فى عام ١٩٥٨ سأل الصحفى الفرنسى جاك بينوا مشين جمال عبد الناصر: «إنك تفكر فى إنشاء إمبراطورية عربية.. أليس هذا شكلا من أشكال الإمبريالية؟ فرد الرئيس المصرى قائلًا: «أبدا لا أريد إقامة إمبراطورية بل أرغب فى إقامة أمة تدرك قيمة نفسها.. لا أريد بقاء أى شيء غريبًا عن الأمة العربية.. أريد أن أجمع أعضاءها الذين بمجرد ما إن يتجمعوا فلن يحتاجوا إلى مساحة إضافية؛ فأنا لست غازيا».
بعد تأميم قناة السويس فى عام ١٩٥٦ تميزت أيديولوجية عبدالناصر العربية بمكانة تتجاوز حدود الدول القومية الفتية فى العالم العربي. كانت الناصرية، وهى سياسة «فيدرالية» بشكل كبير على مستوى منطقة كانت غارقة للأسف فى الخلافات العربية حول أمور الحكم والقيادة.
ناصر.. رجل الأمة العربية
عندما قرر عبد الناصر تأميم قناة السويس فى ٢٦ يوليو ١٩٥٦ وجد الجيش المصرى غير المجهز نفسه فى مواجهة ضد العدوان الثلاثى الإسرائيلى والفرنسى والبريطانى الذى أراد الرد على عملية التأميم. فى مواجهة هذا التدخل غير القانونى مارست القوتان العظميان فى ذلك الوقت «الاتحاد السوفيتى والولايات المتحدة» ضغوطًا لوقف الأعمال العدائية.
حقق ناصر انتصارا مدويا فإن لم يكن انتصارًا عسكريًا، فقد كان انتصارا نفسيا كبيرا للعالم العربى كله. فقد اصبح ناصر هو الرجل الذى كانت تنتظره المنطقة بأكملها. أخيرًا فهم رئيس دولة عربى توقعات الشارع وتوج ناصر بفوزه المقدس من القاهرة إلى بغداد مرورًا ببيروت ودمشق.
فى الحقيقة، وضع هذا التأميم حدا لقرن ونصف من التدخل الغربى فى الشرق الأوسط؛ فقد أعاد هذا الحدث الكرامة والفخر الذى غالبًا ما يتم إهماله من اجل مصالح القوى العظمى.
وبصرف النظر عن تحقيق حلم القومية العربية، فإن كاريزما وجاذبية عبد الناصر تجاوزت الإطار المصري.. فصور الرئيس موجودة فى جميع العواصم العربية. لقد وجد الشعب العربى أخيرًا الزعيم المأمول. هذاالزعيم الذى يحفز الحشود بكل خطبه. لقد فهم ناصر طريقة عمل القيادة الشرقية.
وقد صيغت خطاباته بشكل جيد وكانت تندد بالظلم والانتهاكات التى يرتكبها العدو الإسرائيلى أو السياسات الغربية الاستعمارية الجديدة. وعلى المستوى العسكرى كان الرجل يمثل كل رموز وآداب الرجل القوى الذى يستمع إلى شعبه وشعوب المنطقة بأكملها.
وأصبح مثالًا يحتذى به فى جميع أنحاء الشرق الأوسط؛ لدرجة أن العديد من الدول العربية عمل على احتضان الناصرية وعلى إحياء مشروع التوحيد.
حلم «أمة عربية»
لا شك أن القوى الغربية لا تريد استقلال الدول العربية سعيًا وراء تقسيم المنطقة ودحض العروبة. إن قوى النفوذ الغربى تعارض بشدة أى خطة لتوحيد الدول العربية؛ لأن الأمة العربية الموحدة ستوازن النفوذ الغربى بشكل تلقائي؛ ولكن نظرًا لتأثير الناصرية وبسبب الصعوبات الداخلية فى سوريا اختارت دمشق بقيادة مؤسس حزب البعث ميشيل عفلق الاقتراب من القاهرة.
ومنذ استقلال سوريا عام ١٩٤٦ غرقت البلاد فى سلسلة من الانقلابات الرئاسية والوزارية والتوترات الاقتصادية والاجتماعية. وأصبحت الناصرية بالنسبة لدمشق ليست مجرد خيار افتراضى ولكنها رغبة حقيقية فى الاستقرار والتوحيد. كما اختار العراق تحالفًا مواليًا لأمريكا من خلال الانضمام إلى حلف بغداد عام ١٩٥٥ «وهو حلف من مجموعة دول قريبة من الولايات المتحدة وتقاتل ضد توسع الاتحاد السوفيتى فى الشرق الأوسط».
فى عام ١٩٥٧ أصبح المشير عبد الحكيم عامر هو القائد العام للجيشين السورى والمصري. كان هذا التداخل جزءا جوهريا من أهداف السياسة الخارجية للبلدين: مواجهة دولة إسرائيل. وتتزايد الاتصالات بين البلدين من أجل مناقشة شروط الوحدة.
