الانقلاب والمظاهرات فى نيامى وقمة سان بطرسبرج الأفريقية الروسية.. ثلاثة إرهاصات تعلن تقلص نفوذ فرنسا فى إفريقيا واليوم آن الأوان لفهم الأسباب؛ السبب الأول يبرز مع خروج الجيش الفرنسى من معظم منطقة الساحل؛ إذ لم يعد لفرنسا أى قبول لا فى مالى ولا فى بوركينا فاسو ولا فى جمهورية أفريقيا الوسطى ولا فى النيجر حاليا ولم يبق فى الصورة إلا تشاد حتى اللحظة.
ويكشف السبب الثانى للشعب الفرنسى التعس أن فرنسا لم تعد محل ترحيب فى أفريقيا وبتعبير أدق لم يعد للتواجد الرسمى لفرنسا فى أفريقيا من خلال السفارات القبول المرضي.
وهنا أنا أقول فى أفريقيا ولا أقول فى النيجر لأننى مقتنع بذلك وهو أمر من السهل التحقق منه، أن كل أفريقيا الناطقة بالفرنسية تعارض سياسة السفارات والتى تتمثل فى توجيه السفارة الفرنسية الموجودة فى أى دولة للحكومات الافريقية وأنا هنا لا أسجل دهشتى فقط بل فهمى أيضا عندما تناقشت مع مواطن فرنسى من توجو.
أوضح لى أن السلطة هنا ليست للرئيس فور جناسينجبى نجل الرئيس الراحل جناسينجبى إياديما ولكن لسفير فرنسا فى لومي والذى بدونه لايتخذ الرئيس قرارًا هاما. وأضاف: "هل تعتقد أن الشعب التوجولى يمكن أن يتحمل إلى أجل غير مسمى العمل تحت قيادة ديكتاتوريين تعينهم فرنسا؟".
والسبب الثالث أعلنته صحيفة لوفيجارو فى ٢٧ يوليو عندما وصلت إلى ذروتها من حيث التضليل الإعلامى فقد كتبت: "روسيا المعزولة تفتتح المنتدى الاقتصادى الخامس والعشرين فى سان بطرسبرغ"! سبعة عشر ألف مشارك ومائة وثلاثون دولة مثلوا، ونتحدث عن فشل ذريع!!.
وأضيفت القمة الروسية الأفريقية، التى نظمت يومى ٢٧ و٢٨ يوليو ٢٠٢٣، بمشاركة وفود من جميع الدول الأفريقية تقريبًا، بما فى ذلك أربعون زعيمًا أفريقيًا. فشل آخر لروسيا؟!
يمكننا أن نلاحظ على عكس ما ذكرته لوفيجارو أن الأفارقة جاءوا إلى سان بطرسبرج تقديرا للمقاومة المنتصرة لروسيا فى مواجهة الغرب.كما أعربوا عن استيائهم من خضوعهم لإملاءات النموذج الغربي، وهى إملاءات يعلنون صراحة رفضهم اياه مثلما تفعل روسيا فى مواجهة الغرب. ذلك أن المقاومة الروسية تمنحهم الشجاعة للعمل بينما لا يعيرون أى اعتبار للنموذج الأوكرانى الذى هو البديل الغربى الخالص.
من السهل تفهم رفض النموذج الذى اقترحته الدولة الفرنسية فى أفريقيا. يجب أن نبدأ بالاعتراف بأن أفريقيا قد تغيرت منذ الاستقلال. بين عامى ١٩٦٠ و٢٠٢٠، زاد عدد سكان النيجر من ٣ إلى ٢١ مليون نسمة، نصفهم دون سن ١٥ مما يعنى أن ميزان القوى الديموغرافى قد تغير تمامًا بين فرنسا وأفريقيا. وبالتالى ميزان القوى بشكل عام.
وقد أدلت القوى الغربية بتصريحات عفا عليها الزمن. فى مواجهة حماقات محمد بازوم الذى يواجه ثالث انقلاب ضده خلال عامين. والذى على الرغم من أنه يمثل أقلية عرقية متطرفة فى النيجر، لم يتردد فى إثارة غضب جيشه من خلال دعوة القوات الفرنسية والأمريكية والألمانية والإيطالية إلى القدوم والاستقرار على نطاق واسع فى النيجر للقتال ضد المتمردين، وقد طالبت الدول الغربية بشكل مثير للشفقة باحترام سيادة القانون، كما لو كانت مسئولة عن فرضه فى النيجر، بغض النظر عن رأى شعب النيجر. لكن أين حشود النيجر التى تتظاهر فى نيامى من أجل احترام حكم القانون الذى يطالب به الغرب؟
لم يستطع القادة والرأى العام فى الغرب فهم أن التدخل العسكرى والاقتصادى وقبل كل شيء الأخلاقى لهم- بدءًا بتدخلات فرنسا – يثير سخط الرأى العام الأفريقي. وقد ذكر وزير إحدى دول الساحل مؤخرًا إنه إذا أرادت فرنسا أن تجعل مساعداتها التنموية مشروطة بدعم قضية المثليين أو البيئة فلا مجال للمفاجاة إذا تم إحراق السفارات الفرنسية فى أفريقيا.
وماذا عن موسكو؟ يعتمد الأفارقة على النموذج الروسى لمقاومة الغرب لتحرير أنفسهم من نير الغرب وصندوق النقد الدولى واتفاقياته المشروطة، مثل فرنك الاتحاد المالى الأفريقى المتوافق مع اليورو. إنهم يرفضون إطارًا مفروضًا لمنحهم الأموال لكنهم يريدون مفاوضات على قدم المساواة كما يرفضون صراعًا ضد المتمردين الذين هم، حسب رأيهم، إفراز الغرب الذى دمر ليبيا بقتله القذافي.
وهكذا يبدو أن النتيجة غير المتوقعة لفشل الغرب فى زعزعة استقرار روسيا عن طريق الحرب ستكون فقدان النفوذ الغربى والفرنسى على وجه الخصوص فى أفريقيا. إن هذا لا يعنى إضمار الكراهية لفرنسا بقدر ما يعنى كراهية السياسة التى تنتهجها فرنسا.
على سبيل الاستنتاج
لا شك أن العودة إلى أفريقيا تتطلب العودة دون شروط ودون فرض مبادئ وعلى سبيل المثال، أنا متأكد من أنه إذا اقترحت فرنسا ببساطة على النيجر أن تمدها بنسبة ٧٠٪ من الكهرباء اللازمة لها مقابل امداد النيجر لفرنسا بـ٣٠٪، من اليورانيوم الذى تستخدمه محطات الطاقة النووية فى فرنسا، لتمويل وبناء مفاعل نووى صغير فلن ترفض الحكومة النيجيرية ذلك. وداعا يا أفريقيا؟ بتعبير أدق، وداعًا للغطرسة الفرنسية والغربية فى أفريقيا.
معلومات عن الكاتب:
أندريه بوير.. أستاذ جامعى، مهتم بقضايا التنمية البشرية والصحة العامة. يكتب، فى مقاله، عن أفول النفوذ الفرنسى والغربى بشكل عام فى أفريقيا من واقع أحداث متتالية، منها الانقلاب فى النيجر.