الأحد 22 ديسمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

ملفات خاصة

مصطفى بيومى يكتب: مصطفى النحاس يتربع منفردًا فوق القمة

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

«العملاق» و«جمهورية زفتى» و«طائر العنق» و«مصر الجديدة».. أبرز المسلسلات التى قدمت الزعيمين سعد زغلول ومصطفى النحاس

كان للنحاس إنجازاته وشعبيته الطاغية التي تصمد للمقارنة بشعبية سعد زغلول بل تتفوق عليه عند بعض الوفديين

 

مصطفي النحاس باشا

يقدم نجيب محفوظ موجزا لتاريخ حياة مصطفى النحاس، من خلال الشهادة التي يدلي بها في مطلع محاكمته "أمام العرش": "ولدت في سمنود في أسرة من أبناء الشعب الفقراء، وبفضل اجتهادي أتممت تعليمي، ولتفوقي عُينت في القضاء فعُرفت بالعدل والنزاهة، وكنت من أنصار الحزب الوطني الذي زاملت رئيسه طالبا بالمدرسة الخديوية، وعند تأليف الوفد برياسة سعد زغلول اختارني عضوا فيه، ونُفيت معه إلى سيشل عام ١٩٢١، واشتركت في وزارته الشعبية الثورية.
وعقب وفاته أُنتخبت رئيسا للوفد، وحملت عبء الجهاد في سبيل الاستقلال والحياة الديمقراطية ربع قرن من الزمان، وقد توليت الوزارة سبع مرات وأُقلت منها ست مرات لخلافات مع الإنجليز أو الملك، وفي ١٩٣٦ وتحت ضغط التهديد بحرب عالمية قبلت الائتلاف مع الأحزاب وعقدنا معاهدة مع الإنجليز اعترفت باستقلال مصر ووعدت بالجلاء بعد عشرين عاما.
وقامت الحرب العالمية في فترة حكم استبدادي ملكي، وأُتهم الملك بالاتصال بأعداء الإنجليز فنشبت أزمة سياسية خطيرة وفكر الإنجليز في خلع الملك، وتقدمت لإنقاذ البلاد والعرش وألفت وزارة في ظروف عسيرة، ولما انتهت الحرب بانتصار الإنجليز شرعت في المطالبة بالجلاء الفوري ولكن الملك أقالني.
ورجع الملك إلى استبداده وسارت الأمور من سيئ إلى أسوأ حتى اضطر إلى الموافقة على استفتاء الشعب عام ١٩٥٠ فرجعت إلى الوزارة، وفاوضت الإنجليز من أجل الجلاء، ولما لم أجد منهم استجابة ألغيت المعاهدة وأعلنت الجلاء فتآمر عليّ أعدائي في الداخل والخارج واستطاع الملك أن يتخلص مني. وقامت ثورة يوليو واضطررت إلى اعتزال السياسة حتى وافاني الأجل".
منذ ميلاده في سمنود، إلى قيام ثورة يوليو والاعتزال الإجباري للعمل السياسي، تتشعب حياة النحاس الحافلة في عالم نجيب محفوظ بحيث لا يمكن الإحاطة بها إلا عبر ثلاثة محاور: الأول في ظل زعامة سعد زغلول، والثاني منذ صعوده إلى الزعامة حتى يوليو ١٩٥٢، أما المحور الثالث فمنذ قيام الثورة إلى رحيله في أغسطس ١٩٦٥.
إذا كانت المرحلتان الأولى والثالثة تتسمان بالتواجد الهامشي الضئيل، فإن المرحلة الثانية من الاتساع والثراء بحيث يلزم تقسيمها إلى عدة عناصر: الصراع ضد الملك وأحزاب الأقلية، معاهدة ١٩٣٦، قضية الانشقاقات عن الوفد، حادث ٤ فبراير، حكومة الوفد الأخيرة، إنجازات النحاس، شعبيته ومكانته عند الوفديين مقارنة بزعامة سعد زغلول.

الطريق إلى الزعامة
على الرغم من إشارة النحاس، في شهادته "أمام العرش"، إلى أنه كان من أنصار الحزب الوطني قبل ثورة ١٩١٩، فإن الموقع الذي يحتله لم يكن كافيا ليُعد من الرموز والزعماء البارزين في الحزب.
يُنفى النحاس مع سعد إلى جزيرة سيشل عام ١٩٢١، ويشترك في الوزارة الشعبية الأولى، ١٩٢٤، لكنه لا يحتل موقعا بارزا، في عالم نجيب، قبل وفاة سعد.
ثمة إشارة عابرة في اقتراح محمد عفت على أصدقائه، في "قصر الشوق"، أن يشربوا كأسا في صحة سعد زغلول والنحاس:"اللذين سيسافران في نهاية الشهر من باريس إلى لندن للمفاوضة".
الوفد المسافر للتفاوض يضم أسماء كثيرة بطبيعة الحال، لكن الاكتفاء بالصحبة الثنائية، دون اهتمام بالآخرين، يوحي بأن النحاس هو الخليفة المنتظر.
