ذكرت مجلة "فورين بوليسي" الأمريكية أن الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" يستخدم تكتيكات سوفيتية قديمة في التعامل مع الغرب، من بينها "الابتزاز النووي"، وذلك للضغط على الغرب بشأن تصعيد الحرب في أوكرانيا.
وأوضحت المجلة أنه في يونيو 2016، حذر بوتين من "وابل متزايد من الهجمات المعلوماتية ضد روسيا"، وهي واحدة من المرات العديدة التي اتهم فيها الكرملين الغرب بالانخراط في ألعاب عقلية نفسية، غير أن الواقع يشير إلى أن الغرب يخضع لعمليات تأثير مدروسة (ألعاب عقلية ونفسية) ينفذها الكرملين.
ومن بين هذه الأساليب، كان التكتيك الأكثر فعالية الذي استخدمه بوتين وهو الابتزاز النووي، حيث استخدمه مرارا وتكرارا لردع الغرب عن زيادة المساعدات العسكرية لأوكرانيا، أو توفير أنواع جديدة من الأسلحة، أو الدعم الكامل لانتصار كييف على موسكو.
وتعكس هذه التكتيكات – وفقا للمجلة الأمريكية- الأسلوب السوفييتي القديم المتمثل في السيطرة الانعكاسية، والذي يشير إلى شن حملة متواصلة لتغذية الخصم بمعلومات تم تصميمها لدفعه (الخصم) إلى التصرف، وبمحض إرادته، لمصلحة الكرملين. وفي سياق الحرب التي تخوضها روسيا في أوكرانيا، يدرك بوتن أنه لا شيء يضغط على الغرب أفضل من التهديد بالتصعيد النووي.
وترى "فورين بوليسي" أن بوتين اعتمد على المخاوف الغربية من التصعيد النووي، وذلك للتلاعب بأنصار أوكرانيا في واشنطن وبرلين والعواصم الغربية الأخرى. وكانت النتيجة الردع الذاتي خوفا من دفع بوتين إلى أبعد مما ينبغي (استخدام السلاح النووي). وقد سمحت إدارة الرئيس الأمريكي "جو بايدن"، على وجه الخصوص، بأن يلعب بوتين بهذه الطريقة، حيث حدت من المساعدات العسكرية، ووضعت قيودا صارمة على كيفية استخدام أوكرانيا لأسلحة معينة، وأرجأت الإذن المطلوب لمختلف حلفاء الناتو لإعادة تصدير الأسلحة أمريكية الصنع إلى أوكرانيا. وتؤكد المجلة أنه إذا كانت الولايات المتحدة وحلفاؤها يريدون حقا أن تفوز أوكرانيا في هذه الحرب، فقد حان الوقت لكشف "تلاعب" الكرملين.
وأشارت المجلة إلى أن روسيا بدأت لعبة التصعيد النووي بمجرد بدء حرب أوكرانيا في فبراير 2022. وكتحذير للغرب من الوقوف في طريقها، وضعت روسيا قوتها النووية في حالة تأهب قصوى. وفي سبتمبر 2022، حذر بوتين الغرب بشأن ضرورة أن يأخذ تهديداته المتعلقة بالأسلحة النووية على محمل الجد. وبعد بضعة أسابيع، ذكَّر الرئيس الأمريكي جو بايدن الأمريكيين بأن العالم يواجه "هرمجدون" (نهاية العالم) نووية محتملة، ما دفع وسائل الإعلام الغربية إلى أن تقفز على السيناريوهات المروعة لحرب عالمية ثالثة. وخوفا من التصعيد، رفضت إدارة بايدن إرسال أسلحة مختلفة إلى أوكرانيا، بما في ذلك الصواريخ طويلة المدى.
ولفتت المجلة إلى أن الخطاب النووي لموسكو يهدف إلى السيطرة على عناوين الأخبار الغربية، وإثارة الخوف، وخلق ضغوط سياسية على القادة الغربيين، منوهة إلى أن الكرملين يرى أن تكتيكه نجح. فعلى سبيل المثال، في شهر يونيو الماضي، أكد رئيس بيلاروسيا ألكسندر لوكاشينكو (المؤيد لبوتين) علنا أن روسيا كانت تنقل رؤوسا نووية تكتيكية إلى بلاده؛ وفي الأسبوع التالي، حذر بايدن من أن هذا يشكل تهديدا حقيقيا لاستخدام بوتين للأسلحة النووية في الحرب. ومطلع الشهر الجاري فقط، أعلنت روسيا أنها وضعت نظام الصواريخ النووية المتقدم (سارمات) في "المهمة القتالية"، محذرة أعداء موسكو من أن هذه المنظومة ستجعلهم "يفكرون مرتين".
