الشك قضية وجودية تمس الإنسان بما هو كذلك، وبما هو كائن إجتماعي بطبعه ينفر من حياة العزلة ويسعي دوما إلي العيش في جماعة.
لكن السؤال المهم الذي يطرح نفسه كيف يتوائم ويتوافق مع هذه الجماعة بتوجهاتها الفكرية المختلفة، وبتنوع ثقافاتها، ودياناتها ومعتقداتها؟!
تلك هي المشكلة الوجودية الحقيقية، هل سيستطيع الإنسان تحقيق هذه المعادلة التوافق داخليا مع ذاته وخارجيا مع الآخر، أم سيصاب باليأس والإحباط بمجرد أن يوضع في تجربة واختبار حقيقي؟!
هل سيحقق ذلك عن طريق الشكوك، هل الشك طريق لليقين المعرفي والادراكي، أم سيأخذ مسارا عكسيا بالإنسان، وتحدث القطيعة المعرفية؟!!
وهذا ما لا نصبو إليه أبدا أن تحدث قطيعة معرفية وانغلاق علي الذات، فما الإنسان إلا محاورة مع ذاته، ينطلق منها إلي محاورة الآخرين، وهذا ما يحدث نوع من التواصل المعرفي، فيتحول التفكير من عقل فردي إلي عقل جمعي مهما اختلفت الرؤي والتوجهات، فالفكر ليس له دين ولا وطن.
هل مطلوب من الإنسان أن يمارس الشك ولو حتي مرة واحدة في حياته،
لكن أي نوع من الشك، وهل هذا الشك سيتحول به إلي شك مرضي وداء عضال يصيبه نفسيا وعضويا.
بداية ونحن بصدد الحديث عن الشك، لابد أن نقدم تعريفا للشك Scepticism، كان لهذا المصطلح مفهوم في أصله اليوناني يختلف اختلافا تاما عن مفهوم اليوم.
فمفهوم الشك معناه الفحص بعناية والبحث والتنقيب، وهذا هو روح التفلسف، البحث الجاد والدءؤوب عن الحقيقة بما يمثل تواصلا معرفيا.
إلا أن هذا المعني اختلف علي مر العصور، أصبحت كلمة الشك، تعني ذلك الإنسان الذي يتخذ موقفا معرفيا معينا، وهو يتمثل علي وجه التحديد في موقفه من المعرفة، هل هناك معارف يقينية، أم لا توجد معرفة.
أما صور الشك فهي كثيرة ومتعددة، منها، الشك الكلي، وينقسم إلى قسمين: الشك الكلي في المعرفة وإنكار أي صورة من صور قيامها.
الشك الكلي في الحقيقة. وهذا هو شك السفسطائية الذين أنكروا قيام أي نوع من المعارف وأنه لا يوجد شيئ علي الاطلاق يمكن أن يعلمه الإنسان وحتي إن وجد لا يستطيع أن يتعلمه وحتي إن تعلمه لا يستطيع أن يوصله للآخرين.
ثم الشك التجريبي، وينقسم إلي ثلاثة أقسام، شك في أسس العلم التجريبي، وشك في إمكانية التوصل إلي أقوال عامة في العلم التجريبي وشك في التنبؤات.وشك في الاستنتاجات، فيكون شكا في الاستقراء.
وهذا يعني هدم تام للعلوم التجريبة التي تستخدم الملاحظة والتجربة وتخضع لخطوات البحث العلمي المنظم، وهذا ما يرفضه العلم الحديث وما ترفضه فلسفات العلوم التي أثبتت صحتها وأثبتت بما لا يدع مجالا للشك أهمية العلوم التجريبية والتي وفرت لنا الكثير والكثير من تقنيات العصر وشاهدي علي ذلك العلوم الفيزيائية والجيوفيزيقية، والعلوم الكيميائية، واستخدام الليزر في شتي مجالات الحياة، والاكتشافات العظيمة التي توصل إليها علماؤنا فالفكرة بدأت شكا ثم تحول هذا الشك إلي يقين بالدرس والتعلم والبحث والتنقيب.
أما الصورة الثالثة من صور الشك، فهي الشك الجزئي، وينقسم إلي ثلاثة أيضا، الشك الأخلاقي وهل القيم الخلقية نسبية أم مطلقة، والشك الديني، شك في الدين، ولماذا جعل الله الدين، وشك حتي في وجود الإله وعبر عن ذلك ربنا في قوله (قالت لهم رسلهم أفي الله شك، فاطر السموات والأرض)
وشك في المعني، هل لحياتنا معني، هل لنا هدف نسعي إلي تحقيقه والوصول إليه.
ثم نوعان من الشك، أولهما الشك المذهبي وهو شك من أجل الشك لا يقود إلي يقين معرفي وهذا هو شك السوفسطائية، وقد تصدي لهم سقراط وأفلاطون وأرسطو، وشك البيرونيين، وشكاك الاكاديمية وصغار الشكاك، أنصار الشك المطلق، أصحاب مذهب اللاادري والامساك عن قول أي شيئ أحق هو أم باطل، صواب هو أم خطأ، صدق هذا أم كذب.