وفي جنازة الوفدي الكبير العلوي باشا في قصة "صباح الورد"، يشهد الشارع جنازة مهيبة يسير في مقدمتها "سعد زغلول ومصطفى النحاس ومكرم عبيد وماهر والنقراشي".
في الترتيب دلالة موحية بمكانة النحاس، الذي يأتي اسمه بعد سعد زغلول مباشرة.
لا غرابة في هامشية وجود النحاس في عالم نجيب محفوظ خلال المرحلة المواكبة لثورة ١٩١٩ وما بعدها، ذلك أن الاهتمام كله ينصب على سعد، ولا يتغير الأمر إلا بعد رحيل الزعيم الأسطوري وصعود النحاس إلى مقعد القيادة.
من أغسطس ١٩٢٧، تاريخ وفاة سعد زغلول، إلى قيام ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢، كان مصطفى النحاس زعيم الأمة بلا منافس، وصاحب الوجود المؤثر الفعال في الحياة السياسية المصرية، ومن ثم في عالم نجيب الذي يعبر عن هذه الحياة وينفعل بها ويتفاعل معها.
عبر ربع قرن، يخوض النحاس صراعا ضاريا ضد الملك وأحزاب الأقلية والسياسيين الانقلابيين المعادين للإرادة الشعبية، ويوقع معاهدة ١٩٣٦ قبل أن يلغيها، ويشهد الوفد تحت زعامته انشقاقين كبيرين يفقد فيهما الحزب عددا من قياداته التاريخية، وتقع حادثة ٤ فبراير ١٩٤٢ بكل ما يترتب عليها من تداعيات وآثار، ولم تكن وزارته الأخيرة، التي تسقط بعد حريق القاهرة، إلا التمهيد لسقوط النظام كله.
خلال هذه الفترة الطويلة، كان للنحاس إنجازاته وشعبيته الطاغية التي تصمد للمقارنة بشعبية سعد زغلول، بل تتفوق عليه عند بعض الوفديين، ويتعرض أيضا للنقد اللاذع والسخرية والهجوم القاسي.

الملك فاروق مع مصطفي النحاس باشا


الصراع مع الملك والأقليات
لعل أفضل ما يعبر عن العلاقة دائمة التوتر بين الوفد وزعيمه من ناحية والملك من ناحية أخرى، هو ما يقوله أحد السكارى من أفراد شلة ياسين عبد الجواد في "السكرية":"الجالس على العرش -أيا كان اسمه- هو عدو للوفد بحكم مركزه، كالويسكي والحلوى لا يتفقان".
صياغة شعبية بسيطة مرحة لحقيقة موضوعية يقولها السياسي الوفدي المحترف عيسى الدباغ في "السمان والخريف":"الملك عدونا التقليدي".
بفعل هذا التناقض والعداء الدائم، تبدو إقالة النحاس من رئاسة الوزراء "عادة" ملكية تتكرر الإشارة إليها كثيرا في عالم نجيب محفوظ.
في "قشتمر"، تتصدع وزارة الائتلاف قرب نهاية العشرينيات:"وألف محمد محمود الوزارة، فأوقف الدستور، وقام الصراع بين الوفد بزعامة النحاس من ناحية، وبين الملك ومحمد محمود من ناحية أخرى".
مرة أخرى، في "المرايا"، يشير نجيب إلى الانقلاب نفسه:"كان الملك فؤاد قد أقال مصطفى النحاس وعهد بالوزارة إلى محمد محمود، فأعلن هذا تأجيل العمل بالدستور ثلاث سنوات قابلة للتجديد".
أما الإقالة التالية لانشقاق السعديين، وهي الإقالة الأولى بعد معاهدة ١٩٣٦، فيصفها الوفدي رياض قلدس في "السكرية" بأنها هزيمة للشعب:"في نضاله التاريخي مع السراي".
والوفدي إسماعيل قدري، في "قشتمر"، هو الأكثر عنفا وغضبا بعد الإقالة:"وسخط على الملك فاروق في خلافه مع الوفد، ولم يغفر له إقالته "الوقحة" للنحاس أبدا".
ويصل الأمر بنجيب محفوظ، في الرواية نفسها، إلى "التأريخ" بإقالة النحاس:"وفي تلك الأيام توفي صفوان أفندي النادي والد صادق، ودُفن يوم إقالة النحاس من الوزارة".
ولم تكن الإقالات هي السلاح الانقلابي الملكي الوحيد لمحاربة النحاس، فثمة قضايا تُلفق ضده مثل قضية الأمير سيف الدين، في "المرايا" التي يُقدم إلى المحاكمة بسببها:"فبرأته المحكمة العليا".
وترصد "السكرية" تزوير الانتخابات بشكل علني فاضح سافر، يدعو إلى السخرية، فمن يصدق سقوط النحاس في دائرته؟. يقول كمال عبد الجواد مستنكرا:"انتخابات مزورة، كل شخص في البلد يعلم بأنها مزورة، ومع ذلك يُعترف بها رسميا وتُحكم بها البلاد".
ذروة التآمر تتمثل في محاولات الاغتيال المتكررة التي يتعرض لها زعيم الوفد، فالراوي في "المرايا" يعتقد أن الضابط قدري رزق قليل الاهتمام بالسياسة والشأن العام، ثم يكتشف خطأ ما يعتقده:"ولولا محاولة بُذلت لاغتيال مصطفى النحاس ما فطنت إلى أنه ينطوي على ميول وفدية".
