خاض الأديب توفيق الحكيم معارك أدبية كثيرة مع عميد الأدب العربي طه حسين التي خلقت بينهما صداقة قوية على الرغم من احتدام الخلاف الذي وصل إلى أن يرد كل واحد منهما على الآخر في مقال مختلف مدافعا عن رأيه وحجته الفكرية التي يقتنع بها، وهو الأمر الذي جعل الأديب أحمد حسن الزيات صاحب مجلة الرسالة الذي أسهم بشكل مباشر أو غير مباشر في نشر هذه المعارك على صفحات مجلة الرسالة معللا في ذلك أن مثل هذه المعارك تثري الساحة الأدبية والثقافية بصرف النظر عما يكتنفها من خصومة وخلافات شخصية .
الخلاف بين توفيق الحكيم وطه حسين بدأ عندما أصدر الحكيم مسرحيته" أهل الكهف" التي أحدثت دويا كبيرا في الوسط الثقافي فعّلق عليها كبار الأدباء والكُتاب عدا طه حسين، وذلك على الرغم من الصداقة بين الطرفين إلا أنه لم يهدي الحكيم كتابه " أهل الكهف " لعميد الأدب العربي.
وفي هذا الأمر وجه طه حسين حديثه إلى توفيق الحكيم في لهجة حملت معها كثيرا من السخرية والعتاب قائلا: وأنا على كل حال أهدي إلى الكاتب الصديق تهنئة خاصة وشكرا جميلا لأنه تفّضل فلم يرسل لي كتابا من كتبه منذ سنين فله الشكر، وإن كنت أرجو أن يأذن لي في أن آخذ شيئا من هذا الشكر لأهديه إلى الصديق الكريم الذي أعارني هذا الكتاب قاصدا بذلك كتاب أهل الكهف للحكيم".
كان للحكيم علته في عدم إهداء كتابه لطه حسين على الرغم من الصداقة القوية بينهما لأن أحد الأصدقاء لطه حسين أبلغه أن سيكتب عن صديقه الحكيم وسيكون معه حساب عسير فلما عرف بذلك الحكيم قال له " أرجوك أبعد عني هذا الرجل ، فالكتاب الآن قد كُتب عنه بما فيه الكفاية والمطبوع من الكتاب قد نفد" لكن هذا الأمر لم يصرف طه حسين عما يريد وكتب في مجلة الرسالة مقالا عن كتابين الأول عن رواية باللغة الفرنسية لأديبة لبنانية اسمها " إيمي خير " بعنوان " سلمى وقريتها" والكتاب الثاني باللغة العربية وهو " أهل الكهف" .
بدأ طه حسين هذا المقال ذاكرا أنه يتمنى للكتاب الأول أن يُترجم للغة العربية والثاني للغة الفرنسية ,
علق طه حسين على " أهل الكهف" قائلا : " إنه حادث ذو خطر لا أقول في الأدب المصري فحسب بل في الأدب العربي كله ، وأقول من دون تحفظ ولا احتياط وأقول هذا مغتبطا به مبتهجا له وأي محب للادب العربي يغتبط ويبتهج حين يستطيع أن يقول وهو واثق بأن يقول أن فنا جديدا قد نشأ وأُضيف إليه بابا جديدا قد فتح للكتاب قاصدا بذلك باب التمثيلية الأدبية وأصبحوا قادرين أن يلجوه وينتهوا منه إلى آماد بعيدة رفيعة ما كنا نقدر أنهم يستطيعون أن يفكروا فيها الآن "
وكان الحساب العسير الذي وعد به طه حسين الحكيم عبارة عن غلطة نحوية قال عنها الحكيم لعلها كانت غلطة مطبعية .
