بعد إعلان قرار قمة مجموعة البريكس دعوة مصر وخمس دول أخرى هى السعودية والإمارات وإيران وإثيوبيا والأرجنتين لقبول عضوية المجموعة اعتبارا من أول يناير المقبل، أقامت وسائل الإعلام احتفالا كبيرا، ابتهاجا بانضمام مصر للمجموعة التى تضم دولا نامية، تهدف إلى إقامة نظام عالمى جديد متعدد الأطراف، للدفاع عن مصالحها وحقوقها، فى مواجهة نظام تحاول الولايات المتحدة فرضه فرضا على العالم. ومن حق مصر أن تحتفل وأن تبتهج، لأن اختيارها يعكس مكانتها الجيوستراتيجية والتاريخية فى العالم. كما يعكس تشابك مصالح سوق حجمها يصل إلى ١٢٠ مليون شخص (بإضافة السائحين واللاجئين) مع أسواق دول البريكس، خصوصا الصين وروسيا والسعودية والإمارات. غير أن الاحتفال والابتهاج لا يجب أن يكون مناسبة للتهرب من المسئوليات. ذلك أن تصبح مصر عضوا فى تجمع من هذا النوع يلقى مسئولية كبيرة على عاتقها، وأن تكون من أصحاب «الأيدى العليا» الممدودة بالعطاء، وليس «الأيدى السفلى» التى تطلب المساعدات. الاحتفال، كى يكون متوازنا، فإنه يجب أن يشمل ما يمكن أن تقدمه البريكس لمصر من مقدرات القوة، ولا عيب فى ذلك. وكذلك ما يمكن أن تضيفه مصر إلى البريكس، وهو ما يجعل العلاقة بين الطرفين علاقة صحية مستدامة.
المثير للغرابة أن بعض الطبول دقت فعلا ترحيبا بالخير القادم من الانضمام لبريكس، على منوال دق الطبول للخير المقبل بصحبة «الأشقاء العرب»، والخير المقبل من «الحفر» فى أعماق الأرض والبحار بحثا عن كنوزها المدفونة، أيا كانت وفى أى صورة من آثار الأجداد إلى عطايا الجوّاد مثل الغاز والبترول والذهب والمعادن النادرة. وبشرنا المبشرون بانخفاض أسعار السلع الاستهلاكية فعلا ووفرتها فى الأسواق، وانتهاء شحة الدولار وانخفاض أسعاره فى السوق الموازية، وزيادة فرص العمل، وسقوط أمطار الرخاء! ومع ذلك فربما يغفر الله لهم إذا كانت النوايا طيبة، تهدف إلى إسعاد الناس وفك كربهم. وقال بعض الوزراء والمسئولين إن الطريق قد أصبح ممهدا لزيارة الاستثمارات، وأن وزاراتهم تستعد لفرد السجادة الحمراء لآلاف المستثمرين، الذين بدأوا فى إعداد حقائب أموالهم للهبوط بها على مصر، سعيا للاستثمار فى خيراتها. وقد صدقوا فى جانب أن مصر مليئة بالخيرات، لكن ما عدا ذلك يحتاج إلى الكثير من التدقيق. وهناك مؤشرات لا تخطئها العين، فى العلاقات بين دول البريكس الجديدة والقديمة، التى ترتبط مصر معها باتفاقيات تعاون اقتصادى من كل الأشكال والألوان.
التبادل التجارى مع دول البريكس
ضمن هذه المؤشرات على سبيل المثال؛ فإن التجارة بين مصر ودول البريكس قبل التوسيع، تظهر خللا هائلا فى العلاقات بين الطرفين. واستنادا إلى أرقام التجارة الدولية، فإن صادرات دول البريكس إلى مصر عام ٢٠٢١ بلغت ٢٨.٦ مليار دولار، استحوذت الصين وحدها على نسبة ٦٣٪ منها بقيمة ١٨.١ مليار دولار. وجاءت صادرات روسيا فى المركز الثانى بنسبة ١٧.٥٪، ثم صادرات الهند بنسبة ١١.٦٪، تليها البرازيل بنسبة ٧.٣٪، فى حين كانت صادرات جنوب إفريقيا تتذيل القائمة بنسبة هزيلة بلغت ٠.٤٪. وفى المقابل فقد بلغت صادرات مصر إلى دول المجموعة فى العام نفسه حوالى ٥ مليارات دولار فقط، اتجه أكثر من نصفها (٢.٥١ مليار دولار) إلى الهند فقط عن طريق تصدير النفط الخام. وبذلك فإن الميزان التجارى بين مصر ودول البريكس سجل عجزا فى العام المذكور بقيمة ٢٣.٥ مليار دولار، بما يعادل ٧٠٪ تقريبا من قيمة التجارة المشتركة. وفى حالة الصين فإن العجز بلغ حوالى ١٧ مليار دولار فى عام واحد، بنسبة ١٥٥٥٪ تقريبا من قيمة صادرات مصر إلى الصين!
