عندما نتذكر مسرحيات "رحلة حنظلة"، و"الأميرة تنتظر"، و"ناس النهر"، و"الطوق والأسورة"، و"رجل القلعة"، و"ليل الجنوب"، و"الساعة الأخيرة"، و"أحدب نوتردام" فنحن أمام تجربة إخراجية استطاعت أن تحفر اسمها بين كبار المخرجين على جدران المسرح العربي، فقد اهتم مشروعه المسرحي بالاشتغال على التراث والتاريخ ومسرحة الرواية، إنه المخرج ناصر عبدالمنعم، أحد أهم رواد المسرح في الوطن العربي.
أخرج عبد المنعم أكثر من 50 مسرحية، جعلته ينال العديد من الجوائز والتكريمات، كان من بينها: جائزة الدولة للتفوق في الفنون عام 2008، وأفضل مخرج من مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي عن عرض "الطوق والأسورة" عام 1996، وأفضل مخرج بالمهرجان القومي للمسرح المصري 2006 عن "رجل القلعة"، وجائزة الدكتور سلطان محمد القاسمي لأفضل عرض عربي "الطوق والأسورة" 2018، وجائزة أفضل عرض متكامل من أيام قرطاج المسرحية 2019، وغيرها من الجوائز، إلى جانب تكريمه من المهرجان القومي للمسرح المصري 2022 وغيرها.
مثّل مصر في العديد من المهرجانات المسرحية الدولية والعربية، إلى جانب مشاركته في لجان تحكيم عدد من المهرجانات والمسابقات والجوائز المسرحية المحلية، والعربية، والدولية.
التقت «البوابة نيوز» المخرج ناصر عبد المنعم، للحديث عن تكريمه، وتجربته الإخراجية، ومشاريعه الفنية المقبلة، إلى نص الحوار....
* كيف تلقيت خبر تكريم مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي؟ وماذا يُمثل هذا التكريم بالنسبة لك؟
- لقد تلقيت هذا الخبر بسعادة وفرح كبير، لأنه واحد من أهم التكريمات التي تلقيتها في حياتي، خاصة أنه من مهرجان بدأت معه أول دورة، بل وأعتبر نفسي من الجيل الذي تكوّن وتأسس مع المهرجان التجريبي منذ بدايته عام 1988، فهذا التكريم يُمثل قيمة كبيرة في الحقيقة، ودائما إحساس التكريم يعبر عن أنك لم تكن تحرث في البحر، وأن أعمالك كان لها أثر ما، فهذا الأثر يتحقق بفعل هذا التكريم، فالبتالي أنا سعيد جدا بهذا التكريم من مهرجان عريق ومتميز له مكانته الكبيرة على المستويين الإقليمي، والدولي.
* للمسرح المدرسي أثر كبير في تكوين شخصيتك الفنية حدثنا عن ذلك.
- في الحقيقة أعتبر نفسي من الجيل المحظوظ، الذي نشأ وترعرع على خشبة المسرح، فالمسرح المدرسي موجود بقوة وتألق، وكان هناك فريق تمثيل بالمدرسة الابتدائية في العجوزة، قدمنا من خلاله مجموعة متنوعة من العروض المسرحية لكن على خشبة مسرح المدرسة القومية سنويا، وذلك نظرًا لضيق مساحة مدرسة العجوزة، فهذه المرحلة الابتدائية لم يكن هناك فهم ووعي أكثر بأهمية المسرح وضرورته بالنسبة لي.
وهذا تأكد بعد ذلك خاصة في المرحلة الثانوية، لأن في هذه المرحلة استمر كل محظوظ أن في المدرسة مسرحا، بالإضافة إلى تكوين فريق للتمثيل، فكانت إدارة المدرسة تجلب مخرجين محترفين، وتسهم في إعطاء مميزات كثيرة لممارسي النشاط المسرحي، وبدأت في هذه المرحلة اختيار المسرح، لكن كان الاختيار الأكبر والقيمة الحقيقية تتمثل في المرحلة الجامعية، لأن المسرح الجامعي في كلية الآداب جامعة القاهرة، ومنتخب جامعة القاهرة في فترة مهمة جدا في أواخر السبعينيات، كان هناك نوع من التأسيس، وحرصت إدارة الجامعة على اختيار مخرجين محترفين، فقد أخرج لنا الفنان محمد صبحي، والأستاذ شاكر عبد اللطيف، والأستاذ فهمي الخولي، والدكتور سامي صلاح، والدكتور حسن عبدالحميد، وغيرهم، إلى جانب نخبة من الأساتذة المحترفين الذين كانوا سببا رئيسيا في تكوين شخصيتنا وتأسيسنا.
