تحتفل الكنيسة القبطية الأرثوذكسية خلال الفترة الحالية بصوم السيدة العذراء مريم، وهى فترة تتسم بالفرح والخشوع في قلوب المسيحيين، حيث تهتم الكنائس التى تحمل اسم "السيدة العذراء مريم" بعمل نهضات روحية، تشمل إقامة الصلوات والتماجيد والتسابيح، إلى جانب إلقاء الكلمات الروحية المختلفة، لتكون هذه الفترة بمثابة بناء روحي وفرصة لرفع الصلوات والطلبات إلى الخالق، إلى جانب كون هذه الفترة مناسبة لتجديد الحياة الروحية.
«البوابة نيوز» حرصت على التواجد داخل أشهر الكنائس التى تحمل اسم العذراء مريم، حيث قامت بجولة في كنيستي "العذراء حارة زويلة"، وكنيسة "العذراء قصر الريحان"، للتعرف على تاريخ تأسيس الكنيستين وسر شهرتهما، وارتباط الأقباط في كل مصر بهما، ليس فقط خلال فترة صوم السيدة العذراء ولكن على مدار العام وفي مختلف المناسبات.
بنيت كنيسة العذراء «قصر الريحان» فى القرن الخامس الميلادى ضمن مجموعة من الكنائس داخل نطاق حصن بابليون الذى كان مقراً للحامية الرومانية فى هذه المنطقة، إلا أنها اندثرت فى عصور الاضطهاد المذهبى وتذكر المراجع القديمة والمخطوطات الأثرية الموقوفة على الكنيسة أن المنطقة الموجود بها هذه الكنيسة كانت تسمي (درب التقى).
كما كان الزقاق المؤدى لها كان يسمى (زقاق بنى الحصين) نسبة إلى حصن بابليون الذى يضم هذه الكنيسة وبعض الكنائس الأخرى وهى من أقدم الكنائس الأثرية التى ما زالت قائمة وموجودة فى مصر حتى الآن، بالرغم ما تعرضت له عبر الزمان من عوامل سواء طبيعية مثل الزلازل أو إنسانية مثل تعمد الهدم أو تغيير الهوية إلا أنها وقفت شاهدة على قوة ذراع الله التى حمت هذه الكنائس على مر العصور.
وتشتهر هذه الكنيسة باسم "قصرية الريحان" ولهذه الشهرة سبب، فمنذ القرن الرابع عندما أعلن الإمبراطور قسطنطين الديانة المسيحية كديانة رسمية للدولة، اهتم الأقباط ببناء الكنائس وإطلاق أسماء القديسة العذراء مريم والملائكة والرسل والشهداء على هذه الكنائس، ولتميزها بعضها عن بعض وخصوصًا كنائس العذراء مريم فأطلقت عليها بعض الصفات، مثل المغيثة (بحارة الروم) والدمشيرية (بمصر القديمة) وحالة الحديد (بحارة زويلة).
أما كنيستنا هذه اسم شهرتها جاء من واقعة تاريخية، حيث إنه فى أيام البابا خائيل الثالث (880 ــ907 ميلادية)، وكان محل إقامته بكنيسة العذراء المعروفة بالمعلقة، حدث أن أحد أرخنة الأقباط في عصر الدولة الطولونية وكان اسمه يوحنا أبو مقارة قد وقع عليه ظلم بين، فتشفع بالسيدة العذراء أن تنجيه مما هو فيه وكعادتها أم النور فى تلبية كل من يطلبها فلم تخيب رجاؤه فيها وتجلت له بهيئة نورانية، ووعدته بنهاية مشكلته وطلبت منه إعمار كنيستها التى كانت قد اندثرت وأوضحت له مكانها الحالى وأوضحت المكان بعلامة، حيث يجد «إصيص» مزروع به نبات ذكى الرائحة هو نبات الريحان BASIL من هنا جاءت التسمية (قصرية الريحان).
وفعلا ذهب هذا الأرخن إلى هذا المكان ووجد «إصيص» نبات الريحان، ونقب عن أطلال الكنيسة وأعاد بناءها بصورة جميلة تليق بكنيسة السيد المسيح وأمه السيدة العذراء مريم وتخليدا لتذكار هذه الواقعة زينت نوافذ الكنيسة بمناظر «لإصيص الريحان»، وكانت مصنوعة من الزجاج المعشق على شكل إصيص به نبات يرمز إلى إصيص الريحان (قصرية الريحان)، كانت تنفذ منها أشعة الشمس لتتلون بألوان جميلة تضفى على المكان صبغة روحية لتذكر المصلين بقوس قزح الذى صنعة الرب ليكون عهدا بينه وبين البشر بعد الطوفان.