وطبقا لأحدث الأرقام الدولية المتاحة فإن قيمة التجارة المشتركة هبطت فى الأشهر الأولى من العام الحالى، بسبب شحة الدولار، والقيود الإدارية المفروضة على المبادلات التجارية بين مصر والعالم، لغرض توفير الدولار، غير المتاح رسميا إلا بالطرق الإدارية. على سبيل المثال فإن التجارة المتبادلة بين الصين ومصر فى شهر مايو الماضى تراجعت بسبب انخفاض صادرات الصين لمصر إلى ١.١٤ مليار دولار، مقابل ١.٢٣ مليار دولار فى الشهر المقابل من العام الماضى، بانخفاض ٨٥.٦ مليون دولار بنسبة ٧٪ تقريبا. لكن وارداتها من مصر فى الشهر نفسه قفزت بحوالى ٥٠ مليون دولار بنسبة تصل إلى ٦١٪ لتصل إلى ١٣٢ مليون دولار مقابل ٨٢ مليونا فى الشهر المقابل من العام نفسه. ويعود انخفاض التجارة أساسا إلى هبوط صادرات الصين. وعلى المنوال نفسه تراجعت مصر مع مجموعة البريكس بشكل عام، مع وجود عجز تجارى ضخم مع دول البريكس كمجموعة.
هذه المؤشرات تخبرنا بأن هيكل الإنتاج السلعى فى مصر يعانى من ضعف هيكلى شديد، يتطلب أولا رفع مستوى الإنتاج السلعى بشكل عام وتنويعه، بدلا من الاعتماد الشديد على صادرات البترول والغاز والفواكه والبرتقال والسلع الزراعية. ومن المعروف أن صادرات السلع المصرية غير النفطية تحصل على دعم كبير على حساب الموازنة العامة للدولة. ونحن نعلم أن إجمالى صادرات السلع الزراعية فى السنة المالية الأخيرة تقل عن قيمة استيراد القمح من الخارج. وباستثناء الزراعة فإن تجديد هيكل الإنتاج الصناعى، بإضافة مشروعات جديدة يحتاج إلى ما يتراوح بين ٣ إلى ٥ سنوات من أجل تحقيق توازن مالى بين النفقات والإيرادات فى المشروعات الجديدة، ثم الانتقال إلى مرحلة تحقيق الأرباح. ومن أجل أن يصبح القطاع الصناعى قادرا على التصدير فى الأسواق الخارجية فإنه يجب أن يعمل أولا على كسب معركة المنافسة فى السوق المحلية، ورفع مستوى المواصفات الصناعية ليتمكن من دخول الأسواق العالمية والمنافسة فيها، وهو ما يحتاج إلى استثمارات كبيرة فى مجالات تكنولوجيا الإنتاج وإدارة الاقتصاد.