المفاجأة حدثت عندما قرأ الحكيم هذا المقال وما ذكره طه حسين ومدحه للحكيم في أن له الفضل في تأسيس الأدب التمثيلي ، فما كان من الحكيم إلا أنه أنكر هذا الفضل لنفسه أن أن يكون صاحب الفضل في فتح هذا الباب في الأدب العربي ، وأرجع إلى أن الفضل يعود في ذلك الأمر للجاحظ لأنه وجد عنده كلاما كالحوار التمثيلي لم يرى مثله حتى في كتاب " الأغاني" لا من حيث الشكل ولا المضمون ولا التصوير العاطفي ،ونقل هذا الحوار الحكيم على شكل منظر صغير بعنوان " الفراق" واصفا بأنه لم يمسه بأي تغيير لا في الألفاظ ولا المعاني ولا الشخصيات وعلى هذا فالفضل يعود للجاحظ في تأسيس الأدب العربي التمثيلي.
وقال الحكيم أنه كان في مقدوره أن يجعل منه فصلا كبيرا لكنه قصد أن يثبته على أصله وبلغته كما صدر من الجاحظ .
طه حسين لم يسكت بعدما عرف رأي الحكي في كتبه فيه وذكره من أنه صاحب فضل في تأسيس الأدب التمثيلي لينكر هذا الأمر الحكيم ورد عليه ساخرا منه قائلا : " أتزعم أن الجاحظ عرف التمثيل وحواره ، وظل الحكيم على رأيه في هذا الأمر إلى أن مات وهو مقتنع أشد الاقتناع بأن تراثنا العربي غني وعظيم ، أما طه حسين فظل هو الآخر مقتنعا برأيه بأن توفيق الحكيم هو صاحب الفضل الأول في ميلاد فن الأدب التمثيلي في الأدب العربي كله.
ذكر في كتابه أيام العمر أن الخلاف بين طه حسين والحكيم لم يقف عند حد من يكون له الفضل في إنشاء فن الأدب التمثيلي في اللغة العربية ، بل تعداه إلى سوء فهم وقطيعة كبرى بينهما والسبب في ذلك وشاية من صديق الحكيم زادت الأمر سوءا بينهما حين جاءه مبادرا بسؤاله هل قرأت مقال طه حسين عن كتابك ولم يتح هذا الواشي للحكيم أن يجيب أو يتحدث في الأمر وقال له إن طه حسين خبيث وأن بين سطوره ما يخيفه ، وهو ما أثار انفعال الحكيم وأرسل إلى طه حسين خطابا فظا ما كاد يقرأ عليه حتى صاح فيمن حوله قائلا : " سبحان الله لقد نشرت مقالا عن الكتاب الذي صدر له ليس فيه غير الاعجاب فرد علي يشتمني"، وصارت قطيعة بينهما حتى عاد الحكيم لقراءة مقال طه حسين في هدوء فلم يجد فيه ما يستحق غير الشكر وندم على عجلته في ظلم طه حسين.
ويبدو أن كتابا أهل الكهف كان عائقا بين الحكيم وطه حسين في كل قت ليتجدد الخلاف مرة أخرى عقب عزم الحكيم على إصدار طبعة ثانية لاهل الكهف بعد نفاد الطبعة الأولى ، الامر الذي جعل طه حسين يبدي رغبته في كتابة مقدمة لها ، ليتجدد الخلاف بسبب هذه الرغبة ‘ فمن وجهة نظر الحكيم أن ذلك الامر هو هواية طه حسين في كتابة المقدمات للكتب التي تصدر ، خاصة إذا كانت لأصحاب المكانة الأدبية أو الأهمية من وجهة نظره ، فهو الذي كتب مقدمة لديوان " الخليل " للشاعر خليل مطران ، ولكتاب " المرآة " لعبدالعزيز البشري ، ولكتاب " فجر الإسلام" لأحمد أمين وغيرهم .
الحكيم هنا لم يتحمس لكتابة طه حسين المقدمة لن يكره المقدمات ويمقته لانه يرى في ذلك المقدمة يكتبها احد الكُتاب المشهورين وقلما يقروؤن ما يقدمون له من كتب ، فهو لا يسعى للتمحك في الكتاب المشاهير ليحظى بمقدمة لا تظهر إلا النفاق من كاتبها وجهله بالكتاب ذاته.
ونُشرت الطبعة الثانية دون مقدمة الامر الذي اغضب طه حسين الذي أبطأ بالمقدمة أسبوعين ، وظن أن الحكيم قد اسند كتابة المقدمة لغيره وهو ما لم يخطر ببال الحكيم تماما.