣، وتمكن من استعادتها، وها هو يتحمل كثيرا من المعاناة في صبر، أملا في استكمال إعادة بناء وطنه.
ثالثها: قدرة الشعب المصري على استيعاب الشعوب الشقيقة المتضررة، بل قدرته على مساندة قضايا هذه الشعوب. فلا يخفى على أحد الظروف الاقتصادية التي يمر بها المصريون طوال تاريخهم، وبالرغم من ذلك فإنه لا يتأخر عن مساعدة أي شعب عربي أو أفريقي متضرر.
فبعيدا عن كرم الشعب المصري مع أشقائه من أبناء الشعوب المجاورة، فإنه يكفي مساندة المصريين للقضية الفلسطينية، والدعم الذي قدمته مصر، حكومة وشعبا، لأبناء فلسطين، في معاملتهم بوصفهم مصريين، ومرورا بحسن استقبال مصر لأشقائنا من العراق، عقب الغزو الأمريكي عليه، وكذلك ما فعله المصريون مع السوريين، وكيف أحسن المصريون استقبالهم ومعاملتهم كأنهم في وطنهم. والأمر نفسه بالنسبة إلى الأشقاء الليبيين واليمنيين، عقب ما حدث من تدمير لبلدانهم، فشاركهم المصريون أزمتهم، وقبل كل هذا تضامن الشعب المصري مع الأشقاء الكويتيين، بعد الغزو العراقي، إذ فضلوا المجيء إلى مصر عن الذهاب إلى إحدى بلاد الجوار، نظرا لثقتهم بأنهم سيلقون في مصر كل ترحاب ومعاملة كريمة، كأنهم في بلدهم الكويت. ولم يقتصر الأمر على الدول العربية فحسب، وإنما حدث الأمر نفسه مع شعب البوسنة والهرسك وكوسوفو، فبعد تفكيك يوغوسلافيا، وحدوث اضطهاد للمسلمين، فإنهم لجأوا إلى مصر، وكان المصريون في الموعد، حيث الحفاوة وكرم الاستقبال.
هكذا كان تعامل المصريين مع غيرهم، حيث الحرص على حسن التعامل، ليشعر غير المصري وكأنه في بلده، يتقاسمان معا لقمة العيش والمسكن، دون أن يتم استخدام مصطلح اللاجئين، هذا في الوقت الذي تتاجر فيه بعض الدول بقضايا الشعوب المتضررة، وإذا قاموا بإيوائهم، ففي مخيمات، وفي مناطق محددة على الحدود، ويتعاملون معهم بوصفهم لاجئين، ليتكسبوا من ورائهم من خلال المعونات، أو يستخدمونهم كقنابل موقوتة، يشعلونها في أوقات معينة للضغط، والخروج بمكتسبات سياسية.
هنا يتضح الفارق الكبير بين المصريين الذين يستوعبون أشقاءهم، ويحسنون تعاملهم، رغم ضيق ذات اليد، وبين غيرهم ممن يستغلون الشعوب المجاورة لتحقيق مآرب سياسية. ولقد سبق لابن خلدون تفسير صفة العطاء عند المصري، وميله إلى الفكاهة والمرح، إذ أرجع ذلك إلى أن المصري لا يفكر في العواقب.