سعد زغلول ليس زعيما تقليديا يمكن توقعه وانتظاره، لكنه دفقة من الإلهام والعطاء المباغت تجسد فى مشاعر حب فاقت الحدود.
لا يمثل امتدادا لبطولات قريبة تنتمي إلى العصور القبطية والإسلامية، ذلك أنه ينتمي إلى الجذور البعيدة السابقة للتاريخ القريب
زعامة خارقة توحد المصريين وتعيد إليهم مصريتهم، وبفضل هذه المصرية الصافية الخالصة تتراجع الانتماءات الدينية وما قد يصاحبها من توتر وصراع
الأسرة التي يقدمها توفيق الحكيم في "عودة الروح" هي الشعب المصري متعدد الطبقات في إطار الانتماء الواحد؛ الشعب الذي قد يعرف كثيرا من التمييز والاختلاف بين طبقاته، لكنه لا يعرف الفرقة والتشرذم. المدرس وتلميذ المرحلة الثانوية والظابط وطالب الهندسة والخادم وربة البيت؛ جميعهم بمثابة العائلة المتماسكة التي تعيش في واقع يغلفه البؤس، ويغلب عليه الحرمان الذي لا يزيح الفكاهة والمرح، ولا ينفي الإقبال على الحياة والتشبث بها.
تبدأ أحداث الرواية قبل شهور قليلة من اشتعال ثورة ١٩١٩، لكن أحدا من أفراد "الشعب" لا يبدي اهتماما خاصا بالسياسة، ولا ينشغل بما يقع من أحداث خارج نطاق البيت الشعبي بكل همومه وعواطفه ونثريات إيقاع الحياة اليومية، بل إن الحرب العالمية الأولى، التي تنتهي لتوها بإعلان الهدنة، لا تمثل مادة للحديث والحوار بين أفراد "الشعب"، وغاية ما نجده عنها إشارة عابرة ترد على لسان الخادم مبروك، فإذ يقول له الرئيس الشرفي للأسرة حنفي أفندي:
"- وانت كمان إيش كان عرفك بأكل الإنجليز؟"
يجيب مبروك، وهو "خادم شرف" لا ينفصل عن أفراد الأسرة:
"- أمال إيه!.. مش ابن عمي أخدوه في السلطة أيام الحرب مع الجمال والحمير والأنفار اللي أخدوها؟".
لا مرارة في كلمات مبروك، فكأن "السلطة" لا تمثل عبئا على الفلاحين من أمثال ابن عمه، وكأن اغتصاب الإنجليز للبشر والجمال والحمير لا يعني شيئا!.
هذه اللا مبالاة تؤكد أن أفراد "الشعب" لا يهتمون بالسياسة والقضية الوطنية، ذلك أن جارتهم سنية، التي ترمز إلى مصر على نحو ما، هي همهم المقيم واهتمامهم الأكبر، وعلى الرغم من أن "محسن" يشارك الجميع في الانصراف عن السياسة، فإنه الوحيد الذي يدمن الثقافة ويراود أحلاما فكرية تتجاوز العادي والمألوف من الأحلام. يشير محسن إلى نفسه، وإلى صديقه الحميم عباس، ويقول لرفاقه في المدرسة مفاخرا:
"- بكره إحنا اللي نكون لسان الأمة الناطق!..
ونظر إلى عباس كأنما يزيده تشجيعا وتأكيدا، وأراد أن يستمر، ولكن خطرت له عبارة أبرقت لها أساريره.. عبارة تعتبر لمثله ولمن في سنه ومعلوماته وحيا، فاندفع قائلا:
- عباس!.. وظيفتنا بكره حا تكون التعبير عما في قلب الأمة كلها.. فاهم؟.. يا سلام!.. لو تعرفوا قيمة القدرة على التعبير عما في النفس.. التعبير عما في القلوب؟!".