يأتي رد الفعل الشعبي في صورة غضب عارم يطول الملك وزعماء أحزاب الأقلية المتواطئين معه، وليس أبلغ في التعبير عن الاحتقار الشديد الذي يكنه الشعب لرموز الأقلية، فضلا عن الشتائم القاسية والاتهام بالخيانة، من الاستهجان الدائم لأي خلط بين النحاس وغيره من الانقلابيين مثل محمد محمود وإسماعيل صدقي.
طاهر عبيد، في "قشتمر"، يبدو سلبيا استثنائيا في حياده بين النحاس ومحمد محمود، وتبدو كلماته نشازا مستهجنا في اللحن الوفدي العام لأفراد شلة الأصدقاء:"فليحل القضية من يحلها، إن لم يكن مصطفى النحاس فليكن محمد محمود".
مثل هذه المساواة لا وجود لها عند الآخرين، ويتجلى ذلك بوضوح في اتهام صادق صفوان لزوجه بالجهل، على الرغم من أن تعليمها يفوق تعليمه، والدليل عنده على جهلها أنها لا تميز بين النحاس وإسماعيل صدقي:"إنها متعلمة ولكنها ضيقة الأفق، لا ثقافة لها، وجاهلة بالشئون العامة، لا تعرف الفرق بين النحاس وصدقي".
والدليل الأكبر على سلبية ولا مبالاة الطالب المتفوق محمود درويش، في "المرايا"، أنه:"لم يكن يفرق بين مصطفى النحاس وإسماعيل صدقي"!.
وفي "بداية ونهاية"، يقول واحد من ركاب القطار الذي يستقل حسين كامل إلى طنطا، في دهشة تمتزج بالاستنكار والغضب:"لولا الطلبة ما ائتلف الزعماء، من كان يتصور أن يجلس صدقي مع النحاس على مائدة واحدة؟!".
جلوسهما معا يوحي بالمساواة التي يستنكرها، في الرواية نفسها، حسان حسان حسان، الذي تتعرض عائلته للكثير من الأذى على يد صدقي، لكنه يجد صدقي محسوبا على الوطنيين:"وقد خطب أول هذا العام في مستقبليه بدسوق فبلغهم تحيات "زعيمي النحاس".
مصطفى النحاس يتربع منفردا فوق القمة، ورموز الأقلية في القاع، ومن هنا تتحول المقارنة والمقاربة بينهم وبين النحاس إلى "جريمة" لا تقبل الدفاع والتبرير عند الوفديين.
لا يقتصر الأمر على إدانة الجماهير الوفدية لهؤلاء الانقلابيين، ذلك أن الحزب وزعيمه وجماهيره العريضة يقاومون بكل المتاح لهم من أسلحة، ومن ذلك ما تقدمه"السكرية" عن وقائع المؤتمر الوفدي الحاشد الذي يشارك فيه كمال عبد الجواد: "ووقف الزعيم وراح يلقي خطابه. ألقاه بصوت رنان وبيان نافذ فاستغرق إلقاؤه ساعتين، ثم ختمه جاهرا في عنف سافر بالدعوة إلى الثورة. وبلغ الحماس من القوم مداه فوقفوا على المقاعد، وجعلوا يهتفون بحماس جنوني".
يتصاعد العداء الشعبي للملك، في "المرايا"، إذ تتردد الهتافات العدائية للسراي دفاعا عن النحاس وتأييدا له:"ونشرت جريدة "التيمز" أن مظاهرة في أسوان هتفت لمصطفى النحاس رئيسا للجمهورية".
معاهدة ١٩٣٦
يشير نجيب محفوظ، على لسان النحاس في "أمام العرش"، إلى أنه في ١٩٣٦، يوقع معاهدة مع الإنجليز في ظروف دولية حرجة، قبيل اشتعال الحرب العالمية الثانية، ولم تكن المعاهدة إلا التعبير العملي عن أقصى ما يمكن تحقيقه في إطار الإمكانات المتاحة، وحال النظر إليها من هذه الزاوية يمكن وضعها في السياق الصحيح.
واحد من المحايدين غير السياسيين، وكيل النيابة فؤاد جميل الحمزاوي في "السكرية"، يقول لصديقه كمال عبد الجواد:"الزواج معاهدة كالتي وقعها النحاس بالأمس، مساومة وتقدير ودهاء وبعد نظر وفوائد وخسائر".
روح الدعابة لا تنفي موضوعية التقييم، وهو ما يعبر عنه فؤاد نفسه بصياغة جادة قائلا:"للمعاهدة أعداء مخلصون وآخرون غير مخلصين، فإذا تأملنا الظروف التي تحيط بنا، وذكرنا أن شعبنا صبر على عهد صدقي ومرارته دون أن يثور عليه، فينبغي أن نعد المعاهدة خطوة موفقة، أزالت التحفظات ومهدت الطريق لإلغاء الامتيازات الأجنبية، وحددت مدة الاحتلال بعد قصره على مناطق معينة، إنها خطوة عظيمة بلا شك".
