الثلاثاء 05 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

عبد الرحيم علي يكتب: دروس الزعيم خالد محيي الدين

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

سميت ابنى خالد تيمنًا باسمه

رفض إبعادى عن تغطية أخبار وزارة الداخلية فى عهد حسن الألفى

علمنى المساندة فى الحق والتخلى عن الكاذب والمهمل فى العمل

توسط لى فى الحصول على شقة عندما أتيت من قريتى

عندما قابلته للمرة الأولى كنت صحفيًا شابًا لم أتجاوز الثالثة والعشرين من عمري، أتيت من صعيد مصر أحلم بالحرية والعدالة الاجتماعية بحق الفقراء في لقمة عيش نظيفة وشربة ماء وعلاج مجاني يليق بمعاناتهم، لم أجد غير باب اليسار مفتوحًا لي على مصراعيه، أنا ابن الفقراء نحيل الجسد والروح، ألهث من غيرة على بلادي.

استقبلني العظيم خالد محيي الدين بمكتبه في «واحد شارع كريم الدولة»، كنت مزهوًا بنفسي لكن ليس للحد الذي أرى فيه الزعيم وجهًا لوجه، عضو مجلس قيادة ثورة يوليو زعيم اليسار.

سلم عليّ بترحاب وكأنه يهدئ من روعي قائلا: أراك غدا في التاسعة وأنهى اللقاء، خرجت غير راضٍ فقد كنت أعتقد أن المقابلة ستطول، سيسأل عن أحوالي، كيف أعيش في قاهرة المعز بعد أن غادرت بلدتي في الصعيد، بناءً على استدعاء من الجريدة للعمل مندوبا لها في وزارة الداخلية، اعتقدت أنه سيسألني كيف سأتعامل مع هذا المرفق الحيوي المهم، سيطلعني على الخطوط الحمراء التي لا يجب عليّ أن أتجاوزها، ولكن اللقاء لم يدم أكثر من دقيقتين وانتهى بموعد صباح اليوم التالي.

قضيت ليلتي أفكر تُرى ماذا سيقول لي الأستاذ خالد، وظللت أجهز أجوبتي المنطقية على أسئلته المفترضة.

في الصباح ذهبت مبكرا، شربت قهوتي من أيدي عم عبده، رحمه الله، وانتظرت مع هدى سكرتيرة الزعيم في مكتبه.

جاء الأستاذ خالد فوقع بعض الأوراق سريعًا ثم اصطحبني وهبطنا درج السلم المؤدي إلى الشارع ثم دلف بي إلى سيارته، سيارة "لادا ستيشن" خضراء، لا أدري لماذا تخيلت أن سيارة الزعيم لا بد أن تكون مرسيدس سوداء ولكن خابت توقعاتي.

في السيارة قال لي الأستاذ خالد: هل أنت متزوج؟ قلت له نعم.. ولديك أبناء؟ قلت لديّ ابنة واحدة، وعندما سألني عن اسمها كنا قد وصلنا إلى باب مبنى محافظة القاهرة، كان المحافظ في انتظار الزعيم، حيث بادره الأستاذ خالد بالقول لقد أتينا بهذا الشاب من الصعيد ليكون مندوبا للجريدة في وزارة الداخلية وهو متزوج ولديه طفلة لذا نريد له شقة بمساكن الصحفيين.

اندهشت كما اندهش المحافظ اللواء عمر عبدالآخر، وقال له هل أتيت سيادتكم بنفسك لكي تطلب هذا الطلب البسيط، وعلى الفور أنهى المحافظ الإجراءات الإدارية وبعد ساعتين كنت قد حصلت على مفتاح السكن في قاهرة المعز مصحوبًا بإعفاء من المقدم.

درس بسيط في إجراءاته، عميق في معانيه، أعطاه لي الزعيم في أول أيامي في بلاط صاحبة الجلالة، كيف يحافظ القائد والزعيم والمسئول عن كرامة مَن يعملون معه ولو كانوا في عمر أبنائه.