الأمة الهادئة الساكنة الوديعة ليست خرساء على الرغم من صمتها الطويل وما قد يوحي به من سلبية، وقلب الأمة مسكون بالكثير من الأحلام والتطلعات الغائمة الغامضة، لكن المناخ المستقر الراكد لا يتيح الفرصة للتعبير، ولا يسمح بالتحول الجذري من مقام الصمت إلى انطلاقة البوح.
مع بداية الجزء الثاني من الرواية، تبدأ بوادر التحرر من الانغلاق الذاتي والهموم الشخصية المحدودة إلى آفاق أكثر رحابة وأعظم اتساعا، وفي رحلة القطار الذي يركبه محسن من القاهرة إلى دمنهور، يقدم توفيق الحكيم مشهدا دالا ينبىء عن متانة الوحدة الوطنية بين المسلمين والمسيحيين في مصر، وهي وحدة مهددة ببعض المنغصات وآثار الفتنة وسوء الفهم.
أحد "الأفندية" من الركاب، وهو مسيحي، يوجه نقدا لاذعا لسلوك الأوروبيين الاجتماعي، ويأخذ عليهم الانكفاء الأناني المتطرف على ذواتهم، وينبري شيخ من مستقلي القطار معلقا:
"- بلاد ما فيهاش إسلام!.
فلم يجب الأفندي وتغير لون وجهه قليلا، ومد يده متشاغلا بنفض تراب السفر عن طربوشه، في شيء من الخجل والامتعاض!.
وعندئذ لاحظ أحد الركاب في معصمه علامة الصليب فأيقن أن الشيخ قد فاه عن حسن قصد بكلمة أُسيء فهمها فتدخل مصلحا بلطف:
- قصدك يا سي االشيخ بلاد ما فيهاش قلوب.. مش زي بلدنا سواء أقباط أو مسلمين.. كلنا إخوان..
ولاحظ أيضا راكب آخر ذلك، وكان من المتنورين، فدخل في الحديث وأخذ يستدرك الكلام بكياسة حتى وصل إلى إفهام الحاضرين، أن كلمة "إسلام" الشائع استعمالها وترديدها في مصر بين بعض الأوساط؛ ليس لها في الحقيقة أي صبغة دينية أو طائفية، وإنما معناها ومغزاها عاطفة الرحمة وطيبة القلب وارتباط الأفئدة، عواطف يجدها الإنسان في مصر ولا يجدها في أوروبا، حيث فشا في نفوس الإفرنج سم النفعية، وعم التكالب على المصالح الشخصية الفردية".
المصري المسيحي لا ينسجم مع المسيحيين الأوروبيين ولا تروقه أفعالهم التي يراها مستهجنة تعاني من النشاز، وهو يجد نفسه ويحقق ذاته عندما يتعامل مع مواطنيه المصريين دون نظر إلى انتمائهم الديني. المسألة إذن ليست في العقيدة الدينية، لكنها في الهوية الوطنية التي تخلق الثقافة والقيم والعادات والتقاليد ونمط الحياة الاجتماعية. مثل هذا التآلف الحميم بين المسلم والمسيحي في مصر، قد تهدده كلمة طائشة تصدر بنية حسنة أو عن قصد سيء، ولا مناص من التدخل الشارح للكشف عن خبايا ودلالات بعض المفردات التي يتم تداولها بشكل عفوي، ويمكن استثمارها في إشعال صراع مدمر.
لم تكن الوحدة الوطنية ضائعة مهدرة قبل ثورة سنة ١٩١٩، لكنها كانت مهددة لا تنجو من القلق والتوتر والتوجس. الوطنية المصرية الصافية الخالصة كانت في حاجة إلى مواجهة الاختبار وتجاوز التحدي، فعند المواجهة يظهر المعدن المصري الأصيل وتتلاشى الفروق والاختلافات الطارئة. الانسجام الوطني ليس بالشيء المستغرب في حضارة عريقة مثل الحضارة المصرية، وفي رحلة القطار نفسها يقول الأفندي المسيحي مفاخرا:"أهل مصر شعب أصيل عريق، فين ٨ آلاف سنة وإحنا في وادي النيل!.. وكنا نعرف الزراعة والفلاحة، ولنا قرى ومزارع وفلاحين وقت ما كانت أوروبا لسه ما وصلتش حتى لدرجة التوحش".