لا متسع عند فؤاد للإسراف الانفعالي العاطفي غير المحسوب، وهو يشير بحسه القانوني المتوازن إلى وجود أعداء مخلصين للمعاهدة، دون تحديد، لكن الوفدي المتحمس رضا عزت، في الرواية نفسها، وهو من ينشق مع السعديين بعد ذلك، يرى أن الذين ينتقدون المعاهدة غير مخلصين:"إنها الكراهية والحسد. إن الاستقلال الحقيقي الكامل لا يؤخذ إلا بالحرب، فكيف يطمعون في أن ننال بالكلام أكثر مما نلنا".
بصرف النظر عن إخلاص نقاد المعاهدة من عدمه، فإن كلمات عزت نفسه تؤكد على معنيين مهمين. الأول: إن المعاهدة لم تحقق "الاستقلال الحقيقي الكامل" الذي لا يمكن تحقيقه إلا بالحرب، والثاني: إن المعاهدة تحققت بـ "الكلام" والتفاوض وليس بالنضال الشعبي الفعال.
من ناحية أخرى، تبدأ المسألة الاجتماعية في طرح نفسها بشدة بعد توقيع المعاهدة، وفي "الباقي من الزمن ساعة" يمثل الوفدي حامد برهان بالنصر ويقول لسماره:"كُلل جهاد الوفد أخيرا بالفوز المبين"، وتكشف تعليقات أصدقائه المقربين عن تفهمهم لجملة الظروف التي تحيط بتوقيع المعاهدة، كما تظهر الآمال العريضة المعقودة عليها:
"- المعاهدة ثمرة صراع مرير بين إمبراطورية طاغية من ناحية وبلد أعزل من ناحية أخرى، فهي مشرفة.
- انتهت أيام اللعنات وسوف يحكم الوفد إلى الأبد".
حكم الوفد، حزب الشعب، ليس مطلبا في ذاته، بل إنه وسيلة ليحقق الحزب بزعامة النحاس كل الأحلام الشعبية المشروعة التي يطول انتظارها.
هذا الموقف من المعاهدة: الوعي بالظروف المحيطة بها من ناحية والتفاؤل بما يترتب عليها من ناحية أخرى، يتبناه كل الوفديين في عالم نجيب محفوظ، ويعبرون عنه بكلمات متشابهة.
في "بداية ونهاية"، يقول أحد هؤلاء الوفديين:"من كان يصدق أن يعترف الإنجليز بأن مصر دولة مستقلة ذات سيادة، وأن ينزلوا عن التحفظات الأربعة؟"، ثم يعبر عن طموح ما بعد المعاهدة في قوله:"سيحكم النحاس إلى الأبد! انتهى عهد الانقلابات".
عهود الانقلابات لا تنتهي، ولا يحكم النحاس إلى الأبد، ويبدأ عصر الانهيار.
لم يكن الخلاف بين النحاس والنقراشي هو السبب الوحيد في اعتزال الوفدي نادر برهان، في "المرايا"، للعمل السياسي، بل كان من أسباب الاعتزال أيضا ما يعبر عنه بقوله:"ولما كانت هذه المعاهدة قد ختمت ثورة ١٩١٩ وتحقق لنا الاستقلال "ولو بعد حين" فقد قررت اعتزال السياسة".
تنتهي الثورة إذا بتوقيع المعاهدة، ويبدأ الثوار في التحول بعيدا عن الاهتمام بالسياسة. منهم من يقنع بأعماله الخاصة مثل نادر، ومنهم من يتجه إلى المتاجرة بالسياسة مثل المعلم كرشة في "زقاق المدق".
كان عام ١٩٣٦ آحر عهده بالسياسة، فطلقها بعد ذلك وتزوج بالتجارة:"وانقلب نصيرا لمن يدفع أكثر، وجعل يعتذر عن مروقه بما طرأ على الحياة السياسية من فساد، قائلا إنه إذا كان المال غاية المتنابذين في ميدان الحكم فلا ضير أن يكون كذلك غاية الناخبين المساكين!".
لا يقتصر الفساد على أفراد، ذلك أنه يمتد إلى النظام كله، ويصل إلى الوفد نفسه كما يقول الوفدي المأزوم عيسى الدباغ في "السمان والخريف":"كنا حزب المثل الأعلى، حزب التضحية والفداء، حزب النزاهة المطلقة، حزب "كلا ثم كلا" أمام كل المغريات والتهديدات، كنا كذلك حتى قبيل معاهدة ١٩٣٦".
يمكن القول إن ثورة ١٩١٩ تصل إلى محطتها الأخيرة بتوقيع المعاهدة، فلم يعد الاستقلال بعدها هو المطلب الوحيد، بل يُضاف إليه طموح مواجهة الواقع الاجتماعي الحافل بالهموم التي تستدعي المعالجة والحسم.
لا ينجح الوفد وزعيمه النحاس في مواجهة التحديات فيسقط النظام كله، ولم يكن غريبا أن يتحقق هذا السقوط بعد شهور قليلة من إلغاء المعاهدة في أكتوبر ١٩٥١.