* من وجهة نظرك كأحد أضلاع المهرجان.. بعد 30 دورة من عمر مهرجان المسرح التجريبي على أي خطى يسير؟
- المهرجان عبر 30 دورة ليست على مدار ثلاثين عاما متتالية، نظرا لأنه توقف فترة بفعل ظروف خارجة عن الإرادة أكثر من مرة، لكن عندما يتوقف المهرجان يعود مرة أخرى ويكتسب قوته وقيمته المهمة جدا في المنطقة، باعتباره يمثل نافذة لشباب المسرحيين المصريين والعرب على المشهد المسرحي الدولي، لأن في الفترات الأولى من المهرجان كان التواصل مع التجارب المسرحية العالمية لن تأتي لأي شاب مسرحي مصري أو عربي إلا إذا سافر خارج بلده، والتعرف على نوعيات وتيارات مختلفة من المسرح، وهذا كان من الصعب توفيره لمعظم شباب المسرحيين، وبالتالي جلب المهرجان التجريبي هذه التجارب وأسهم في الانفتاح على أحدث التيارات والاتجاهات الموجودة في المسرح، وهذه كانت من أهم المميزات في بدايات المهرجان.
وقد واجه المهرجان عدة عقبات كثيرة، لكنه تخطى هذه المعوقات منها: حرب الخليج، وثورة 25 يناير، لكنه استطاع العودة والاستمرار مرة أخرى، فالمهرجان مثله مثل أي مهرجان عتيق يحتاج دائما إلى التفكير في تطويره ووضع لمسات مغايرة عن اللمسات السائدة أو الذي استمر عليها لسنوات طويلة، وأرى أن 30 دورة مساحة جيدة لتأمل مسيرة المهرجان والعمل على تطويره، فلم أستطع تحديد ملامح أو شكل لهذا التطوير، لأنه لا بد أن يكون هناك حوار مسرحي واسع، خاصة أن التطوير هو سنة الحياة، ويعطي دفعات قوية للفعاليات الثقافية والفنية، فالمهرجان التجريبي في الحاجة دائما إلى المساءلة، والتطوير، والتجويد، والبحث عن أفضل صورة يمكن الخروج بها.
* هل نحن بحاجة إلى عودة كلمة المعاصر للمهرجان مرة أخرى لتناول تجارب مسرحية معاصرة؟
- تغير اسم مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي إلى مهرجان القاهرة الدولي للمسرح المعاصر والتجريبي كانت رغبة لعودته بعد ثورة 25 يناير 2011، ولم يحمل نفس صيغته القديمة، وهذا كان بدافع واقتراح من الدكتور الراحل جابر عصفور وزير الثقافة الأسبق، رحمة الله عليه، الذي طالب إذا عاد المهرجان بعد توقفه يعود بهذه الصيغة الجديدة، وفي الحقيقة لا أوافق على عودة اسم "المعاصر" للمهرجان مرة أخرى، وأن يصبح المعاصر والتجريبي من الأساس، لكن في هذا الوقت أحسست أننا أمام خيارين إما مهرجان مع تغيير اسمه أو لا مهرجان، فكانت الرغبة في استمرار المهرجان، خاصة بعد توقفه 3 سنوات تامة بسبب الأحداث التي مرت بها البلاد.