قد يوحي الظاهر المادي المباشر بالتخلف، وربما تكشف معاناة المصريين عن تراجع لافت مقارنة بالغرب، حال انصراف المعنى الحضاري إلى الإنجازات المادية ومستوى الإنتاج الاقتصادي والتقدم العلمي، لكن اليقين القابع في أعماق المصريين جميعا أنهم شعب أصيل عريق، وأنهم قادرون على التطور وتجاوز الأزمات المتراكمة المصنوعة بمعرفة الغزاة والوافدين.
في أيام الإجازة التي يقضيها محسن مع أسرته الريفية الثرية، عديد من المشاهد والممارسات التي تكشف عن معاناة الفلاح المصري قبل الثورة. يتعرض لاضطهاد وازدراء كبار الملاك الزراعيين، ويعاني من التفاخر الكاذب الذي يمارسه بدو لا يملكون حضارة أو ثقافة، ويظنون أنهم الأكثر أصالة والأعظم مكانة والأسمى تاريخا. يكابد الفلاح المصري المعدم من مشقة بادية تتجلى في سوء المسكن وقذارة الملبس وتفاهة الطعام، لكن هذه المظاهر جميعا، وهي ترجمة صادقة للواقع البائس ماديا، لا تنفي أن الحضارة كامنة في الأعماق وتنتظر الفرصة للانطلاق والتحقق.
كبار ملاك الأراضي يحتقرون الفلاحين وينظرون إليهم كأنهم جنس أدنى، واستقبال الفلاحات الحافل لأم محسن تقابله جفوة ظاهرة من الأم التركية المتغطرسة المتعالية، وإذ يعاتبها محسن في تأثر يليق برقته ورومانسيته:
"- ليه يا نينة تطرديهم؟.. حرام"
ترد بجفاء وقلة اكتراث:
"- حرام إيه.. دول فلاحين!".
"دول فلاحين"!، بما يصاحب المقولة من جفاء ولا مبالاة، تجسد الفجوة الطبقية الهائلة بين الأقلية التي تملك كل شيء والأغلبية الساحقة الكادحة التي لا تملك شيئا. الاستغلال ليس طبقيا اقتصاديا فحسب، لكنه أيضا قهر عنصري يسلب إنسانية الفلاح ويهبط بشأنه إلى درك سحيق!.
لا تنبع معاناة الفلاحين من معاملة كبار الملاك وحدهم، فهم عرضة لغرور البدو وتفاخرهم الكاذب. يقول محسن للخفير البدوي عبد العاطي، الذي يرفض بإصرار أن تتزوج أخته من فلاح:
"- بقا البدوي أحسن من الفلاح يا عبد العاطي؟
فأجاب الخفير وهو يحدق به مستغربا جهله:
- كيف يا بيه البدوي مثل الفلاح؟!
- إيه الفرق بين الاتنين؟
- كيف يا بيه.. كيف؟.. البدوي أصيل!..
- والفلاح مش أصيل؟..
- الفلاح عبد بن عبد.. إحنا بدو ما نرضى الضيم!"
لا يرقى الفلاحون العاملون الكادحون إلى مرتبة البدو الذين يعيشون متطفلين على هامش العملية الإنتاجية ولا يعرفون حضارة أو تاريخا!، والفارق بينهما من منظور البدوي المتعصب هو "الأصل": الفلاح عبد يرضى بالظلم والاضطهاد، والبدوي حر لا يصبر على الضيم والمهانة. قد يوحي الظاهر السطحي بصدق ما يقوله عبد العاطي، لكن الجوهر المستتر في حاجة إلى ثورة تنعشه وتعيد إليه الروح والقدرة على إعادة الأمور إلى نصابها.
ولأن محسن هو المثقف الحالم الذي يراود فكرة أن يكون لسان الأمة الناطق والمعبر عن قلبها وضميرها، فإنه يتعاطف مع الفلاحين ويمجد حياتهم من منطلق رومانسي متطرف الحماس، يخاصم معطيات الواقع المادي ويحلق في خيالات وأوهام أقرب إلى الشطحات الفنية منها إلى التحليل المنطقي المقنع.
