خلال بناء أسطورة الفكر العسكرى البروسى ثم الألمانى، الذى لايقهر، من المحتمل أن معركة لايبزيج (أو معركة الأمم) لعبت دورًا كبيرا يتم تجاهله حتى الآن؛ لذلك أدعوكم لاكتشاف ثمار ما وصل إليه تحليلى لهذا الموضوع مع استمرار دراساتى حول الجيش الألمانى وقراءة أعمال برونوكولسون حول هذه المعركة.
خطة تراشينبيرج أوتراشينبيرج – ريشنباش
فى يوليو١٨١٣ بعد إعلان الهدنة وتوقف القتال الذى أشعل النار فى قلب ألمانيا منذ الربيع انضمت النمسا إلى الحلفاء الروس والبروسيين والسويد لهزيمة نابليون وبعد الهزائم فى لوتزن (٢ مايو) وبوتسن (٢٠-٢١ مايو) أدرك المتحالفون أنه يجب التشاور معًا ووضع خطة عمل لطرد الفرنسيين.
ومن هنا تم وضع «خطة تراتشينبرج» تخليدا لذكرى قصر تراتشينبرج الذى دارت فيه لقاءات طاقم العمل فى يوليو ١٨١٣. شارك فى وضع هذه الخطة الكونت رادذكى ورئيس الأركان النمساوى وولى عهد السويد والمارشال برنادوت الفرنسي. إلى جانب ضباط أركان آخرين مثل البروسى جنيزيناو، رئيس أركان بلوشرو السويسرى جومينى، الذى انتقل من خدمة فرنسا إلى خدمة القيصر.. كل هؤلاء شاركوا فى تطوير هذه الخطة.
بشكل عام، تدور هذه الخطة حول النقاط التالية:
عدم محاصرة حصون الفرنسيين ولكن مراقبتها.
أن تتركز جهود الحلفاء على الجيش الكبير وخطوط عملياته.
قطع خطوط الاتصال لإجبار الفرنسيين على فصل القوات لإعادة فتحهم أو الاشتباك مع قوتهم الرئيسية.
الدخول فى معركة فقط ضد جزء من الجيش الكبير فى حالة التفوق العددى الصارخ وتجنب المعركة ضد القوات الفرنسية المركزة.
إذا هاجم الجيش الكبير أحد جيوش الحلفاء فعليه الانسحاب حتى يأتى الآخرون لمساعدته بأكبر قدر من الصرامة.
نقطة التقاء جيوش الحلفاء هى المقر الفرنسي.
قد تبدو هذه الخطة بسيطة على الورق لكنها فى الحقيقة قوة حقيقية عندما ندرس تنفيذها. إنها مسألة تنسيق تحركات أربعة جيوش من أربع دول مختلفة تضم ما يقرب من ٣٠٠٠٠٠ رجل فى حضور ثلاثة ملوك (القيصر الإسكندر وإمبراطور النمسا فرانسيس والملك فريدريك وليام الثالث ملك بروسيا) وولى العهد (برنادوت). لن أناقش هنا العمليات التى نفذها هذا التحالف الفريد من نوعه فى ذلك الوقت فهذا ليس هدفى. ارجع إلى الكتاب الرائع الذى كتبه برونوكولسون حول هذا الموضوع.
وفى ٤ سبتمبر تم الانتهاء من هذه الخطة التى وضعها الكونت راديتزكى الذى قدم مشروعًا للعمليات المستقبلية عاد فيه بشكل حاسم وبناء إلى معارك دريسدن وكلوميك وكاتزباخ. ما يهمنى هنا فقط هو الهدف الرئيسى للمناورة الشاملة لأنها تهدف إلى تطويق الجيش الكبير بسلسلة من الحركات متحدة المركز لجيوش الحلفاء.
يبدو أن كل هذه العمليات ستكون محور اهتمام اجتماع للحلفاء فى قطاع لايبزيج على الرغم من المحاولات العبثية لخطة نابليون لهزيمة أعدائه. هنا مرة أخرى تظهر عبقرية راديتزكى فى التخطيط لهذه المناورة الأخيرة التى تخطط لتقارب أكثر من ٣٠٠٠٠٠ مقاتل فى ثلاثة أعمدة عليهم أن يحاصروا الجيش الكبير المتمركز الآن حول لايبزيج. لذلك كان من الواضح أنه مهندس الخطة التى انتهت مساء يوم ١٩ أكتوبر بالانتصار والاستيلاء على المدينة والتراجع الكارثى للجيش الكبير.
لايبزيج.. الانتصار التأسيسى
يمثل انتصار لايبزيج جوهر إحياء الروح الألمانية من خلال انتصار الأسلحة البروسية، ولكن أيضًا لأنه يمثل نهاية الهيمنة الفرنسية على الفضاء الألمانى مع اختفاء اتحاد نهر الراين.. كما أنه يرجع النصر فى ساحة المعركة للإصلاحات العسكرية التى نفذها شارنهورست وجنيزينا ومنذ سحق بروسيا عام ١٨٠٦. وهو معروفة باسم معركة الشعب فقد تطوع العديد من المدنيين لتحرير وطنهم من نير فرنسا.