ويدرك بوتين تمام الإدراك أن ذكرى الحرب الباردة والتهديد الدائم بالحرب النووية لا يزال في أذهان الناس، وأن أي حديث عن هجوم نووي يؤدي تلقائيا إلى إطلاق سيناريو "هرمجدون" في الذاكرة. ولذلك، فإن مساعديه لا يشعرون بالملل مطلقا من الضغط على زر الخوف النووي.
وبالتالي، فإن اللغة الخطابية الروسية –وفقا للمجلة الأمريكية- تستحضر صور الحرب العالمية الثالثة، عبر التهديد باستخدام الأسلحة النووية التكتيكية الروسية في أوكرانيا، واتهام كييف بالتخطيط لتفجير مفاعل نووي (في حين أن روسيا هي في الواقع المسؤولة عن أزمة مفاعل زابوريجيا النووي). وكل هذا يهدف إلى السيطرة على عناوين الأخبار الغربية، وبث الخوف، وخلق ضغوط سياسية على الزعماء الغربيين، الذين يعتقدون أنهم يتفاعلون بعقلانية مع النتائج الحقيقية المحتملة. وبالتالي، فإن رسائل الكرملين تؤثر بشكل غير محسوس على التفكير الغربي وتفرض عليهم قرارات هي في النهاية تدعم أهداف موسكو.
ورغم أن التهديدات النووية الروسية تثير انزعاج العديد من صناع السياسات في الغرب، فإن رئيس الاستخبارات العسكرية الأوكرانية، كيريلو بودانوف، يعتقد أن روسيا تخادع. وربما كان على حق. ويتجلى ذلك في نص مكتوب على موقع وزارة الدفاع الروسية مفاده: "حرب المعلومات هي المواجهة بين دولتين أو أكثر في الفضاء المعلوماتي… تلاعب نفسي هائل بالسكان لزعزعة استقرار الدولة والمجتمع، وكذلك إجبار الدولة (الطرف الثاني) على اتخاذ قرارات لصالح الدولة (روسيا)".
وبطبيعة الحال، لا نعرف ما الذي يرغب بوتين في القيام به. إلا أن مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية "وليام بيرنز" يرى أن "اليأس المحتمل" قد يدفع بوتين إلى إصدار أمر باستخدام الأسلحة النووية التكتيكية. لكن الواقع يشير إلى عكس ذلك، حيث إنه في غياب النصر الصريح، فإن استراتيجية بوتين الرئيسية تتمثل في الدخول في حرب طويلة الأمد، إما لاستنفاد رغبة الغرب وقدرته على دعم أوكرانيا أو انتظار انتخابات الرئاسة الأمريكية وغيرها من الانتخابات لتفرز زعيما أكثر ودية لروسيا. كما أن أن الصين والهند -وهما شريكان مهمان تعتمد عليهما روسيا- قد حذرتا بوتين بالفعل من استخدام الأسلحة النووية. وأخيرا، من المرجح أن يمتد الإشعاع في أوكرانيا (حال استخدام الأسلحة النووية) إلى روسيا نظرا للمسافات القصيرة والرياح السائدة في المنطقة.
وتؤكد "فورين بوليسي" أن المسألة النووية في حسابات الكرملين لا تتعلق بالواقع الاستراتيجي، بل تتعلق بالنجاح في التلاعب بالغرب. فعندما سأل أحد الصحفيين وزيرة الدفاع الفرنسية آنذاك، فلورنس بارلي، عما إذا كان من الواجب إرسال جيش بلادها للدفاع عن أوكرانيا، كان ردها: "هل تريد حربا نووية؟" وقالت وزيرة الخارجية الألمانية، أنالينا بيربوك، إن ألمانيا تأخذ تهديدات بوتين النووية "على محمل الجد، وأي شيء آخر سيكون تافها". وحذر المستشار الألماني، أولاف شولز، الذي دافع عن إحجام ألمانيا المستمر عن تزويد أوكرانيا بأسلحة أفضل، من أنه "يجب ألا تكون هناك حرب نووية". وشدد وزير الدفاع الإيطالي، جيدو كروسيتو، على أن روسيا قد تلجأ إلى الأسلحة النووية "إذا تجاوزت نقطة اللاعودة، وإذا كانت تواجه خطر الهزيمة".
