لا أستطيع أن أنسى نبرة صوته وهو يطالب الجرسون بإغلاق شاشة العرض التى لا نسمعها أصلًا تحت وطأة ضوضاء المقهى. كان صوت استغاثة.. إنه نداء قوى للنجدة بكل طبقات العذاب فى نبرته. حين اقترب منه الجرسون يسأله: "هو فيه حاجة معروضة ممكن تتضايق حد؟. دى أغانى عادية جدًا.. فيه حاجة مضايقة حضرتك؟ نغير القناة؟". سكت الرجل قليلًا وكأنه يعانى من صداع يمنعه من ترتيب أفكاره حتى يتحدث. ثم قال فى رجاء: "أنا بقيت أخاف يطلع علينا أى خبر فى أى وقت ينكد علينا.. إنت مش خايف يتنكد علينا؟!". ابتسم الجرسون فى ذكاء. وحول الحديث إلى دعابة مع الزبون وجهز له طاولة لا ترى الشاشة تمامًا. وأيضًا "مشروب On the house" كأنه يعالج الرجل فى نقاهة من جهاز التليفزيون.
أشارت بعض الأبحاث فى السنتين الأخيرتين إلى اعتزال نسبة من القراء والمشاهدين السابقين لنشرات الأخبار، إذ عبر هؤلاء بمنتهى الارتياح عن أنماط حياتهم الأكثر سعادة دون معرفة ماذا حدث اليوم أو سيحدث غداً فى العالم، حتى أن رجلًا أربعينيًا فى أحد استطلاعات الرأى طلب تسجيل رأيه بأن حياته دون نشرة الأخبار لم تتأثر، وأن حياته التى كان يعتقد أنها تحتاج لمعلومات عن سير أحداث العالم لا تحتاج لأكثر من معلومات عن الأماكن المحدودة التى يتحرك بها يوميًا، لهذا هو أكثر سعادة بقراره حول اعتزال نشرات الأخبار.
على الجانب الآخر من النهر نجد أبحاثًاً خلال السنتين الأخيرتين أيضًا ترصد ظاهرة غريبة أسموها مجازًا "الرغبة الجامحة فى الإطلاع على الأخبار السلبية" إذ أنها لم توصف علميًا بشكل كامل حتى الآن. هذه الظاهرة ظهرت كبيرة مكتملة حادة خلال فترات انتشار الوباء. إذ يرى هؤلاء المصابون بهذه الظاهرة أن الأخبار السلبية كانت فى أول الأمر مزعجة لكن حين لا يكون هناك سواها تبدأ فى إدمانها، وتؤمن إيمانًا كاملاً أنك لا تستطيع حماية نفسك، ولا تملك شيئًا تفعله لحماية العالم، أنت فقط مطالب بأن تعرف، يبدأ عقلك فى التعامل معها كمسلسل حزين لكنك أحد أبطاله العاجزين عن تغيير مساره. تعد هذه الظاهرة من الظواهر التى تخدم وسائل الإعلام لكن يرى علماء النفس أنها لا تخدم المتلقين فى كل الأحوال لأن إدمان العالم القاتم قد يكون أحد وسائل الدفاع عن النفس ضده فى عدد من المتلازمات البشرية، إلا أن استمراره لفترات طويلة قد يضر بالإنسان ضررًا بالغًا.فأنت حين تقيم فى غرفة مظلمة فترة طويلة لن يجديك حبها نفعًا لمدى طويل فى أن تعيش حياة جميلة.
لا بد أن نعترف أن العالم يعيش فى فيلم أحداثه مرعبة منذ فترة، الوباء والاحتباس الحرارى والأعاصير والزلازل المدمرة، أدخلنا هذا فى طبيعة عالمنا المختلفة جدًا، بدأ كل منا يتفاعل بطريقته. لكن الشيء الذى لا يمكن إنكاره هو تفوق الشخصية على الخبر. لا أدل على ذلك من قوة تأثير المؤثرين على مواقع التواصل الاجتماعى بشكل يدهشهم قبل أن يدهش أى حد. ويجعلهم دون أن يخرجوا من بيوتهم كما قالت الأميرة ديانا ذات يوم "لا أحتاج كى يحبنى الناس إلى أن ابتسم وأرفع يدى ملوحة فقط". لكن حركة سير الإعلام فى المجتمع حين تكثر مصادره بشكل يفوق قدرة المتلقى على متابعتها جميعًا لم تخدم الإعلام أبدًا عبر التاريخ، بل جعلت نهاية أحد أدواته شيئًا لم يلتفت له أحد كثيرًا. ومع الوقت يعزف الناس عن كثير من المصادر، ثم يفقد الثقة فى معظمها. وهو ما عبر عنه بشكل ما الرجل الذى طالب بغلق شاشة العرض داخل المقهى فى بداية المقال.