لم يمض على هذا الحدث سنوات قليلة حتى تصادمت في أول حياتي بوزير الداخلية حسن الألفي، أثناء معركته مع جريدة الشعب، فقد تناولت في تقرير لي نقاط الضعف في موقف الوزير بتلك المعركة، الأمر الذي دفعه إلى استصدار تعليماته بعدم دخولي الوزارة، ولم يسمح لي بالدخول مرة أخرى إلا بعد تدخل المرحوم اللواء رءوف المناوي، لينهي الموقف شريطة أن أبلغ الزعيم خالد محيي الدين برغبة الوزير في أن يزوره بمكتبه بالوزارة في أسرع وقت.

أخبرت الأستاذ خالد برغبة الوزير حسن الألفي في لقائه فلم يتردد الرجل، حددنا الموعد سريعًا وذهبت معه، لم أعلم أنهم يخططون لكي يوقعوا بيني وبين الزعيم حتى أترك موقعي كمندوب لجريدة الأهالي بوزارة الداخلية، ويأتوا بشخص بعينه كان يعمل معهم منذ فترة بعيدة، وكان مريحًا لهم إلى حد ما، حاول اللواء رؤوف المناوي إقناع الأستاذ خالد بأن يتم اللقاء مع الوزير دون حضوري، وكنت أرى وجاهة في الأمر، فلربما هناك أشياء ستحكى في هذا اللقاء لا يجب عليّ أن أعرفها، ولكنني فوجئت بالأستاذ خالد يتمسك بحضوري، حيث رفض بلطف طلب اللواء رؤوف المناوي رحمة الله عليه، أنني لا أخفي شيئا عن أعضاء الحزب وكوادره خاصة من الشباب في إشارة إليّ، وقد كنت، آنذاك، أصغر عضو باللجنة المركزية للحزب.

في اللقاء حدث ما كان يتوقعه الأستاذ خالد، وما فهمته منه فيما بعد، حيث عاتبه الوزير لموقفي من معركته مع جريدة الشعب، وألمح إلى ضرورة تغييري بشخص آخر، فانبرى الأستاذ خالد للدفاع عني دفاعا لم أتوقعه على الإطلاق، خاصة في مواجهة وزير الداخلية، وفي نهاية اللقاء أوضح الأستاذ خالد للوزير طريقة اختيار المندوبين في جريدة الأهالي، الناطق الرسمي باسم حزب التجمع، حزب اليسار المصري، حيث لا يجوز لرئيس التحرير تغيير المندوب إلا وفق قواعد محددة وأنه سيجلس معي شخصيًا لحثي على مزيد من التعاون، وأنه ضامن لي بشكل شخصي وضامن لحسن أدائي.

خرجت من اللقاء وأنا أزهو بقائدي وبحزبي وبجريدتي، عاقدًا العزم أن أقدم الغالي والنفيس في سبيل رفعتهم.

كان هذا هو الدرس الثاني الذي أعطاني إياه الأستاذ خالد محيي الدين، أن تقف مع المحرر طالما هو على حق فلا تخذله إلا إذا أخطأ في قول الحقيقة وليس العكس.

ومرت السنون وجاء يوم رأيت فيه الوجه الآخر للزعيم، فقد كان غاضبًا جدًا مني فاستدعاني إلى مكتبه وقال لي بلهجة حادة: ماذا كتبت اليوم؟ قلت له كتبت تقريرًا حول القبض على مجموعة من ضباط الشرطة والجنود الذين يبيعون الذخيرة والسلاح الميري للإرهابيين في الصعيد، سألني بلهجة حادة: وهل هذا مؤكد؟ قلت له معلوماتي تقول بذلك وهناك ثلاثة ضباط على الأقل تم اعتقالهم قبل يومين ومودعين بسجن بني سويف العمومي، أحدهم أعرفه معرفة شخصية وأعرف عائلته.

قال لي الأستاذ خالد لقد اتصل بي الوزير غاضبا ومحتجًا وقال لي: إن الخبر عارٍ تمامًا من الصحة، وأنه سيعقد مؤتمرًا صحفيًا عالميًا اليوم لتكذيبه.. غدًا تقدم استقالتك على الفور أو نصدر قرارًا بفصلك.