بالنسبة لعبد الناصر فقد كان هذا الأمر محاولة للاستقطاب وفرض وجهة نظره على الشرق الأوسط فقد كان يرغب فى أن يضع مصر فى قلب الأمة العربية. ولذلك فقد أمر بعدم تسييس الجيش السورى كما أمر بإنشاء حزب واحد على غرار النموذج المصري. وكان الرئيس السورى شكرى القوتلى يماطل خوفًا من ذوبان كل صلاحياته فى بوتقة مصر.
وأخيرًا تم التوقيع على اتفاقية الوحدة فى ٣١ يناير ١٩٥٨ تمخض عنها إنشاء الجمهورية العربية المتحدة وتتكون من منطقة شمالية «سوريا» ومنطقة جنوبية «مصر»، كما أن ارتبط شمال اليمن أيضًا بالجمهورية لكن وضعه كان ثانويًا.
وفى نفس العام كانت المنطقة تعج بالاضطرابات.. الشارع العربى لا يغفل عن حلم القومية العربية بسبب أسبقية العروبة فهى أيديولوجية تتجاوز الاختلافات المجتمعية والدينية. فى عام ١٩٥٨ انغمس «الجار الصغير» اللبنانى فى حرب أهلية.
أنصار الناصرية فى بلاد الأرز يريدون الارتباط بالجمهورية العربية المتحدة الجديدة بينما يؤيد الموالون للرئيس كميل شمعون استقلال لبنان. وضع التدخل الأمريكى عام ١٩٥٨ حدًا للاشتباكات وفى نفس الوقت منع لبنان من الانضمام إلى الأمة العربية الفتية. التقى الرئيس اللبنانى الجديد فؤاد شهاب بشكل رمزى مع ناصر على الحدود السورية اللبنانية من أجل التفاهم حول هذا الملف وتعزيز التفاهم الجيد بين الكيانين.
حاول العراق الموالى لأمريكا الاتحاد مع الأردن عام ١٩٥٨ لموازنة أهداف عبد الناصر ولكن دون جدوى. وبعد الانقلاب الذى قام به عبد الكريم قاسم فى العام نفسه أصبحت بغداد مستعدة للانضمام إلى الجمهورية العربية المتحدة ولكن بسبب العداوات السياسية بين البعثيين والقوميين والشيوعيين والتهديدات الخارجية ظل هذا التوسع مجرد حلم.
استعار العراق بعض الدلالات والأيديولوجيات الخاصة بالقومية العربية من عام ١٩٦٣ حتى عام ١٩٩١. وتميز علم العراق بثلاث نجوم ترمز إلى المناطق العربية الرئيسية الثلاث وهى مصر وسوريا والعراق.
«اتفق العرب على الا يتفقوا».. هذه العبارة الماخوذة عن بن خلدون عالم الاجتماع العربى فى القرن الرابع عشر تلخص الصعوبات التى واجهتها الجمهورية العربية المتحدة التى لم تستمر طويلًا.
بسرعة كبيرة أفسح فوران الأيام الأولى المجال لخيبة الأمل وسوء الفهم. فإذا بمصر عبد الناصر تستقطب وتحتكر الوظائف الرئيسية بينما السوريون محصورون فى دور ثانوي. يفرض ناصر آراءه ويأمر باستقالة الوزراء البعثيين السوريين المعارضين لسياسة عبد الناصر ووقعت الأيديولوجيات المختلفة فى صراعات عديدة. فمن ناحية الناصرية تسعى فى وضع مصر فى قلب الأمة العربية، ومن ناحية أخرى فإن حزب البعث الذى لديه رؤية أكثر مساواة للمشروع يراقب الوضع.
تصاعدت التوترات بين المصريين والسوريين بدعم من القوى الخارجية. فكل بلد كان متجذرًا فى خصائصه الخاصة. على الرغم من كونهم عربًا فقد كان المصريون يتحيزون لمصريتهم والسوريون يتحيزون لسوريتهم.
وقد قررت قطاعات معينة من البرجوازية السورية الخاضعة للبيروقراطية الاستبدادية وسياسات التأميم قررت الاستقواء بالغرب كما أن العبء القمعى للإصلاحات الجديدة وانعدام التشاور وهيمنة القاهرة المطلقة أجج الأفكار الشوفينية فى دمشق. لذلك وفى ٢٨ سبتمبر ١٩٦١ قام عدد من جنرالات الجيش السورى بانقلاب ليضعوا بذلك حدًا لتجربة الجمهورية العربية المتحدة التى لم تستمر كثيرا.
وجدت القومية العربية، التى حفزت الجماهير بعد تأميم قناة السويس فى عام ١٩٥٦، نفسها ضعيفة بعد الفشل الذريع للجمهورية العربية المتحدة. وفى الحقيقة، لم يقدر ناصر الصعوبات التى تواجه هذا المشروع؛ بل كان هو نفسه ضحية نجاحه ولم تكن لديه الوسائل اللازمة لتحقيق طموحاته وآماله.
معلومات عن الكاتب:
ألكسندر عون صحفى فرنسى من أصل لبنانى متخصص فى قضايا الشرق الأوسط.. يأخذنا فى رحلة ذات مغزى معه تجربة الوحدة العربية بين مصر وسوريا التى انتهت فى 28 سبتمبر 1961.