قائد لجيل كامل من الشباب الذى عاش بداية ثورة يوليو
أتعجب من مؤرخي مصر مابعد ثورة يوليو.. كتبوا مئات الكتب عن أبعاد مختلفة للثورة وعن زوايا مضيئة أو غير ذلك لأبطالها من الضباط الأحرار وكذلك عن الدور البطولي للشعب المصري، وبالطبع جاء اسم البطل خالد محى الدين هناك وهناك، ولكن لم يتوقف أحدهم بعمق لكشف التركيبة البسيطة والمعقدة في وقت واحد للخالد خالد محي الدين.
لذلك كل التحية أقدمها لأبناء خالد محي الدين وأحفاده بمؤسسة البوابة التي قررت الاحتفاء باسم القائد الرمز والبحث في زوايا مختلفة لكي ترسم صورة شبه متكاملة لتاريخ رجل نادر عاش وأعطى ومات ولم ينقطع ذكره.
لست مؤرخًا بالمعنى العلمي لكلمة مؤرخ ولست محايدًا عندما يتم طرح اسم خالد محى الدين في صفحات التاريخ، وإذا كان القاريء سوف يرتاح إذا قال عني واحد من دراويش خالد محي الدين، فأنا أقبل هذا الوصف بسعادة وسوف أحاول قدر المستطاع أن أكتب لماذا أنا واحد من دراويش ملهم لجيل كامل.
تكرمت نقابة الصحفيين قبل عشرين عامًا عندما قررت تكريم اسم خالد محي الدين.. جاء خالد وجاءت مصر معه، كنت هناك وسط حشد لم يجد مقاعد كافية في الدور الرابع بسبب كثافة الحضور وكان سهلًا أن تلمح وزيرًا مازال في الخدمة أو وزيرًا سابقًا يجاهد في الزحام كي يسعد باللحظة التي ترتج فيها القاعة احتفالا بتكريم محي الدين، جاءت وقفتي بجوار المهندس حسب الله الكفراوي وزير الاسكان والتعمير الأشهر في تاريخ مصر، حاولت الاعتذار له لعدم وجود مقعد شاغر، وجاء رده البسيط والعفوي كي أعيد اكتشاف قائدي خالد محي الدين، قال الكفراوي "يا ابني انت ماتعرفش أهمية الأستاذ خالد.. ده ملهم لجيل كامل من الشباب الذي عاش بداية الثورة".
أضع تحت كلمة ملهم ألف خط، وأتذكر ما قاله وزير يسبق الكفراوي في حكومات مصر وهو الدكتور إسماعيل صبري عبد الله وزير التخطيط في الحكومة التي أعدت بلادنا لحرب أكتوبر، أكتب هذا عن الدكتور إسماعيل حتى يعرف القاريء مع من أتحدث، رمز اقتصادي عالمي ووطني وسياسي من الطراز الرفيع.. كنا في احتفال لحزب التجمع بعيد تأسيسه وكنت كصحفي أقوم بتغطية الاحتفال لنشره بجريدة "الأهالي"، سألت الدكتور إسماعيل عن دلالة الاحتفال السنوي لحزب التجمع بعيد تأسيسه جاءت إجابته بعيدة عن ما كنت أرجو سماعه حيث قال "نحن هنا نحتفل بتواصل ما انقطع من بعد ثورة يوليو مجسدًا في شخصية وتاريخ الأستاذ خالد محى الدين".. توقف الدكتور إسماعيل لحظة عن الكلام متأملا إجابته ليخرج عن النص من جديد بقوله "إنت عارف الفرق في السن بيني وبين الأستاذ خالد سنتين فقط ولكن من يوم معرفتي به ولا أناديه إلا بالأستاذ خالد" أنهى الدكتور إسماعيل كلامه المختصر بعبارة "أفهمها انت لوحدك ده معناه إيه ".
بين الملهم عند المهندس حسب الله الكفراوي والأستاذ عند الدكتور إسماعيل صبري عبدالله مسافات وتفاصيل ومواقف حاسمة.