يستقبل الوفديون قرار النحاس بفرحة طاغية، ويؤيدون إلغاء المعاهدة مؤيدين مهللين، ففي "المرايا" يهتز الوفدي العتيد رضا حمادة طربا:"يوم ألغى مصطفى النحاس المعاهدة ثم أعلن الجهاد، يوم سرت في الوادي نفحة من روح ١٩١٩".
ولا يختلف الأمر بالنسبة للوفدي حامد برهان في "الباقي من الزمن ساعة"، فهو يعلن عن ثقته غير المحدودة بالوفد وزعيمه:"لا يقدر على إلغائها إلا من قدر على عقدها، هو الوفد دائما وأبدا".
مثل هذا الحماس العاطفي لا ينفي حقيقة موضوعية، يجسدها النائب الوفدي الشيخ السلهوبي في "السمان والخريف" بقوله:"انتهينا والحمد لله!".
يرتفع صوت عيسى الدباغ معارضا:
- ليس في كل ماضينا المجيد موقف كهذا!!
فعبث الشيخ بشاربه، وقال بحزن:
- بلى، كأيام سعد، ولكنها النهاية.
شيخ مجرب طوى عهد الحماس".
إشادة الروائي بحكمة الشيخ تعني الموافقة الضمنية على رؤيته التي ترى النهاية التي تقترب، ولا يشارك العاطفيين حماسهم واندفاعهم.
كان قرار الإلغاء عظيما بحق، لكنه يفوق طاقة الوفد في إطار الظروف المعاكسة التي تحيط به، فلم يكن الحزب الشعبي يملك الإمكانات التي تتيح له أن يفرض إرادته على القوى المعادية المتآمرة.
مصطفى النحاس مخلص في توقيعه على المعاهدة، ومخلص في إلغائها. يستحق التأييد الشعبي في الحالتين، لكن إلغاء المعاهدة هو بداية النهاية.

مصطفي النحاس باشا وزوجته زينب هانم الوكيل

الانشقاقات
يشهد حزب الوفد انشقاقين كبيرين في ظل زعامة النحاس: الانشقاق الأول بقيادة أحمد ماهر والنقراشي ويفضي إلى تشكيل حزب السعديين، أما الانشقاق الثاني الذي يتزعمه مكرم عبيد فيسفر عن تكوين حزب الكتلة الوفدية، ويخسر الوفد عددا من أبرز قياداته ورموزه.
في الانشقاق الأول، تظهر عبارة مهمة في مجلس عبد الرحيم باشا عيسى، في "السكرية"، تُقال عن مكرم عبيد:"إنه يريد أن يستحوذ على النحاس وحده دون شريك".
المسألة ليست في "نزاهة الحكم" فحسب، بل إنها أيضا في الاستحواذ على النحاس لانتظار ميراث الزعامة، ومما يؤكد أن النزاهة كانت "واجهة" لتبرير الانشقاق، ما يقوله واحد من جلساء الباشا:"لقد خسر النحاس خسارة لا تُعوض، وارتضى أن يؤيد الشيطان ضد الملاك الطاهر".
صراع شخصي حول القرب من الزعيم، وليس خلافا موضوعيا خالصا تجاه قضية النزاهة.
يُصاب بعض الوفديين المخلصين بحالة من "القرف" في أعقاب الانشقاق الأول الذي يجبرهم على الاختيار المر بين النحاس والنقراشي، ويجسد نادر برهان، في "المرايا"، جوهر الأزمة في قوله:"لم أحزن في حياتي مثلما حزنت للخلاف بين مصطفى النحاس والنقراشي. كان النحاس زعيمي، وكان النقراشي أبي الروحي، ولم أتصور الدنيا صالحة للحياة مع وجود عداوة بين الرجلين".
في انشقاق مكرم عبيد، يتكرر الصراع من أجل الاستئثار بالنحاس، أو كما يقول كمال عبد الجواد في "السكرية":"دعنا من الفساد الحكومي، ثورة مكرم ليست على الفساد بقدر ما هي على النفوذ"، ويتساءل رياض قلدس، المسيحي اللا ديني الذي لا يخفي تعاطفه مع مكرم، مشيرا إلى زوجة النحاس ودورها في تقليص نفوذ مكرم:"أيُباع مكرم المجاهد بعاطفة زائفة؟".
ثمة دوافع متعددة لهذين الانشقاقين الخطيرين اللذين يؤثران سلبا على الوفد وقوته، لكن الرغبة في "الاستحواذ" على النحاس والاستئثار به تبدو دافعا قويا مشتركا فيهما.
النقراشي وماهر يواجهان مكرم عبيد في الانشقاق الأول متذمرين من نفوذه المتزايد، ومكرم بدوره يواجه زوجة النحاس في الانشقاق الثاني، فهي التي تستأثر بقلب الزعيم وتسحب البساط من تحت قدمي مكرم.
حادث ٤ فيراير
واقعة ٤ فبراير من الأحداث ذات الآثار والتداعيات الخطيرة في التاريخ المصري، وربما كان الأثر يفوق حجم الحادث الذي تستغله أحزاب الأقلية لمهاجمة الوفد والتشكيك في النحاس، كما يستغله الملك فاروق وبطانته وصحفه لتصوير الأمر وكأنه بطولة من الملك وتفريط من الوفد وزعيمه.