في مقابل رومانسية محسن المفرطة، يظهر عالم الآثار الفرنسي ليمزج بين الموضوعية والرومانسية، ذلك أن تمجيده المثالي لا يخلو من منطق يتكىء على معطيات التاريخ والقراءة الواعية لأعماق الشخصية المصرية التي لا تخلو من الصدأ وليد الإهمال، ولا تنجو أيضا من الآثار السلبية الوخيمة لقرون القهر والكبت.
يقول العالم الفرنسي لزميله مفتش الري الإنجليزي:"إن هذا الشعب الذي تحسبه جاهلا ليعلم أشياء كثيرة، لكنه يعلمها بقلبه لا بعقله!.. إن الحكمة العليا في دمه ولا يعلم!.. والقوة في نفسه ولا يعلم!.. هذا شعب قديم: جىء بفلاح من هؤلاء وأخرج قلبه تجد فيه رواسب عشرة آلاف سنة، من تجارب ومعرفة رسب بعضها فوق بعض وهو لا يدري!".
"علم القلب" على الرغم من "غيبوبة العقل"، والحكمة المتوارثة الدفينة، والقوة الحبيسة في انتظار مثير منبه مفجر يخرج بها من القمقم ليبدأ الطوفان. الفلاحون هم المصريون الحقيقيون، ومصر ليست إلا كتلة فلاحين هالة تختزن ثورة طال عليها الصبر. في اللحظة التاريخية المناسبة، تصدر عن هؤلاء الفلاحين أفعال خارقة تشبه المعجزات. متى وكيف تأتي مثل هذه اللحظة؟
هذا هو السؤال!.
العالم الأثري الفرنسي لا يقرأ غيبا، لكنه يطالع تاريخا يمكن دمجه مع الواقع والارتفاع به إلى مرحلة النبوءة-النذير، وتتألق كلماته التي تحذر دولة الاحتلال من الثقة المفرطة في استقرار أبدي لا يعرف التغيير:"احترسوا من هذا الشعب، فهو يخفي قوة نفسية هائلة!".
متى وكيف تنطلق هذه القوة؟!، وما الذي يحتاجه الفلاحون المصريون لإعادة رسم وتشكيل الخريطة الظالمة؟. كيف تشتعل الثورة يبدأ الانقلاب الذي يراهن السطحيون على أنه لن يقع أبدا؟!.الإجابة يقدمها الفرنسي المولع بمصر والمصريين:
"- أجل يا مستر بلاك!.. لا تستهن بهذا الشعب المسكين اليوم، إن القوة كامنة فيه، ولا ينقصه إلا شيء واحد!.
- ما هو؟..
- المعبود!.
فنظر الإنجليزي إليه نظرة لا يدري: أمعناها الاستيضاح أم الموافقة!..
فأجابه الفرنسي بعد هنيهة:
- نعم ينقصه ذلك الرجل منه الذي تتمثل فيه كل عواطفه وأمانيه ويكون له رمز الغاية.. عند ذاك، لا تعجب لهذا الشعب المتماسك المتجانس المستعذب، والمستعد للتضحية، إذا أتي بمعجزة أخرى غير الأهرام!".
المعبود-الزعيم هو ما يحتاجه المصريون لينفضوا عن كاهلهم عبء الصبر الطويل على ما لا يرضونه من المظالم، والمعبود المستهدف ليس بعثا وإعادة إنتاج للوثنية القديمة، لكنه "رمز" يلتف حوله الجميع ويسيرون وراءه ويراهنون من خلاله على الغاية والمثل. لن تصل اللوحة إلى تمامها ومنتهاها إلا بعد بزوغ الرمز والمفتاح، فمثل هذا الزعيم المنتظر هو القادر على قيادة جموع تملك في أعماقها الحضارة والحلم، وتجهل الاتجاه والطريق.