وفى قول آخر قاله الدكتور فتحى عثمان وهو عالم أثرى إن لفظ الريحان أطلق على المنطقة الشمالية من حصن بابليون نسبة لأحد قواد جيش عمرو بن العاص الذى دخل الحصن من بوابته الشمالية، وهناك رأى آخر أن الاسم كان «قيصرية الريحان» حيث كان يطلق على أماكن السوق التى تأخذ فيها رسوم باسم القيصر على البضائع الداخلة والخارجة من السوق، هذه اللفظة نسبة للقيصر أو الحاكم أيًا كان سبب التسمية إلا أنها شاعت وانتشرت وتميزت بها هذه الكنيسة.
وأشار تاريخ البطاركة إلى أن البابا خائيل الثالث كان يقيم فى هذه البيعة أحياناً ويخرج منها لمقابلة الوالى أحمد بن طولون فى مدينة القطائع (حى السيدة زينب عند مسجد أحمد بن طولون)، عندما فرض هذا الحاكم ضرائب باهظة على الأقباط، وكان يذهب للتفاوض فى هذا الأمر، وكان ذلك فى عام 895م وبعد هذا التاريخ جددت الكنيسة أكثر من مرة، كان آخرها فى عام 1494 للشهداء الموافق 1778 م (فى حبرية البابا يؤنس 18 وفى ولاية على بك الكبير ومراد بك، أيام كان فيها المعلم إبراهيم الجوهرى كبير كتاب مصر).
وهذا التاريخ كان مدون على حجاب الهيكل، والذى كان يعتبر تحفة فنية حيث كان مصنوعا من الخشب المعشق والمطعم بسن الفيل والصدف، وكان تحفة فنية رائعة من الفن القبطى فى هذا العصر وكان محل اعجاب كل من يشاهدة، وهناك أيضا صندوق من الفضة مطعم بالاحجار الكريمة كانت تضع فية نسخة من الإنجيل (البشارة) ويستخدم فى الطقوس الكنسية ومدون عليه صنع بتاريخ 1424 للشهداء الموافق 1704م ومدون عليه أنه وقف أبديا على بيعة العذراء قصرية الريحان وهذا الصندوق محفوظ فى المتحف القبطى ومن أندر مقتنياته.
كما توجد ضمن مخطوطات الكنيسة كتاب البصخة قبطي وعربي تاريخه 1054 للشهداء الموافق 1338م، وكانت هناك أيضا أيقونة رائعة للسيدة العذراء مريم في المقصورة الأولى على يمين الداخل للكنيسة كان مدون عليها تاريخ صنعها في 1092 للشهداء، وهذا يدل على الكنيسة التي كانت كائنة في كل هذه العصور.
أما كنيسة العذراء مريم في حارة زويلة فقد كانت مقــرًا بابويًــا لــ23 بطريركا ولمدة 360 ســنة مــن عــام 1300 م إلــى 1660، ويذكر المقريزي أن كنيسة السيدة العذراء الأثرية بحارة زويلة يرجع تاريخ تأسيسها إلى ما قبل الفتح العربي لمصر بحوالي مائتي عام وبالتقريب في عام 352 ميلادية.
ويقول القس متياس كاهن كنيسة السيدة العذراء بحارة زويلة لموقع "البوابة" إن الكنيسة بنيت عام 352 ميلادية وأسسها شخص اسمه الحكيم زيلون، وهو ما ذكره المقريزري، وهي من القرن الرابع، ولها قيمة كبيرة عند الأقباط، وكان مقرا للأباء البطاركة بدأ من البطريرك الـ80 وحتي البطريرك الـ102 من باباوات الكرسي المرقسي.
وأشار متياس إلى الكنيسة تزخر أيضا بالأيقونات، وهى أيقونات من القرن الـ18 والقرن الـ19، ويوجد أيضا بالكنيسة أيقونة شهيرة تمثل السبع أعياد السيدية ويرجع تاريخها للقرن الـ12، كما يوجد بالكنيسة 36 عمودا، وكل تاج لهذه الأعمدة يشهد على عصر معين من العصور التى شهدتها مصر على مدى تاريخها، "الفرعوني واليوناني والإسلامي والقبطي".