اللحظة الثورية الفارقة
"خالد" مسيرة مهمة قبل ثورة يوليو هو ابن طبقة ملاك الأراضي والتي قامت يوليو ضد مصالح تلك الطبقة، هذا الوعي وهذا الانتماء لمصالح الوطن والشعب يجعلنا أمام قديس حقيقي ويجعلنا أمام راهب في محراب العدالة الاجتماعية ليفتخر أبناؤه وأحفاده وهم جمهور حاشد بطول مصر وعرضها ويجعلني أعتز بأنني واحد من دراويشه، الضابط صغير الرتبة وقت الثورة يخرج على رأس الكتيبة التي هو قائدها ليلة الثالث والعشرين من يوليو ١٩٥٢ ليحاصر منطقة مصر الجديدة بالقاهرة، والتى يتواجد بها مقر قيادة الجيش، ويعزلها تمامًا عن مصر ليسهل لزملائه إحكام قبضتهم لإسقاط نظام الملك، لم يكن يعرف فى تلك اللحظات أنه يدخل إلى عالم الخلود والمجد، خالد محي الدين الذي غامر برقبته في تلك الليلة فعل ذلك كفارس ملتزم وكواجب مفروض عليه بحكم انتمائه لتراب هذا البلد وكرامة شعبها، فعل ذلك بحكم كونه عضو الخلية الأولى لتنظيم الضباط الأحرار زميلًا ورفيقًا لجمال عبدالناصر.
وطالما ذكرنا جمال عبدالناصر نقول إن "ناصر" الذى لم يجد لابنه البكر اسمًا يفرح به سوى «خالد» تفاؤلًا بمزايا صديقه خالد محيى الدين، ليصبح ناصر فيما بعد اسمه «أبوخالد» ويهتف له الشعب المصرى «أبوخالد ياحبيب.. بكره ندخل تل أبيب»، لذلك سيبقى جمال عبدالناصر وخالد محيى الدين رغم تعاريج الطريق الذى جمعهما، مدرسة كبرى للوطنية المصرية ينكشف كل يوم فصل من فصولها وسر من أسرارها.
المنفي لا ينفي الوطنية
ملاحظتان يمكن لهما أن يكشفا لمن يريد المعرفة عن دور خالد محي الدين في تاريخ مصر بعد ثورة يوليو.. الملاحظة الأولى هي اختلافه مع مجلس قيادة الثورة فيما عرف بأزمة مارس ١٩٥٤ والتي كان جذر الخلاف فيها يرتبط بمسألة الديمقراطية، وأرجو من القاريء الكريم أن يدقق في التاريخ ١٩٥٤ أي قبل سبعين عاما من الآن، في ذلك الزمن كانت صيحة التحرر الوطني هي الأعلى صوتا أما الدعوة إلى الديمقراطية الحقيقة فكانت دعوة خجولة لا يطرحها إلا أصحاب الرؤى المستقبلية الكاشفة التي ترى أن صمام أمان المجتمع يكمن في تأسيس ديمقراطية حقيقية، واليوم وقد صارت الديمقراطية تجارة رائجة، نجد أنه من الواجب على المتشدقين بها الاعتراف بفضل المبشر المناضل في سبيلها خالد محي الدين.
أما الملاحظة الثانية وهي صفقة الأسلحة التشيكية وبينما خالد محى الدين خارج السلطة عقب أزمة مارس ١٩٥٤ منفيا خارج الوطن إلا أنه يستجيب بكل إخلاص لنداء الوطن ويسعى بكل جهده لإتمام تلك الصفقة في ١٩٥٦ وهذا يكشف المعدن الحقيقي للوطني الصادق ويفضح المتاجرين بالوطنية الذين ينقلبون تخريبا في مفاصل الوطن بمجرد ابتعادهم عن السلطة.
مشهدان للتأمل
أتوقف أيضا عند مشهدين أبطالهما اثنان من المشهود لهما بالنزاهة وقد شغل كل منهما موقع المحافظ واحد في القاهرة والثاني في الإسماعيلية، أما في القاهرة هو اللواء عمر عبد الآخر الذي اعتبره آخر محافظ جاد للقاهرة وفي موعد محدد توجه الخالد محى الدين بصفته رئيسا لحزب التجمع ورئيس الهيئة البرلمانية للحزب بمجلس الشعب، توجه إلى ديوان عام محافظة القاهرة كي يلتقي بالمحافظ لتدارس عدد من المشكلات الجماهيرية سعيا لحلها، وقد شهد من حضر اللقاء بأن عمر عبد الآخر كان بانتظار أستاذ خالد بميدان عابدين وما إن توقفت سيارة محي الدين وخرج منها محي الدين حتى تقدم إليه عبدالآخر بخطوات منضبطة ليقدم له التحية العسكرية من حديد بالوقوف انتباه ورفع اليد اليمنى تجاه الأذن بقوة ونشاط، ربما يقول البعض وماذا في ذلك؟ الإجابة هي أن تلك التحية العسكرية التي قدمها لواء يشغل موقع محافظ لم تكن لشخص خالد المعارض البعيد عن السلطة ولكنها تحية للتاريخ وتحية للمواقف الفاصلة التي خاضها خالد محي الدين.