وكأنما بلا سابق إنذار، تشتعل الثورة وتصح نبوءة الفرنسي البصير. تنهض مصر بعد استغراقها في سبات طويل، وتولد زعامة سعد زغلول التي تتمثل فيها كل العواطف والأماني:
"لقد صدق نظر الأثري الفرنسي..
أمة أتت في فجر الإنسانية بمعجزة الأهرام لن تعجز عن الإتيان بمعجزة أخرى.. أو معجزات!.. أمة يزعمون أنها ميتة منذ قرون، ولا يرون قلبها العظيم بارزا نحو السماء من بين رمال الجيزة!.. لقد صنعت مصر قلبها بيدها ليعيش الأبد..!
لعل هذا الأثري الذي يحيا في الماضي كان يرى مستقبل مصر أكثر من أي إنسان!.
ربيع مصر
في شهر مارس.. مبدأ الربيع.. فصل الخلق والبعث والحياة.. اخضرت الأشجار بورق جديد وحبلت وحملت أغصانها الأثمار!..
وكذلك مصر أيضا.. قد حبلت وحملت في بطنها مولودا هائلا.. وها هي مصر التي نامت قرونا تنهض على أقدامها في يوم واحد.. إنها كانت تنتظر -كما قال الفرنسي- تنتظر ابنها المعبود رمز آلامها وآمالها المدفونة يُبعث من جديد.. وبُعث هذا المعبود من صلب الفلاح!".
معجزة الأهرام تتكرر من جديد، فليست الثورة الشعبية الخارقة إلا معجزة غير مسبوقة في التاريخ المصري، والأمة المتهمة بالموات تنهض في عنفوان حي يذهل الجميع، ويبدأ عصر الاخضرار والإشراق والأمل.
الثورة من صناعة الشعب الظامئ للتمرد والخلاص، والقيادة والبطولة من نصيب زعيم هو مزيج من الابن المولود والأب الخالق. سعد زغلول ابن مصر المولود وأبوها المعبود، وهو رمز مضيء لبعث الآمال المدفونة، والأهم من ذلك كله أنه ينتمي إلى الفلاحين، ورسالته السامية أن يعيدهم إلى الصدارة ويزيل عكارة طالت حتى أوشكت أن ترسخ صورة نمطية كاذبة عن السلبية المزمنة والرضا بالهوان.
لا ينشغل الحكيم كثيرا بمقدمات الثورة وتفاصيل ما يسبقها من أحداث، فالثورة تبزغ "فجأة" كأنها هابطة من سماء الحلم، والانتفاضة الشعبية العارمة لا تحظى بالكثير من اهتمام الروائي، ذلك أن التركيز الأكبر ينصب على الزعيم-الرمز الذي يقود البعث:"كان الجميع يتحدثون عن رجل لم يسمع به محسن من قبل، ولكنه أحس في لحظة أن حياته يجب أن تُعطى لهذا الرجل".
لم يكن سعد زغلول قبل الثورة مشهورا معروفا على نطاق واسع، ولعل أحدا لا يعرفه إلا القلة من المهتمين بالسياسة، وهي قلة لا تعبر عن "الشعب" المختزل في أسرة محسن الشعبية، وبفضل هذا الغموض النسبي تكتمل "فنية" الزعامة الرمزية التي يؤمن بها الحكيم ويتشوق إليها.
إن سعد زغلول ليس زعيما تقليديا يمكن توقعه وانتظاره، لكنه دفقة من الإلهام والعطاء المباغت. رد فعل محسن، الذي ينوب عن الغالبية العظمى من المصريين، يتجسد في مشاعر حب تفوق الحدود. رجل غير معروف، لكنه يتحول "فجأة" إلى المعنى الوحيد في حياة ينتظرها تغيير جذري شامل:"ما غابت شمس ذلك النهار حتى أمست مصر كتلة من نار، وإذا أربعة شر مليونا من الأنفس لا تفكر إلا في شيء واحد: الرجل الذي يعبر عن إحساسها.. والذي نهض يطالب بحقها في الحرية والحياة؛ قد اُخذ، وسُجن، ونُفي في جزيرة وسط البحار!!.