الاستثمار الأجنبى فى الصناعة
ومن الملاحظ أيضا أن قطاعات الإنتاج العينى، وعلى رأسها الزراعة والصناعة لم تحقق تحولا يذكر على طريق زيادة القدرة على التنافسية، سواء فى السوق المحلية أو فى الأسواق الخارجية. وقد اتجهت نسبة قليلة جدا من هذه الاستثمارات إلى قطاعات الإنتاج الصناعى، تركزت بصورة أساسية فى قطاع الصناعات الغذائية. وتشهد مصر فى الوقت الحاضر إقبالا على دراسة فرص الاستثمار فى مناطق التنمية الجديدة، خصوصا المنطقة الاقتصادية لقناة السويس. وتشارك الصين والهند وروسيا فى عروض التنمية الصناعية فى المنطقة الاقتصادية، من خلال مشروعات واعدة فى قطاعات صناعات السيارات والكيماويات والملابس والطاقة الخضراء. لكن الفترة بين البدء فى تنفيذ الاستثمارات الأجنبية والحصول على عائد منها يتوقف على السياسات الاقتصادية للدولة المضيفة للاستثمار. وفى حالات كثيرة قد يتعطل تنفيذ المشروعات أو لا يتم البدء فيها من الأصل، وهو ما حدث لاستثمارات بعض دول «البريكس» ومنها روسيا فى المنطقة الصناعية فى مدينة برج العرب. لكن جدية العمل فى مشروعات المنطقة الاقتصادية لقناة السويس تبشر بتوفير أفضل الظروف الممكنة لتطوير الاستثمارات المعلنة، التى تتميز بارتفاع نسبة الصادرات المتوقعة.
هذا يعنى أن المساعدات الخارجية والاستثمارات الأجنبية المباشرة مهمة، سواء فى إطار مجموعة البريكس أو غيرها لكنها لا تكفى لتحقيق الانتقال الاقتصادى المطلوب فى مصر بدون إرادة محلية أولا، وقدرة على اللحاق بالعالم. وتحتاج الاستثمارات الأجنبية إلى سياسات اقتصادية ملائمة، وأنظمة إدارة واضحة لتسهيل معاملات المستثمرين مع أجهزة الدولة المختلفة، ومرونة مرتفعة وشفافية فى النظام المصرفى، بما يساعد المستثمرين على إنجاز أعمالهم بسرعة وبدون تعقيدات، وإدارة أنشطتهم الاقتصادية والمالية وفقا لقواعد التعامل المتعارف عليها دوليا. ويجب أن نتذكر أن مصر لديها علاقات تاريخية واسعة مع دول البريكس الأساسية والجديدة التى ستنضم إليها اعتبارا من يناير المقبل. كما تربطها بمعظمها اتفاقيات تجارية تعزز فرص التعاون الاقتصادى والتجارى والمالى والاستثمارات المشتركة. لكن سنوات طويلة مرت، وسنوات طويلة يمكن أن تمر بدون نتائج تذكر، ما لم تتبنى الحكومة وقطاعات الأعمال المحلية، نهجا قويا للتعامل يدا بيد مع المستثمرين الأجانب، وحكومات دول البريكس وغيرها، من الآن.
ونظرا لأن تفاقم أزمة المديونية المحلية والخارجية تمثل أكبر إخفاقات الحكومات المتتالية فى مصر منذ الحصول على قرض كبير بقيمة ١٢ مليار دولار من صندوق النقد الدولى عام ٢٠١٦، فإن من الضرورى الانتباه إلى تجاوز الدين الخارجى للحكومة ١٦٥ مليار دولار، أى تضاعف اربع مرات خلال أقل من ٧ سنوات. مما يعنى زيادة قيمة خدمة الدين الخارجى والدين العام المحلى. وتقتطع خدمة الدين الحكومى سنويا ما يصل إلى ١٨٪ من الناتج المحلى الإجمالى، يتم تحويلها للدائنين. ونظرا للمستوى المنخفض جدا للادخار المحلى، فإن الاقتصاد يعجز عن توفير موارد كافية لتنفيذ استثمارات محلية ضرورية أو الدخول فى شراكات اقتصادية مع رأس المال الأجنبى. هذه الصورة للوضع المالى تثير فزع المستثمر الجاد الراغب فى إقامة استثمارات طويلة المدى، سواء من مجموعة البريكس أو من كوريا الجنوبية أو غيرها. ويجب أن يعلم صانعو السياسة الاقتصادية أن المستثمر طويل الأجل مستثمر ذكى، يهتم أولا وقبل كل شيء بسلامة واستقرار السياسة الاقتصادية فى المدى الطويل. أما الفرص والضربات القصيرة الأجل فإنها لا تأتى إلا بالمضاربين، والمستثمرين فى القطاعات الهامشية والطفيلية.