وقد قسم المفكرون العرب الشكاك إلي ثلاثة فرق، فرقة العندية، وممثلها بروتاغورس السوفسطائي، وأن الإنسان عنده علم بكل شيئ بل هو مقياس كل شيئ.
وفرقة العنادية، ومثل هؤلاء جورجياس السوفسطائي، وأننا لا ندرك من الأشياء إلي ظواهرها ولانستطيع أن نصل إلي إدراك حقائق الوجود.
أما الفرقة الثالثة، فهي فرقة اللاأدريون، وهم أنصار بيرون الذي ذهب إلي الشك المطلق وأننا لا نستطيع الجزم بحقيقة أي شيئ.
وهذا هو الشك المذهبي الهدام الذي قد يودي بصاحبه إلي التيه والضلال، بل ويجعله يفقد ذاته وهويته وانسانيته ويصبح كالريشة في مهب الريح تتقاذفه الأهواء، وتهوي به في هوة سحيقة لا يستطيع الخروج منها إلا إذا تحرر من قيود وأوهام الشك هذه.
وهذا ما كاد أن يعصف بعلماء أجلاء وفلاسفة ومفكرين وباحثين معاصرين، ألم تتذكروا حوار مع صديقي الملحد، ألم تتذكروا أمامنا الغزالي رحمه الله، أليست الشكوك كادت أن تعصف به لولا أن ادركته عناية الله تعالي، وحولت شكه إلي يقين معرفي، وغيره كثير في واقعنا المعاصر، ألم يتحول الكثير من الباحثين من ممارسة الشك من الإيمان إلي الكفر ومن الكفر إلي الإلحاد، ألم يتحول الشك إلي شك مرضي أصاب كثيرون بالأمراض العقلية والعصبية والنفسية، ألم يتحول الشك المذهبي إلي ظاهرة مرضية أصابة الكثيرون بالوساوس القهرية، كأن يشك في بيته،وأولاده، وبناته، أن يشك الإنسان حتي في نفسه، ليس هذا وحسب بل يشك أنه مراقب ويمشي يلتفت عن يمينه وعن يساره، بل ومن الممكن أن يستوقف الناس في الشارع لماذا تنظرون إلي هكذا.
لكن كيف نتخلص من هذا الشك المرضي ونتخلص من هذه الوساوس القهرية، هل نذهب إلي أطباء نفسانيين للعلاج، إذا تفاقم الأمر وأصبحت مشكلة مرضية لا مندوحة من استشارة طبية.
لكن الرأي عندي، وهذا الرأي يقودنا إلي الشك المنهجي، وهذا الشك هو الشك البناء القويم الناقد الذي نبني عليه من أجل الوصول إلي اليقين، وهذا ما مارسه الإمام الغزالي ومن قبله أرسطو في عرض الإشكاليات الفلسفية أمام العقل وبحثها بحثا عقليا مستفيضا وتوصلوا من خلاله إلي اليقين، وأن ثمة إله مدبر للكون ومسيطر عليه ومدبر له.
ألم يقل الإمام الغزالي قولته المشهورة، من لم يشك لم ينظر ومن لم ينظر لم يبصر ومن لم يبصر بقي في العمي والضلال.
ألم يمارس ديكارت الشك قائلا:للفحص عن الحقيقة يحتاج الإنسان مرة في حياته إلي أن يضع الأشياء جميعا موضع الشك بقدر الإمكان.
إذن الشك المنهجي لا مندوحة عنه، لكن أن يتحول الشك إلي شك مرضي يصيب الإنسان بالحيرة والقلق كما عبر عن ذلك جان بول سارتر عندما قال نحن قلق، هذا ما نرفضه.
واقعنا المعاصر يعج بكثير من الأمور التي تصيب الإنسان بالريبة والشك، نظرا لانتشار النزعات المادية وتغول النفعية، وتدن القيم وانسحاق وجودي فبات الإنسان حتي يشك في أقرب ما لديه فقد يشك في أخيه، في صديقه، في أستاذه، في رئيسه في العمل، حتي يشك في من يسدي إليه صنيعا لماذا هو فعل ذلك، بالضرورة يريد مني شيئا، ولماذا يا سيداتي وسادتي يريد شيئا لماذا لا تحسنوا الظن بمن تتعاملون معهم، بمن تحبونهم، لماذا لا تحسنون الظن بأنفسكم، لماذا لا تحسنون الظن بالله تعالي أن يوفقكم ويهيئ لكم من يقفون خلفكم يدفعونكم أو دفعا لا يريدون منكم جزاء ولا شكورا.
لا تجعلوا الشكوك تتقاذفكم إلي بحار قيعانها مظلمة، وأحسنوا يحسن الله لكم.