فكانت الموافقة على كلمة "المعاصر" وإضافتها للتجريبي حفاظا للمهرجان على أمل أنه مع الوقت يسترد المهرجان اسمه الحقيقي الأول الذي بدأ به، وبالفعل تحقق هذا، وفي رأي كان مسارا أفضل من أن لم يكن هناك مهرجان على الإطلاق، فقد كافحت لجنة المسرح بالمجلس الأعلى للثقافة في ذلك الوقت، والتي شرفت بكوني أحد أعضائها، من أجل عودة المهرجان وهذا ما وضعنا أمام هذين الخيارين وهما تغير اسمه لإضافة كلمة المعاصر أو لا مهرجان من الأساس، وبالطبع كان اختيار المعاصر، ثم عاد لاسمه الأول مرة أخرى في الأعوام السابقة، فأنا أفضل الاسم الذي بدأ به في البداية بدون كلمة معاصر، والمعروف به في المشهد المسرحي الدولي والعربي وهو "مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي".
* ما الذي يدفعك إلى تقديم التاريخ على خشبة المسرح والاهتمام بالموروث الشعبي؟
- منذ فترة ويشغلني تاريخان، الأول التاريخ الرسمي الموجود بالكتب الدراسية الرسمية، وعادة يكون تاريخا ترضى عنه الأنظمة الحاكمة وأصحاب القوة والسلطة، أما الثاني فهو التاريخ غير الرسمي الذي لم يلق نفس رواج التاريخ الرسمي، لكنه في منتهى الأهمية أيضًا، وما يشغلني هو التاريخ غير الرسمي البحث عن صفحات مجهولة أو مهمشة أو وقائع يتم طمسها ومحاولة الإفلات منها، فكل ذلك محاولة لتصدي عمل تاريخي يكون هناك في شيء مغاير عن التاريخ المُلقن والمعروف عبر المناهج الدراسية والكتب الرسمية.
أما الاهتمام بالموروث الشعبي، فمصر غنية بهذا الموروث الضخم، ولديها ثقافة شعبية مميزة ومختلفة، وفلسفة، ورؤية للعالم، فنحن أهملنا لفترات طويلة هذا الموروث الغني، الذي بدوره يعطي للمسرح مذاقا وملامح مختلفة، والدخول إلى مناطق لم يتم التطرق لها من قبل.
* الجمهور بمثابة الضلع الثالث في العملية المسرحية وبدونه لا يكتب لأي عمل مسرحي النجاح.. حدثنا عن ذلك.
- المسرح هو فن الحضور المباشر، وهو ما يميزه ويعطيه سحره عن باقي الفنون، لأنه ليس مسرحا مُعلبا، بل اتصالًا حميميًا في زمان ومكان واحد مع الجمهور؛ فالجمهور ضلع أساسي في العملية المسرحية وبدونه لم يكن هناك مسرح، وبدون الجمهور ينتفي شرط المسرح، كما يعد شرطا أساسيا من شروط الدراما والعمل المسرحي، فبالتالي يتدخل تفاعله سلبا أو إيجابا مع العمل المسرحي بقوة ويؤثر تأثيرًا كبيرًا على العملية المسرحية.
* ماذا عن أهمية المسرح المدرسي وتأثيره على الطفل؟
- المسرح هو لغة حوار ووجهات نظر متباينة، لأن الدراما في أساسها تقوم على الصراع وتعدد وجهات النظر، فالمسرح يُعلم السماحة، ووجهات النظر المختلفة، قد تتفق مع ما تقتنع به أو تختلف، وبالتالي يسهم في خلق نوع من السماحة الكبيرة وتقبل الآخر ويلغي فكرة التشدد، فالطفل الذي يمارس المسرح يبتعد تماما عن التشدد، والأفكار المتطورة، ويمتلك قدرا كبيرل من السماحة، حتى يصبح متذوقا أو مبدعا، وفي تلك الحالتين فهو مكسب للمجتمع ككل.