يرصد عالم نجيب محفوظ الملابسات المختلفة المحيطة بالحادث، ويعرض لتأثيره على الوفديين وخصومهم من المنتمين إلى أحزاب الأقلية.
إسماعيل لطيف، في "السكرية"، وهو من اللامبالين سياسيا، يتصور الأمر بما يتوافق مع نظرته الذاتية الضيقة، كأنه انتقام شخصي من النحاس لإقالة ديسمبر ١٩٣٧:"فاقتحم عابدين على رأس الدبابات البريطانية".
أما الوفديان رياض قلدس وكمال عبد الجواد، في الرواية نفسها، فيدور بينهما حوار بالغ الأهمية يعبر عن استيعاب رياض لحقيقة الموقف من وجهة نظر وفدية لا يهتز إيمانها بالزعيم، وتردد كمال وشكه "المثالي" على الرغم من وفديته:
- ليس النحاس بالرجل الذي يتآمر مع الإنجليز في سبيل العودة إلى الحكم. إن أحمد ماهر مجنون، هو الذي خان الشعب وانضم إلى الملك ثم أراد أن يغطي مركزه المضعضع بتصريحه الأحمق الذي أعلنه أمام الصحفيين.
- لا شك أن النحاس قد أنقذ الموقف، ولست أشك في وطنيته مطلقا. إن الإنسان لا ينقلب في هذه السن إلى خائن ليتولى وظيفة تولاها خمس مرات أو ست من قبل، ولكن هل كان تصرفه هو التصرف المثالي؟
- أنت شكاك لا نهاية لشكك.. ما الموقف المثالي؟
- أن يصر على رفض الوزارة حتى لا يخضع للإنذار البريطاني وليكن ما يكون.
- ولو عُزل الملك وتولى أمر البلاد حاكم عسكري بريطاني؟
- ولو!
- في هذه الظروف الحربية الدقيقة كيف يقبل النحاس أن يُعزل الملك ويحكم البلاد عسكري إنجليزي؟. وإذا انتصر الحلفاء -ويجب أن نفترض هذا أيضا- فنكون في صفوف الأعداء المنهزمين. السياسة ليست مثالية شعرية ولكنها واقعية حكيمة".
إنهما يتفقان على وطنية النحاس وإنقاذه للموقف المعقد، وينفيان فكرة التآمر التي يُتهم بها من أحمد ماهر وآخرين، لكن كمال عبد الجواد يثير الشكوك حول مدى "مثالية" قرار النحاس، وهي مثالية لا تبالي بأن يُعزل الملك ويتولى السلطة حاكم عسكري إنجليزي، ما يعني ردة وانتكاسة وخيمة العواقب.
يدور حوار مماثل في "المرايا" بين الراوي الوفدي وصديقه رضا حمادة، الوفدي العتيد الذي يشبه رياض قلدس في التحليل العقلاني المتزن.
يعترف الراوي بأن "موقعة" فبراير تهزه من الأعماق، وترمي بوفديته في أزمة خانقة، وصديقه رضا هو الذي يقنعه بسلامة موقف النحاس:
- إني أعتقد أن مصطفى النحاس قد أنقذ الوطن والعرش.
- تصور أن الدبابات البريطانية تجيء بزعيم البلاد رئيسا للوزارة!
- لقد كان الإنجليز أعداءنا ولكنهم يقاتلون اليوم في الجانب الذي نرغب في أن ينتصر.
- ثمة خطأ يفري روحي كالسم!
- أتود للفاشستية أن تنتصر كما يود الملتفون حول الملك؟
- كلا طبعا.
- فانظر إلى ٤ فبراير إذن على ذلك الضوء".
محور الاتفاق بين رياض ورضا أن دفع المخاطر الفاشية يأتي في المقام الأول من الأهمية في المرحلة الحرجة، وأن النظر إلى الحادث ينبغي أن يتم على ضوء هذا الخطر، بينما يشترك كمال عبد الجواد والراوي، الأقرب إلى التعبير عن رؤية نجيب محفوظ نفسه، في استهجان واستنكار التدخل الإنجليزي السافر، بكل ما يمثله ذلك من إهانة، ولا اعتبار عندهما للاعتبارات السياسية الواقعية البعيدة عن الأطر المسرفة في مثاليتها.
ينقسم الوفديون تجاه الحادث بين التأييد المطلق والرفض الحاسم، مرورا بالقلق والشك.
في "ميرامار"، يتمثل موقف الرفض عند عامر وجدي، الذي يخرج من الوفد بعد الحادث وينصرف عن الأحزاب جميعا:"لعلك تذكر أنني خرجت من الوفد، بل من الأحزاب جميعا، منذ حادث ٤ فبراير".
وفي "قشتمر"، يتجلى القلق والشك والانقسام في تأثير الحادث على مجموعة الأصدقاء:"وفي عز الشتاء بغتنا يوم ٤ فبراير بدباباته وعودة الوفد المفاجئة إلى الحكم. وارتفعت الأصوات في قشتمر منا ومن سائر الزبائن وتضاربت الأقوال. الناس سعداء لعودة الوفد ولكنهم واجمون أمام ما يُقال من أنه جاء على دبابات الإنجليز، ولم يتردد طاهر عن أن يقول ساخرا:
- ألا ترون أن جميع رجالنا خونة؟!