كما أن لايبزيج تحطم أسطورة نابليون الذى لايقهر كقائد أعلى للقوات المسلحة. فهو لم يهزم تكتيكيًا فى ساحة المعركة، لكنه كان الخاسر الأكبر فى العمليات التى قام بها الحلفاء تحت قيادة شوارزنبرج ومشورة راديتزكي.
كانت هذه المعركة موضوع روايات تاريخية ودعائية متعددة من قبل معاصرى المعركة، وبمرور الوقت أصبحت هى الأساطير المؤسسة لإعادة توحيد ألمانيا فى ظل بروسيا. ولكن هناك عنصرا مهما مفقودا من التحليل وبفضل برونوكولسون، ولكنه أصبح واضحًا لنا الآن بفضل برونوكولسون.
ففى التأريخ البروسى مباشرة بعد المعركة ثم طوال القرن التاسع عشر تم تضخيم دور فون جنيزينا وفى تطوير الخطة التى نجحت فى هزيمة نابليون وكذلك دوره كرئيس أركان بلوشر إلى أقصى الحدود.
من هذا الغموض ستتولد أسطورة أخرى: المعركة الحاسمة الكاملة وإبادة الخصم بالتطويق والذى هو أعظم أسطورة عصره نابليون نفسه. وهكذا فإن لايبزيج فى النفسية البروسية ليست معركة حاسمة تم كسبها بتطويق الخصم (مثل هانيبال فى كاناي)، ولكنها معركة تم كسبها بالعقلية البروسية أى عقلية رئيس الأركان البروسى اللامع.
وبذلك فإن لايبزيج هى النموذج الفعال لـ kesselschlacht الشهيرة أو معركة المرجل والتى ستصبح بعد ذلك هى المرجع العملياتى الوحيد للجيش البروسى ثم الألمانى حتى عام ١٩٤٥!
لعبت معركة لايبزيج دورًا مركزيًا فى بناء الفكر العسكرى الألمانى فى القرن التاسع عشر، وهذا هو السبب فى أن فون مولتك الأكبر سيحاول مرتين إعادة إنتاج هذه المناورة، مرة فى عام ١٨٦٦ ضد النمساويين ومرة أخرى فى عام ١٨٧٠ فى سيدان ضد الفرنسيين.
أسطورة هشة
إن أسس هذه الأسطورة هشة للغاية. ذلك إن فون جنيزينا وليس هو الذى وضع خطة عمل الحلفاء بل راديتزكى هو الذى يستحق هذا التقدير، وحتى لو شارك جينيزيناو فى صياغتها ونفذها ببراعة على الأرض إلا أنه لم يكن له الدور القيادي.
كما أن معركة لايبزيج شانها شان ليوثن (١٧٥٧) أوكاناى اواى معركة أخرى، لم تكن حاسمة. إذ لم يتنازل نابليون عن العرش مساء هزيمته. بل استغرق الأمر منه أكثر من ٥ أشهر من القتال العنيف والحملة الشهيرة فى فرنسا عام ١٨١٤ لإجبار الإمبراطور على الذهاب إلى المنفى.
كما كشفت الإدارة العملياتية سواء بالنسبة لنابليون أو لقادة جيوش الحلفاء عن العديد من نقاط الضعف خاصة فيما يتعلق بالاتصالات عبر هذه المساحات الشاسعة. فلم يوضع فى الاعتبار التغيير العددى (من عشرات الآلاف من الرجال إلى مئات الآلاف) بشكل كافٍ فى تنظيم الجيوش الأوروبية وخاصة البروسية بعد لايبزيج. وأمامنا معركة Saint-Privat فى عام ١٨٧٠ كمثال يلقى الضوء على نقاط ضعف لإدارة معركة بأقل من ٢٠٠٠٠٠ مقاتل.
لذلك يبدو أن لايبزيج هى الحلقة المفقودة فى محاولة فهم مراحل بناء الفكر العسكرى الألمانى بشكل كامل من عام ١٧٤٠ حتى انهياره فى مواجهة السيطرة العملياتية للسوفييت فى عام ١٩٤٥؛ لذلك فهى تستحق مكانها الكامل فى دراساتنا لفهم أسس أسطورة الجيش الألمانى الذى لا يقهر!.
معلومات عن الكاتب:
سيلفان فيريرا.. حائز على درجة الماجستير فى التاريخ، وهو مؤرخ متخصص فى فن الحرب فى العصر الحديث، وصحفى مستقل له تاريخ حافل فى التدريب وإدارة الأحداث والتحرير والخطابة والكتابة الإبداعية، ألّف العديد من الكتب المرجعية عن الحرب العالمية والحرب الأهلية، وهو أيضًا مستشار لسلسلة وثائقية تليفزيونية، كما يساهم بانتظام فى إصدارات Caraktère منذ عام 2015.. ينضم للحوار بهذا المقال الذى يأخذنا عبر الزمن إلى أحداث لايبزج 1813.