*هل الورش التدريبية لفن الإخراج المسرحي تغني عن دراسة علوم الإخراج الأكاديمية؟
- تُعد الورش التدريبية في منتهى الأهمية، لكن لا تغني عن دراسة علوم الإخراج الأكاديمية، فهذه الورش محددة المدة وفي زمن قصير يتم فيها تكثيف المناهج ونظريات الإخراج، فإذا كان هناك جانب عملي، يتم تنفيذه في نطاق ضيق؛ إنما الدراسة الأكاديمية تأخذ امتدادا زمنيا كبيرا يقتل علوم الإخراج بحثًا، فالورش التدريبية والدراسة الأكاديمية في منتهى الأهمية، لا يغني أحدهما منها عن الآخر، فهما وجهان لعملة واحدة.
*هناك عدد كبير من المؤلفين المصريين والأجانب من مختلف الأجيال، لكن من هو الكاتب الذي تتمنى تقديم نص من نصوصه المسرحية؟ ولماذا؟
- في الحقيقة أتمنى تقديم نص مسرحي للكاتب الإنجليزي بيتر شافر، والكاتب المصري محمود دياب، والكاتب السوري سعدالله ونوس، لأن هؤلاء الكُتَّاب الثلاثة يجمعهم النفاذ لقضايا وموضوعات تمس جوهر الإنسان من حيث عتباته وصراعاته الداخلية، هذا بالإضافة إلى لغاتهم الحوارية الراقية وتمتعهم بقدر كبير من الثقافة ووجهات النظر تجاه العالم وما يدور به من أحداث، فأتمنى التوفيق في تقديم أعمال لهم خلال الفترة المقبلة.
* كيف ترى التجارب المسرحية الشابة في الوقت الراهن؟
- من خلال المشاهدة أو المشاركة في بعض لجان التحكيم سواء في الثقافة الجماهيرية أو في الجامعات أو فعاليات وزارة الشباب والرياضة، فقد شاهدت تجارب في منتهى الأهمية وأخرى متوسطة وضعيفة شأن كل التجارب المسرحية، لكن الحقيقة هناك تجارب متميزة تنبئ وتفصح عن جيل جديد من الكُتَاب، والمُمثلين، ومهندسي الديكور، والمخرجين، ومن مختلف العاملين في عناصر العرض المسرحي المختلفة، وهذا شيء مُبشّر، كما شاهدت أيضًا خلال العامين الماضيين أكثر من تجربة متميزة سواء في جامعة عين شمس أو مركز الهناجر للفنون أو مسرح نهاد صليحة بأكاديمية الفنون، الذي يعد رئة ونافذة جديدة تطل علينا منها تجارب مسرحية شبابية مهمة، فالتجارب المسرحية الشابة تعد بمثابة الأمل المعقود، ومستقبل المسرح المصري الحقيقي، والنهضة به والعمل على تطويره والإمضاء به لأفق أرحب.
* من هم المخرجون الشباب الذي ترى فيهم نفس منهجك؟
- هناك مجموعة متنوعة من الشباب المُتميزين الواعدين، وكانت عروضهم لافتة جدا في السنوات الأخيرة، ومن بين هؤلاء المخرجين الشباب: "محمد الحضري، ومحمد عادل، وصلاح إيهاب، ومايكل مجدي، ومحمود جراتسي، وزياد هاني كمال، ويوسف مراد منير" وغيرهم، فهم نماذج مبشرة، ولكل منهم بصمته وعروضه الخاصة، ويسهمون في تشكيل ملامح ومستقبل جيد للمسرح المصري، بغض النظر عن اقترابهم من مشروعي الفني، لكن لكل شخصية استقلاليتها، وهمومها، ومشروعها الخاص.
* بعد تجربة "صانع البهجة" ما المشروع الفني الذي تعمل عليه الآن؟ وما القضية التي تشغلك وتريد تقديمها على خشبة المسرح؟
- أعكف حاليًا على قضية أتمنى التوفيق في تقديمها، فهي لها بُعد تاريخي، وتدور أحداثها في العام 1923، لكن كان يغلفها حراك اجتماعي، وسياسي، وهو عرض أقرب للوثائقية، أتمنى تقديمه قريبا، هذا بالإضافة إلى مشروع الكاتب المسرحي الإنجليزي بيتر شافر، والذي يتمثل في مسرحية "أماديوس" التي تتناول العلاقة بين ساليري، وموتسارت، فهو موضوع في غاية الأهمية.