كذلك "أوزوريس" الذي نزل يصلح أرض مصر ويعطيها الحياة والنور، اُخذ وسُجن في صندوق، ونُفي مقطعا إربا في أعماق البحار!".
حول "هذا الرجل" تتجمع كل المشاعر والأحاسيس، فهو الرمز المنتظر لتحقيق أحلام الحرية والحياة، وهو "الطبعة العصرية" من "أوزوريس" الذي تحيط به قوى الشر وتحرم المصريين من خيره العميم. سعد زغلول لا يمثل امتدادا لبطولات قريبة تنتمي إلى العصور القبطية والإسلامية، ذلك أنه ينتمي إلى الجذور البعيدة السابقة للتاريخ القريب. زعامة خارقة توحد المصريين وتعيد إليهم مصريتهم، وبفضل هذه المصرية الصافية الخالصة تتراجع الانتماءات الدينية وما قد يصاحبها من توتر وصراع:"كان الناظر إلى القاهرة وشوارعها أثناء ذلك الوقت يرى منظرا عجيبا.. في وسط المظاهرات والهتافات.. كانت ترفرف الأعلام المصرية وقد رُسم فيها الهلال يحتضن الصليب!.. ذلك أن مصر أدركت في لحظة أن الهلال والصليب ذراعان في جسد واحد له قلب واحد: مصر!!".
إذا كانت الرواية تبدأ بـ "الشعب" مريضا متماسكا، فإنها تنتهي به سجينا متماسكا بلا مرض. أفراد الأسرة الواحدة ينتظرون الخروج والعبور إلى عالم جديد؛ عالم تشرق فيه زعامة قادرة على قيادتهم لتحقيق أحلام الحرية والاستقلال والتخلص من الظلام والمظالم.
العاديون من الناس الذين يشعلون الثورة ويضحون من أجلها، قد لا ينالون الثمرة المشتهاة، والذين لم يشاركوا ولم يدفعوا الثمن هم المؤهلون للإفادة وجني الثمار. مصطفى، بلا تضحيات، يتهيأ للزواج من سنية والاستحواذ عليها:"العقد والتأهيل يوم تهدأ الحالة، بإعادة المنفيّ العظيم إلى مصر الوالهة!.
وهكذا.. قد يتفق يوم خروج محسن ورفاقه من السجن مع يوم زفاف سنية إلى مصطفى!".
هل يظفر الأغنياء الوارثون بمصر التي يضحي من أجلها الفقراء؟، وهل يعود الزعيم من المنفى ليعتمد العقد ويوافق على التأهيل؟.
الزواج لم يتم بعد، والانتظار قائم، والأمر رهين بسعد زغلول الذي يغيب اسمه عن الرواية!.
يسيطر سعد على الفصلين الأخيرين من فصول "عودة الروح"، لكن أحدا لا يذكر اسمه، فكأنه سر مقدس يسمو عن الاقتران بغيره من الأسماء العادية التي لا ترقى إلى مكانته السامية في قدس الأقداس!.
ابن معبود من صلب االفلاحين، ورجل لم يُسمع عنه من قبل، يعبر عن إحساس وأحلام الملايين. المنفيّ في جزيرة وسط البحار، شبيه أوزوريس ووريثه المتربع فوق عرش القلوب، صانع بطولات المصريين الخارقة والمسئول عن تضحياتهم غير المسبوقة، مفجر المشاعر النبيلة التي تغيب طويلا؛ كل هذه السمات بمعزل عن اسم الزعيم!.
ينتقل محسن من سنية إلى سعد، ويتم الانتقال بلا إشارة إلى الاسم المقدس:"استحالت كل عواطف التضحية التي كان مستعدا لبذلها في سبيل معبود قلبه، إلى عواطف تضحية جريئة من أجل معبود وطنه".
لم يكن محسن في لحظات وجده قادرا على النطق باسم معبودة قلبه، فكيف له أن يتلفظ باسم معبود الوطن؟!