وقال صادق:
- من العسير جدا أن يتهم إنسان مصطفى النحاس بالخيانة، ولكني لا أدري ماذا أقول..
وقال حمادة الحلواني:
- كل وزارة تجيء فبأمر الإنجليز، فلماذا نتكدر إذا توافق أمرهم مع رغبة الشعب؟
أما إسماعيل قدري فلم يفتر حماسه ولا ساوره شك. لقد شك في كل شيء إلا الوفد. يبدو أمام الأفكار كالفيلسوف، ولكنه أمام الوفد مؤمن بسيط من عامة الشعب المتحمس، وقال بثقة:
- لا تشكوا في الوفد وشكوا ما شئتم فيما يُقال".
طاهر عبيد يتهم الجميع بالخيانة، وإسماعيل قدري لا تراوده ذرة من الشك في سلامة موقف النحاس والوفد، أما صادق وحمادة فيقفان في المنطقة الوسطى، لا يتهمان ولا يدافعان.
إلى رأي طاهر يميل مؤيدو أحزاب الأقلية. أحدهم، طنطاوي إسماعيل المنتمي إلى الحزب الوطني في "المرايا"، يقول غداة الحادث:"ها هو زعيمك يرجع إلى الوزارة فوق الدبابات البريطانية. أسمعتم عن زعامة من هذا النوع من قبل؟".
وفي الرواية نفسها، يثور "أذيال الأحزاب" من الموظفين، متهمين الوفد بالخيانة، أما الوفديون فيفرحون ويطربون ولا يجد بعضهم حرجا في الرقص!.
يتكرر التأييد الراقص للنحاس في "الباقي من الزمن ساعة"، ذلك أن الحادث لا يزعزع وفدية حامد برهان:"بل يرقص السمار فرحا وشماتة بالملك".
يتجلى التأييد المطلق لموقف النحاس في آراء رياض قلدس ورضا حمادة وإسماعيل قدري وحامد برهان والغالبية العظمى من الوفديين، أما الرفض فيمثله مؤيدو أحزاب الأقلية وقلة من الوفديين ذوي الضمائر مفرطة الحساسية مثل عامر وجدي، ويتمثل الشك والقلق عند كمال عبد الجواد والراوي في "المرايا".
أما الموقف السلبي اللا مبالي فيظهر عند إسماعيل لطيف وأحد أصدقاء ياسين عبد الجواد من السكارى المدمنين، في "السكرية"، الذي يحول الحادث إلى فكاهة صافية، ويعلق على مخاوف "خالو" صاحب حانة "النجمة" من إغلاق الخمارات بقوله:"إذا كان الإنجليز قد دفعوا بدباباتهم إلى عابدين لمسألة "تافهة" هي إعادة النحاس إلى الحكم، فهل تظنهم يسكتون عن إغلاق الخمارات؟!".
بين التأييد والرفض واللا مبالاة، تأتي مقولة عباس فوزي في "المرايا"، لتمثل ما يشبه "القول الفصل" في تقييم الحادث بموضوعية صارمة:"قولوا فيما حدث ليلة أمس ما شئتم، ولكن من الإنصاف أن نعترف لمصطفى النحاس بأنه أنقذ الوطن في هذه المرحلة الحرجة من حياة الوطن".
لعل هذه المقولة هي أفضل تعبير عن موقف محفوظ نفسه، فهو لا يملك يقين المؤيدين، وينأى أيضا عن الرفض والشك واللا مبالاة.
الإنجازات الشعبية
في شهادته "أمام العرش"، يعدد مصطفى النحاس بعض إنجازاته:"علي الرغم من أن الشعب لم يحكم إلا ثمانية أعوام نظير تسعة عشر عاما استبد فيها الملك وأحزاب الأقلية بالسلطة، وبالرغم مما تعرضت له من اضطهاد وعسف ومحاولات متكررة لاغتيال حياتي، فقد وفقني الله إلى تحقيق خدمات غير قليلة.
منها على سبيل المثال: إلغاء الامتيازات الأجنبية، إلغاء صندوق الدين، تأسيس جامعة الدول العربية، استقلال القضاء، استقلال الجامعة، قانون التوظف، منع الأجانب من تملك الأراضي الزراعية، التعويض عن إصابات العمل والتأمين الإجباري ضدها، الاعتراف بنقابات العمال، فرض استعمال اللغة العربية في الشركات الأجنبية، الضمان الاجتماعي، ديوان المحاسبة، مجانية التعليم الابتدائي والثانوي والمتوسط".
إذا كانت هذه بعض الإنجازات المادية الملموسة لمصطفى النحاس، فإن مديح أخناتون له خلال المحاكمة يكشف عن بعض سماته المعنوية الإيجابية: "مثلي أيضا في حب البسطاء من الشعب والاختلاط بهم دون حاجز من التعالي أو الكبرياء، ومثلي تعرضت لعداوة الأوغاد وعُباد السلطة وأسرى الأنانية حيا وميتا".