وأضاف أن الكنيسة تبتعد عن سطح الأرض بنحو 4 أمتار وهو ما يثبت أقدميتها، كما يحيط الكنيسة بكل جوانبها المياه الجوفية، لافتا إلى أن الكنيسة بنيت في هذا المكان، لأن العائلة المقدسة مرت في هذه المنطقة واستراحت وهى في طريقها من منطقة المطرية إلى مصر القديمة، لذلك اختار الحكيم زيلون هذا المكان لبناء الكنيسة فيه، موضحا أن الكنيسة يوجد بها 4 مذابح على اسم الملاك غبريال ومذبح على اسم السيدة العذراء مريم، وآخر على مذبح رئيس الملائكة الجليل ميخائيل، ومذبح باسم القديس يوحنا المعمدان.
ويدل موقع كنيسة السيدة العذراء بزويلة علي أنها من أقدم كنائس القاهرة الفاطمية، الأمر الذي يوضح ويؤكد زيارة العائلة المقدسة لهذه البيعة المباركة كما أن وضع الكنيسة طبوغرافياً في الوقت الحالي لا يترك مجالاً لأدني شك بأن هذه الكنيسة قدمها ضارب في أعماق التاريخ ويساعد علي ذلك أيضاً انخفاضها عن مستوي الأرض وما حولها من مبان وعقارات بعمق حوالي خمسة أمتار.
تأسست كنيسة السيدة العذراء هذه قبل أن يقوم جوهر الصقلي بتأسيس مدينة القاهرة بحوالي ستة قرون، وقد ذكر لنا أفيلينو بأن هناك مخطوطة قبطية مقرها المكتبة الأهلية بباريس قد ورد بها أسماء كنائس في مواقع شتي بالقاهرة بعضها يقع في قاهرة المعز وهي (كنيسة السيدة العذراء مريم الأثرية) بحارة زويلة كما جاء ذكر كنيسة عذراء زويلة بمخطوطة اللورد «كوفورد» تحت اسم : (كنيسة والدة الإله مريم بحارة زويلة).
وفي كتابه «كنائس وأديرة مصر» يحدثنا الشيخ المؤتمن أبو المكارم سعد الله بن جرجس وكان قد خطه في الفترة ما بين عامي 893ش – 920ش. يقول: إن هذه الكنيسة قد شهدت تجديداً في أواخر القرن الثاني عشر الميلادي اشترك فيه أبو المكارم والأرشيدياكون أبو سعيد ابن جمال الكفاءة وغيرهما، ومن تاريخ مصر يتضح لنا أن هذه الفترة هي فترة الحافظ والظافر وقد سمحا بترميم الكنائس التي تحتاج إلى ترميم.
كما يحدثنا أبو المكارم عن الزخارف التي كانت موجودة بكنيسة السيدة العذراء بحارة زويلة في أيامه فيقول: «إنه كان في جاق» هذه البيعة صورة مخلصنا يسوع المسيح له المجد في العرش والأربعة وجوه حاملته ليس لها شكل ولا مثال في جميع ما صور في المسكونة وهى موجودة حتى الآن إلا أنها تحتاج إلى ترميم.
كما يشرح لنا بأنه على يسار الداخل إلى كنيسة السيدة العذراء بزويلة توجد ثلاث صور تحدث عن واحدة منها مسجلاً بأنها كانت للقديس مارجرجس والتي رسمها الراهب مقارة ونظراً لارتباط كنيسة السيدة العذراء الأثرية بدير راهبات السيدة العذراء بزويلة فيجدر بنا أن نتذكر بأن أول إشارة تاريخية مسجلة تؤرخ لدير الراهبات بحارة زويلة هي التي وردت في «خطط المقريزى» (ت1442م).
وفي الخطط التي كتبها المقريزى مؤرخاً لتاريخ مصر يحدثنا عن الآثار التي عاصرها في حياته، ومنها الكنائس والتي اكتفى بذكر أسمائها. وقليلاً ما سجل وصفاً وإشارة عن هذه الكنائس. لكن المقريزى سجل عن كنيسة السيدة العذراء الأثرية (أنها عظيمة عند النصارى) أي المسيحيين المصريين.