أيام فارقة تعيشها حاليًا حركة النهضة، الذراع السياسية لتنظيم الإخوان في تونس، بعد القبض مؤخرًا على رؤوسها، في خضم محاولات النظام تطهير البلاد من عناصر الحركة وتغلغلهم في مفاصل الدولة لإعاقة تقدمها ووضع مؤامرات لتحريض الرأي العام ضد الرئيس قيس سعيد.
فهل كشف المستور عن جرائم إخوان تونس مؤشرات لاحتضار الحركة وهي التي تلعب في الوقت الضائع للعودة للساحة السياسية بوجوه الصف الثاني من خلال عقد مؤتمرها السنوي الحادي عشر أكتوبر المقبل؟.
جاء إلقاء الشرطة التونسية القبض على اثنين من أبرز قادة حركة النهضة ضربة في مقتل لجماعة الإخوان، حيث شملت الرئيس المؤقت منذر الونيسي الذي حل محل زعيمها راشد الغنوشي المحبوس منذ خمسة أشهر على ذمة عدة قضايا. ويتم التحقيق مع الونيسي بشأن نشر تسجيلات صوتية منسوبة له تتضمن توجيهه اتهامات خطيرة بجرائم فساد تورط فيها قيادات إخوانية.
كما تم القبض على عبد الكريم الهاروني رئيس مجلس الشورى وهو أعلى هيئة بالحركة ويجري التحقيق معه حول ما يعرف بانتدابات جماعة العفو التشريعي العام التي تمت بعد ٢٠١١ بتعيين حوالي سبعة آلاف موظف من الإخوان وأنصارهم للسيطرة على مفاصل الدولة ومؤسساتها، كما صرفت تعويضات بالملايين لعناصر الإخوان وتعيينهم وأفراد عائلاتهم في وظائف ومناصب عليا بمن في ذلك أشخاص مُتهمون في قضايا إرهابية.
وتُعد التسريبات الصوتية بصوت الونيسي الرجل الثاني في الحركة تطورًا هو الأخطر في ملف إخوان تونس لأنها فضحت فساد عائلة الغنوشي ونجله معاذ، الذي يشترك مع رضا إدريس، عضو المكتب السياسي للحركة في إرسال الأموال إلى القيادي الإخواني محمد الغنودي، والغنوشي الابن الذي يعيش في سويسرا يُعد من أخطر عناصر التنظيم حيث يحاط بشبكة علاقات واسعة وبإمدادات مالية كبيرة بمساعدة صهره، علي غالب محمود همت، أحد كبار قيادات الإخوان في سوريا، المتحصن بجنسيته البريطانية.
وكشفت هذه التسريبات سرّ تدفق الأموال الإخوانية إلى تونس من الخارج بالرغم من تجميد أموال أغلب قيادات النهضة كما تجيب عن التساؤلات حول تضخم ثروة الغنوشي والملف المالي المشبوه للنهضة.
وكشف «الونيسي» أيضا تحالفات حركة النهضة مع رجال أعمال نافذين، من أجل العودة مُجددًا إلى الخارطة السياسية، والترتيب لخوض انتخابات الرئاسة ٢٠٢٤، ويكشف «الونيسي»، من حيث لا يدرى، حالات الفساد المستشري التي اكتشفها بعد توليه رئاسة النهضة، قائلًا بالحرف: «لو كنت تفطنت لربع أو خمس الأشياء الغريبة والعجيبة في الحركة لما قبلت بتولي القيادة»، مُطالبًا بضرورة تغيير حقيقي في الحركة، ولعلّ الطُعم يكمن في العبارة الأخيرة ضرورة التغيير!
وإذا كان التونسيون قد خبروا بوضوح خلال سنواتهم الماضية المتأزمة كيف استخدم قادة النهضة الدّين ليقبضوا على مقاليد السلطة، إلا أن الاعتراف بفساد قيادات الحركة عندما يأتي من المسؤول الأول عنها يكون ضربة قاضية، وشعور التونسيين الضحايا الذين يصارعون الأزمات المعيشية يوميًا شديد القسوة بينما قيادات الإخوان «شايخين»؛ وهذه العبارة المستفزة للناس التي استخدمها الونيسي تعني في اللهجة التونسية التمتع بالامتيازات ورغد العيش، وذكرها في معرض اتهامه أشخاص داخل النهضة اغتنوا في السابق وأشخاص آخرين يريدون الآن أن يستغلوا الوضع، وذكر بالاسم «زينب» –ويقصد القيادية زينب البراهمي التي وصفها بأفعى كبيرة تريد التمعش من الحركة.
والسؤال الآن: «هل تعني هذه التطورات حقًا أن حركة النهضة تتهاوى وتكتب سطورها الأخيرة أم أنها تمثيلية للإيحاء بوجود انشقاق في صفوفها بين حرس قديم وآخر من الصف الثاني، تمهيدًا لتولي الأخير القيادة وبدء صفحة جديدة مع قصر قرطاج ومؤسسات الدولة؟!».
التونسيون يتمنون بلا شك أن تكون هذه الفضيحة الفصل الأخير في مسلسل العشرية الحزينة بعد أن فاض بهم الكيل، لكنّهم لا يستبعدون كونها حيلة لا تنطلي عليهم بهدف إطلاق نسخة جديدة من الحرباء المتلونة النهضة، خاصة وأن الونيسي حاول جاهدًا الإيحاء بأنه على وفاق مع قصر قرطاج.
لذلك يؤيد كثيرون مطالب برلمانيين وسياسيين وأنصار الرئيس بحل حركة النهضة وقطع رأس الحرباء! غير أنّ البعض في المقابل لا يتعجل حل الحركة مدركين ألاعيب الإخوان في العمل السري وحبك المؤامرات لتأجيج الأوضاع قصد الإطاحة بالرئيس سعيّد والمنظومة الحاكمة، ولا يُتوقع أن يتحمّس الرئيس بدوره لإصدار قرار بسحب الترخيص، فمن المعروف عنه حرصه على المسار القانوني وانتظار ما يصدره القضاء من أحكام نهائية.
لذلك، السيناريو المرجح الآن انتظار ما سوف تسفر عنه التحقيقات وأحكام القضاء بشأن الاتهامات الموجهة ضد الغنوشي وعلي العريّض والآخرين المتورطين في الاغتيالات السياسية وتسفير التونسيين للقتال مع الجماعات الإرهابية والتمويل الأجنبي وتبييض الأموال.
أما السيناريو الآخر المتمثل في استمرار حركة النهضة لكن بقيادات الصف الثاني يتزعمهم الونيسي، فهذا يبقى أحد الأهداف المحتملة للتسريب الصوتي لفتح الباب للتفاوض مع الرئيس ومؤسسات الدولة من أجل العودة للساحة السياسية بوجوه جديدة.
وقد يكون مؤتمر الحركة في أكتوبر المقبل فرصة لإبعاد الغنوشي والصف الأول من القيادات "المحروقة". لكن من المستبعد قبول الرئيس سعيّد التفاوض مع الإخوان وسيستكمل المسار القضائي لحين صدور أحكام ضدهم، وهذا ما يرجح السيناريو الثالث الأسوأ للإخوان وهو تصاعد الانشقاقات داخلهم مما قد يعيق عقد مؤتمرهم وسقوط المزيد من أقنعتهم أمام الشعب التونسي للأبد!
ألفة السلامي: صحفية متخصصة في الشؤون الدولية