خرجت من مكتبه وأنا محطم تمامًا، فها هو سندي في الحياة، بعد الله، يخذلني ويتخلى عني، هكذا أحسست، لم يكن هو فقط من فعل ذلك في ذاك اليوم الكئيب، ولكن الجميع حتى أصدقائي في الوزارة أغلقوا الخطوط في وجهي، لم يعد أحد قادرًا على استقبال مكالمة مني، خوفًا من الوزير.

سلمت أمري إلى الله وكنت أعرف أنني على حق، ذهبت عند أحد الأصدقاء وانتظرت صدور الحكم بإعدامي.

في الخامسة تحدثت مع صديقي العزيز محمد صلاح الزهار، وكان مندوبًا للأخبار في الوزارة، لكي أطمئن ماذا حدث، إذ لم تكن هناك مواقع إنترنت تنقل الخبر في لحظته، وعندما جاءني صوته ضاحكًا على الجهة الأخرى اطمأننت، قال لي الزهار لقد أنقذتك العناية الإلهية، فقد ألغى الوزير لسبب غير مفهوم المؤتمر الصحفي واكتفى ببيان اعترف فيه بالواقعة، وقال: إن الوزارة ألقت القبض على ثمانية وعشرين ضابطًا وجنديًا متهمين ببيع الذخيرة الخاصة "بالتدريب" للإرهابيين في الصعيد.

تنفست الصعداء، وفي الصباح التقيت الأستاذ خالد محيي الدين بوجهه الآخر الذي أعرفه ويعرفني، ليشد على يدي ويتمنى لي التوفيق بابتسامة رقيقة لم تفارق خيالي حتى الآن.

كان هذا هو الدرس الثالث، الذي أعطاه لي العظيم خالد محيي الدين، أنني سأساندك طالما كنت على الحق مهما كلفني ذلك، لكنني سأغضب أشد الغضب وسأتخلى عنك لو كنت كاذبًا أو مهملا في عملك، إلى حد إطلاق الشائعات التي لا تمت للحقيقة بصلة، والتي تضر الأمن القومي للبلاد.

وتمضي الأيام وتأتي الصفقة الكبرى بين الحكومة، آنذاك، وجماعات العنف الديني في مصر.

وكعادتي أقف وحيدًا أدافع عن فكرتي في أن هذه الصفقة ستكلف البلاد الكثير إن لم يكن اليوم فغدًا، فهؤلاء الشباب يعملون وفق فقه الضرورة، تلك التي تحتم عليهم إجراء مصالحة مع الدولة في أوقات المِحن والضعف، خاصة إذا كانت دولة قوية ذات شرطة وجيش قوي، كما أكدوا في مراجعاتهم. 

لم يكن هناك موقف مبدئي لتلك الجماعات من ممارسة العنف ضد الدولة والمجتمع قدر ما هو موقف مبني على فقه الضرورة، حتى إذا ما تبدلت المواقف وضعفت الدولة كما حدث بعد ٢٥ يناير ٢٠١١ كانت كوادر تلك الجماعات، كما توقعت، في طليعة من نهشوا لحمها وهرسوا عظمها وبنوا به سلما للصعود إلى السلطة.

كان المرحوم الدكتور رفعت السعيد والزعيم خالد محيي الدين أول مَن ساعداني ووقفا بحانبي في تلك المعركة الطاحنة، متصدين لتهديدات وزير الداخلية آنذاك، الذي أنكر وجود الصفقة وادعى أنها من بنات أفكاري، لكن تمضي الأيام وسرعان ما تتكشف كل الأمور.

لم يكن هذا الدرس بالطبع من دروس الزعيم الأخيرة، فقد تلتها وسبقتها دروس عديدة تحدد معدن الرجل وقيمته وإيمانه العميق قولا وفعلا بالحرية وبالإنسان، تلك الدروس الكبيرة ما زالت تسكنني وتمنحني اليقين وما زلت أمنحها لأولادي كل يوم، إحساسا مني بأنني مدين بها له ولهم.