المشهد الثاني دور البطولة فيه للدكتور أحمد جويلي وكان يشغل موقع محافظ الإسماعيلية وكان خالد محي الدين في زيارة لنا هناك، ومن ضمن البرنامج والبروتوكول زيارة المحافظ.. قبل موعد وصول خالد محيى الدين يترك أحمد جويلي مكتبه بالدور الثاني وينزل إلى الشارع مع مرافقيه حتى يحظى باستقبال الرجل الذي ساهم مع آخرين في تغيير وجه مصر، أكثر من نصف ساعة والدكتور جويلي في الشارع حتى وصل زعيمنا وقد شهدت ذلك بعيني وكأن المحبة والتقدير هما أوسمة فارس الديمقراطية خالد محي الدين.
لهذا نقول بأن خالد محى الدين ليس صفحة عابرة فى التاريخ الوطنى والسياسى والإنسانى بمصر، خالد كتاب كامل لأنه ببساطة عرف متى يستغنى ومتى يقتحم، عرف كيف يكون البناء، وكيف يكون التراكم من أجل رفعة بلادنا، عرف ويعرف محبيه البوصلة وهى تشير إلى الطريق الصحيح من أجل مصر وطنًا للحرية والاشتراكية.
التواضع المذهل
بعيدًا عن الأدوار الرئيسية التى لعبها خالد محى الدين من أجل تقدم بلادنا، يهمنى التوقف عند إنسانية خالد محيى الدين وتواضعه، صاحب الباب المفتوح على مصراعيه ليلجأ إليه كل صاحب مظلمة دون سابق معرفة، رأيت بعينى وشهدت بحكم معايشتي له وبجواره فى سنوات عمله الأخيرة، رأيت بعينى وشهدت المصداقية وهى تتجسد في شخصه، غضبه وثورته فى وجه مسئول ظالم ليسترد حق مظلوم ليخرج من مكتبه منتصرًا، رأيت بعينى وشهدت بساطته وجمال روحه وهو يبادل المحيطين به الحديث، فيزرع المودة هنا ويرفع العزيمة هناك ويؤسس للإيمان بقضية مصر وشعبها وحقه فى العدالة الاجتماعية والحرية والديمقراطية.
الخالد محيى الدين ببساطته العميقة استطاع على مدار تاريخه أن ينسج ملايين القصص القصيرة مع ملايين البشر داخل مصر من الفلاحين والعمال أولًا، وصولًا إلى أرفع السياسيين والمفكرين داخل مصر وخارجها، هذه اللوحة الفنية النادرة امتدت على مدار تاريخه وفى كل يوم كانت الإضافات تتوالى ولا تتوقف مهما كانت صعوبة اللحظة.
اكتمال الصورة
اكتملت الصورة عندما رحل خالد محي الدين وتم وداعه رسميا في جنازة عسكرية بحضور رئيس الجمهورية، اكتملت عندما حصل على قلادة النيل التي غابت عنه طويلا وكان هو ويوسف صديق آخر من حصلا عليها من الضباط الأحرار، اكتملت عندما خرج الفلاحون في مدينة كفر شكر لاستقبال جثمانه في مسقط رأسه، كنت هناك وجاء الزعيم إلينا هذه المرة ملفوفًا بالعلم المصرى، وبرغم أننا افتقدنا ابتسامته المذهلة إلا أن الآلاف الذين كانوا بانتظاره استطاعوا تجاوز أحزانهم ليهتفوا من قلوبهم حتى انجرحت حناجرهم «خالد خالد محيى الدين.. عايش جوا قلوب ملايين»، «تحيا مصر تحيا مصر.. خالد هو ضمير العصر»، «صغت مبادئ ثورة فى ستة.. واحنا وراك عارفين السكة»، «قول ياشعب القليوبية.. خالد رمز للوطنية».
ورحل خالد محيى الدين، رحل سعيدًا راضيًا لأن تلامذته وأبناءه بطول مصر وعرضها على طريقه سائرين.