وتلعب شخصيات عامة بارزة أخرى –وفقا للمجلة- دورا في تلاعب الكرملين أيضا، حيث حذر المرشح الرئاسي الأمريكي، روبرت إف كينيدي جونيور، من أننا "الآن على حافة حرب نووية"، في حين قال الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترمب - الذي وصف بوتين بأنه "عبقري" و"ذكي" لغزو أوكرانيا- "أولا الدبابات، ثم تأتي الأسلحة النووية بعد ذلك". وزعمت النائبة الأمريكية السابقة، تولسي جابارد، أن بايدن يدفع نحو حرب نووية وشيكة "من شأنها أن تدمر العالم الذي نعرفه".
وشددت "فورين بوليسي" على أنه قد حان الوقت لواشنطن لأن تدرك حقيقة "ألاعيب بوتين"، وتتوقف عن تضخيم المخاوف التي تزرعها موسكو عمدا، معتبرة أن الخطوة الأولى تتمثل في تغيير لغة الخطاب المستخدمة حاليا، وذلك بالتأكيد على أنه إذا استخدمت روسيا الأسلحة النووية، فإنها "سوف تصبح منبوذة في العالم أكثر من أي وقت مضى"، وستتعرض "لعواقب كارثية"، وبدلا من تضخيم رسائل الكرملين بسيناريوهات "هرمجدون"، يجب أن يدور الحديث حول ما قد يحدث إذا استخدمها بوتين، وأن إحدى العواقب الانتقامية غير النووية المحتملة هي تدمير أسطول البحر الأسود التابع للبحرية الروسية.
كما ترى المجلة أن معظم الحكومات الغربية تفتقد بذل جهد استراتيجي شامل لمعالجة عمليات النفوذ الروسية وغيرها من وسائل التلاعب، وأن إحدى الخطوات السريعة التي يجب اتخاذها لمعالجة هذا القصور هي أن يصدر بايدن أمرا تنفيذيا يطالب كل مسؤول أمريكي بالالتزام برد على مستوى الحكومة لمواجهة الحرب النفسية وحرب المعلومات الموجهة إلى الولايات المتحدة. وهذا من شأنه أن يؤدي إلى زيادة الوعي بهذه العمليات، وتقليل فعاليتها، وتوجيه المزيد من الموارد نحو معالجة المشكلة.
ويجب على بايدن أيضا تعيين إدارة أو وكالة لتنسيق العمليات المعلوماتية الخاصة بالولايات المتحدة، بهدف مواجهة رسائل الخصوم، وضمان تنسيق هذه العمليات بين مختلف أجزاء الحكومة. ويجب على مجلس الأمن القومي الأمريكي، الذي يعتمد على الإدارات والوكالات الرئيسية، تعزيز وتنسيق الجهود المماثلة بين حلفاء الولايات المتحدة وشركائها.
بالإضافة إلى ذلك، يمكن لبايدن الاستعانة بالكونجرس لتوسيع نطاق وموارد مركز المشاركة العالمية الأمريكي، المعني بتعزيز جهود التصدي للمعلومات المضللة ورصد واكتشاف وفهم الدعاية الأجنبية. كما أنه في ضوء قلة الرغبة في واشنطن لإعادة إنشاء وكالة المعلومات الأمريكية، التي ساعدت في مواجهة الدعاية السوفييتية خلال الحرب الباردة، فإن توسيع مهمة مركز المشاركة العالمية لتشمل العمليات الهجومية في مجال المعلومات من شأنه أن يساعد في بناء القدرة على الصمود ضد عمليات النفوذ الأجنبي وتعزيز الأمن القومي الأمريكي.
وأخيرا، لا ينبغي للغرب أن يقع فريسة للألعاب النفسية التي تمارسها روسيا. لقد حان الوقت لكي تتوقف إدارة بايدن عن التصرف بالطريقة التي خطط لها بوتين. فمنذ نهاية الحرب الباردة، تدهور استخدام واشنطن للعمليات المعلوماتية وسط التركيز على القوة الصارمة. وفي الوقت نفسه، حققت روسيا نجاحات كبيرة من خلال الحرب النفسية. لقد حان الوقت لكي يفهم صناع السياسة كيف تتلاعب روسيا بعمليات صنع القرار في الغرب، وأن يردوا على ذلك بكل قوة.