في عام 1862 كان إدوين سميث، عالم المصريات الأمريكي، يتجول في مدينة الأقصر الواقعة في صعيد مصر، ورغم أنه أقام فيها فترة طويلة، لكن سميث كان على موعد مع الحضارة المصرية التي نذر نفسه لها، والتي دفعت شهرته إلى أقصاها، وجعلت اسمه خالدا في علوم الطب، بعد أن عثر على أشهر برديات الطب المصري القديم.
في تلك الفترة من النصف الثاني من القرن التاسع عشر، عرض تاجر مصري اسمه «مصطفى أغا» البردية- التي كان يجهل محتوياتها- للبيع، فاشتراها إدوين سميث الذي كان أول من كشف الصفة الطبية لها، وظلت في حوزته حتى وفاته. وبعد الوفاة، تبرعت بها ابنته لجمعية نيويورك التاريخية.
وفي عام 1930 ترجم الدكتور جيمس هنري برستد البردية، وطبعت أول نسخة مترجمة للإنجليزية. وفي عام 1938 نقلت البردية إلى متحف بروكلين، وفي عام 1948 انتقلت البردية إلى أكاديمية نيويورك للطب، وهي موجودة بها حتى الآن.
وتؤرخ هذه البردية بما يقرب من 1600 ق.م، ولكن من خلال لغتها يتضح أنها تعود إلى حقبة تاريخية أقدم من ذلك، إذ كان كاتبها قد نسخها من وثيقة أقدم عهًدا منها تعود إلى الفترة من 3000- 2500 ق.م؛ كما تعددت الآراء بخصوص كاتب البردية، إذ يرجح برستد أن كاتبها هو «إيمحوتب» وزير الملك «زوسر» من الأسرة الثالثة.
بينما يميل «ساندسن» أن مؤلف هذه البردية شخص يتميز بالخبرة العلمية الكبرى في معالجة الكدمات والجراحة العامة، والأكثر قبولا أنه قد اكتسب خبرته هذه من العمل في مواقع البناء في منطقة الأهرام، وذلك نظًرا لحدوث إصابات أثناء العمل.
ما الذي تضمه البردية؟
وفق ما ذكره الدكتور محمد خميس السيد في دراسته «البرديات الطبية في مصر الفرعونية.. دراسة في علم الكوديكولوجيا»، فقد نُشرت البردية بالإنجليزية مشفوعة بتعليقات طبية للطبيب «أرنو لوكهارد» وكانت تلك الترجمة هي الدليل الأول لكتاب طبي في مصر القديمة.
ويرى «برستيد» أن الجراح ناقش كل حالة من حالات هذه البردية بأسلوب مرتب من حيث المنهج، ولم يعدل عن ذلك إلا في ست حالات، فقد نظم الحالات وفق: عنوان الحالة، الفحص، التشخيص، العلاج إلا في الحالات السيئة، بيانات تفسريية لعبارات طبية غامضة.
تألفت البردية من سبعة عشر عمودًا أفقيا من النصوص على وجه واحد في 377 سطراً، وخمسة أعمدة من النصوص على الظهر في 92 سطراً. وهي مكتوبة من اليمين إلى اليسار بالهيراطيقية، بالحبر الأسود مع التوضيح بالحبر الأحمر.
واهتمت الغالبية العظمى من البردية بالإصابات والجراحة، مع أقسام قصيرة عن أمراض النساء ومستحضرات التجميل في الجزء الخلفي.
وعلى الجانب الأمامي، هناك 48 حالة إصابة، توضح كل حالة نوع الإصابة وفحص المريض والتشخيص والعلاج.
ويتكون الجانب المقابل من ثمانية تعاويذ سحرية وخمس وصفات طبية؛ حيث تعد تعاويذ ذلك الجانب وكل من الحالة 8 والحالة 9 استثناءات للطبيعة العملية لهذا النص الطبي. ربما كان استخدام التعويذات كملاذ أخير في الحالات الصعبة.
وتصف البردية، في اللوحتين 6 و7 الملاحظات التشريحية والجراحة التطبيقية والفحص والتشخيص والعلاج لأزيد من 48 نوعا من الأمراض والمشاكل الطبية بشكل مفصل. من بين العلاجات الموصوفة: إغلاق الجروح مع خياطة الجروح، ومنع العدوى وعلاجها باستخدام العسل والخبز المتعفن.
كما تتحدث البردية عن وقف النزيف باستعمال اللحوم النيئة، وكذلك علاج الشلل من الرأس وإصابات النخاع الشوكي، ومن خلالها نتعرف على الطب المصري القديم. وتذكر البردية كذلك علاج إصابات الرقبة والذراعين والجذع، حيث تفصل الإصابات بترتيب تشريحي تنازلي مثل العرض التشريحي الحديث.
ويوضح عنوان كل حالة طبيعة الصدمة، مثل «التعامل مع فجوة جرح في رأسه، والتي اخترقت العظم وقسمت الجمجمة». حيث تضمنت عملية الفحص الموضوعي أدلة بصرية وشمية، وجسًا وأخذ النبض.
بعد الفحص يتم التشخيص، حيث يحكم الطبيب على فرص بقاء المريض على قيد الحياة ويقوم بإجراء واحد من ثلاثة تشخيصات: «مرض سأعالجه»، «مرض سأواجهه»، أو «مرض لا يمكن علاجه». وأخيرًا، يتم تقديم خيارات العلاج. في العديد من الحالات، يتم تضمين شرح للإصابة لتوفير مزيد من الوضوح.
تشخيص وعلاج
من بين العلاجات المذكورة بالبردية إغلاق الجروح بالغرز لجروح الشفة والحنجرة والكتف؛ وكذلك طرق التضميد، الجبائر، الكمادات، منع وعلاج العدوى بالعسل، ووقف النزيف باللحم النيء. وضمت البردية نصائح بمنع الحركة لإصابات الرأس والحبل الشوكي، بالإضافة إلى كسور الجزء السفلي من الجسم.
كما تضم البردية أيضًا ملاحظات تشريحية وفسيولوجية ومرضية واقعية؛ منها أول أوصاف معروفة للتراكيب القحفية والسحايا والسطح الخارجي للدماغ والسائل الدماغي الشوكي والنبضات داخل الجمجمة. تظهر البردية كذلك الإجراءات التي تشملها البردية مستوى المعرفة المصرية القديمة للأدوية بشكل يتجاوز «أبقراط»، أسطورة الطب الإغريقي الذي عاش بعد 1000 عام من كتابة أوراق البردي هذه. وتوضح البردية، أيضا، المعرفة القديمة بتأثير إصابات الدماغ على أجزاء أخرى من الجسم، مثل الشلل. كما تم تسجيل العلاقة بين موقع الإصابة في الجمجمة وجانب الجسم المصاب، في حين لوحظ أن إصابات سحق الفقرات تضعف الوظائف الحركية والحسية. نظرًا لطبيعتها العملية وأنواع الإصابات التي تمت دراستها فيها.