يرث النحاس الزعامة عن سعد زغلول بفضل الشعبية الطاغية لحزب الوفد في الشارع المصري، لكنه يحقق تمايزا ذاتيا يؤهله للمقارنة بالزعيم السابق، بل إنه يتفوق عليه عند بعض الوفديين.
في "السكرية"، يقول علي عبد الرحيم:
- يا رجال! ما رأيكم في مصطفى النحاس؟! الرجل الذي لم تؤثر فيه دموع الملك الشيخ المريض فأبى أن ينسى ثانية واحدة مطلبه الأسمى.. دستور ١٩٢٣.
ففرقع محمد عفت بأصابعه وقال في سرور:
- برافو.. برافو!.. إنه أصلب من سعد زغلول نفسه".
فضلا عن الصلابة، كان النحاس، كما يُوصف في "أمام العرش" زعيما فقيرا:"استمد قوته من إيمانه بشعبه وإلهه، واتسمت حياته بالكفاح الطويل والنزاهة، وقد عاش فقيرا ومات فقيرا".
كان فقر النحاس مما يدفع به إلى مكانة سامية عند قطاع عريض من الوفديين الفقراء، الذين يميزون بين سعد زغلول "الزعيم العبقري" والنحاس "الزعيم النقي".
في مرحلته الوفدية، قبل التحول إلى اليسار الشيوعي، يبدو عجلان ثابت، في "المرايا"، أكثر المتحمسين لهذا التمييز الدال، فيقول للراوي:
- لا تحترم طالبا غير مهتم بالسياسة، ولا تحترم مهتما بالسياسة إن لم يكن وفديا، ولا تحترم وفديا إن لم يكن فقيرا.
- ولكن سعد زغلول لم يكن فقيرا.
- أما مصطفى النحاس فزعيم فقير.
- هل تعني أن مصطفى النحاس خير من سعد زغلول؟
- كان سعد زغلول عبقريا، أما مصطفى النحاس فإرادة نقية".
عبر ربع قرن من زعامة النحاس، يتمتع بتأييد وحب الأغلبية العظمى من الشعب، لكن الأقلية غير الوفدية تعاديه بطبيعة الحال. المنشقون السعديون، في "السكرية"، يتهمونه بالعند، وعبد الرحيم باشا عيسى يتلاعب باسمه ساخرا فيحول "النحاس" إلى "النحس"!.
بعد الزعامة
بقيام وسيطرة ثورة ٢٣ يوليو، تتغير الخريطة السياسية في مصر، ويتوارى الزعيم مصطفى النحاس مجبرا على الاعتزال.
تتغير الخريطة وتتبدل معها المقاييس القديمة، وينهال الهجوم غير المنطقي على الأوضاع السائدة قبل يوليو، دون تمييز بين صالح وطالح. تعبر قصة "ذقن الباشا"، مجموعة "الفجر الكاذب"، عن أزمة الجيل الذي يعاصر عهد ما قبل الثورة، وهو يواجه متغيرات لا يقوى على التصدي لها الإ بالتحايل والسخرية:"وكنا إذا تحدانا سؤال مستفز مثل "من يكون سعد زغلول؟" أجبنا بكل تواضع "كان محاميا ناجحا"، أو من يكون مصطفى النحاس؟ قلنا بمنتهى اللطف كان تاجر مني فاتورة بالغورية"!.
في ظل المناخ المتطرف في العداء بلا منطق، تبدو جنازة مصطفى النحاس "مفاجأة" غير متوقعة. في "الباقي من الزمن ساعة"، يطل خبر موت الزعيم:"ارتفع صوت في الراديو ينعي أثرا من آثار الماضي، جهله الجيل الجديد، وعرفته قلة كرمز للخيانة، نعى الراديو مصطفى النحاس".
في تعقيب سريع على خبر رحيله، يقول المحامي الوفدي عبد القادر قدري في تأثر:"سيُشيع غدا في جنازة لا تليق بمقام راقصة درجة رابعة".
تتكىء الرؤية التشاؤمية على معطيات الواقع، ويخيب التوقع:"لكن الجنازة كانت انفجارا بركانيا غير مسبوق بإنذار. أي طوفان من جموع بلا نهاية. أي هتافات تتطاير بشواظ القلوب. أي دموع تترقرق في الأعين. أي حزن يغشى الشيوخ والشباب. أجل والشباب أيضا.
كيف فرضت هذه الزعامة نفسها على القلوب ساعة الوداع، بعد أن توارت عن السمع والبصر، وغطتها أيدي الرقباء برداء النسيان".
وفي "المرايا"، يعلق الوفدي القيم نادر برهان على جنازة النحاس بقوله: "هل شاهدت جنازة مصطفى النحاس؟ كانت رد اعتبار شعبي لسعد وللوفد ولأكبر ثورة شعبية في حياتنا".


**********************
العجوز الحكيم محتشمي زايد، في "يوم قتل الزعيم"، يعد جميع زعماء مصر من الشهداء:"مصطفى كامل شهيد الجهاد والمرض، ومحمد فريد شهيد المنفى، سعد زغلول شهيد المنفى أيضا، مصطفى النحاس شهيد الاضطهاد".
في حياته وبعد موته، كان الزعيم مصطفى النحاس شهيد الاضطهاد.