فسلامٌ على الزعيم خالد محيى، وتظل ذكراه باقية ما بقي الزمان.

 

سميت ابنى خالد تيمنًا باسمه رفض إبعادى عن تغطية أخبار وزارة الداخلية فى عهد حسن الألفى علمنى المساندة فى الحق والتخلى عن الكاذب والمهمل فى العمل  توسط لى فى الحصول على شقة عندما أتيت من قريتى

 

«عِيال» رفعت السعيد

لم نستطع أن نسبق خطاه.. وكنا نحبه بقدر ما ننتقده كان يسبقنا دائمًا رؤية وتحليلًا وتجاوبًا وتعاملًا مع الواقع

عشقنا روحه وانتقدنا الظروف التى منعتنا من تحقيق أحلامنا  أتينا من قُرانا البعيدةِ محملين بأحلام الفقراء فى الخبز والحرية

كان يحلو للبعض أن يُطلِق علينا هذا المصطلح، الذى لا يخلو من مُشاكسةٍ، لكننا كُنَّا نُحبه.. لا لشيء إلا لأن نِسبتنا لرفعت السعيد فى حدِّ ذاتها كانت شرفًا لا يضاهيه شرف. فقد كُنَّا مُتهمين، نحن وهو، من قبل مُنظِّرى اليسار الثورجى، بأننا من أنصار الدولة الوطنية، وبأننا بالتبعية نقع فى خانة العداء للقوى الثورية - تلك القوى- التى كان يحتل تنظيمُ الإخوانِ، آنذاك، القلبَ منها على حد زعمهم.

أتذكرُ كيفَ أتينَا من قُرانا البعيدةِ إلى قاهرة المعز، محملين بأحلام الفقراء فى الخبز والحرية، توجهنا مباشرةً نحو مكتبِهِ، فقد كان قبلةَ كل اليساريين آنذاك.. شاغبناه كعادتِنا وتناقشنا معه، واحتدَّ النقاشُ حولَ تراجع دور اليسار فى المجتمع المصرى، وضحكَ رفعت السعيد قائلًا: «يأتى زمانٌ ونشغل عنه وأنتم ستبكون، وزنان مختلفان وقلب تقاسمه جدولان من الحب والضرب».

كانت جريدةُ «الأهالى» وقتًها توزِّعُ مائةً وخمسينَ ألفَ نسخةٍ، وكان حزبُ التَّجمعِ يقول بالفم المليان «لن ننتخب مبارك لفترة ثانية». كنا نرى كل ذلك «هراء» لأنه لم يأتِ فى إطارِ الدعوةِ إلى الفوضى -أقصد الثورة- كما كُنَّا نودُّ ونعتقدُ فى ذلك الزمانِ. كُنَّا صِغارًا وقتها، قلنا فيه ما قال مالكُ فى الخمرِ؛ لكننا عشقنا روحه، لم نكن ننتقده، كنا ننتقد الظروف التى منعتنا من تحقيق أحلامنا، فى وطنٍ ينتمى إلينا وننتمى إليه. لم نأتِ من الطبقة الوسطى، كنا أبناء الفقراء ندعى.. ولم نزل، لم نتنكر يومًا لماضينا، ولا لأهالينا ولا لمعلمينا.

ورحل المعلَّمُ فى مثلِ هذا اليوم منذ ستة أعوامٍ، وآن لى أن أعترف، كما اعترف لى، من قبل، كل زملائى من متمردى اليسار، بأننا كنا نحبه بقدر ما كنا ننتقده، ربما لأننا لم نكن نستطيع أن نسبق خطاه، هو الشيخ المُسِن ونحن الشباب، كان يسبقنا دائمًا رؤية وتحليلًا، وتجاوبًا وتعاملًا مع الواقع، وحين انكفأنا نلاحق أحلامنا، كان يقبع هو على الواقع، دراسة وتحليلًا، ويخرج منه بالرؤية الثاقبة والموقف الصحيح.

تباركت يا معلمنا وتبارك اسمك ورسمك وتاريخك وسيرتك العطرة.. وتبقى دائمًا تنير لنا الطريق على مر الزمان.