تحيي الكنيسة الكاثوليكية ذكرى وفاة القديسة راديغوند ملكة فرنسا.
ولدت راديغوند سنة 519م في إحدى مدن ألمانيا وتعرف اليوم ببلاد طرنجة.
وكان ابوها اسمه برثاريوس أحد موالي فرنسا متملكًا على البلاد المذكورة. وفى سنة 529م حدث أنه غلب في حرب نشبت بينه وبين ملك فرنسا واسم أحدهما الملك ثياري الأول والآخر كلوتاريوس الأول.
فوقعت هذه الابنة غنيمة للناهبين المظفرين وسبيت إلى فرنسا مع أخ لها كانت توده موده شديدة. فهام في حبها كلا الملكين ثياري وكلوتاريوس، ورام كل منهما أن يتخذها خطيبة له. وأخيرًا اختصها له كلوتاريوس.
وكان هذا الملك فظًا قاسيًا. فأرسلها الى إحدى مدنه وأمر أن تهذ تهذيبًا محكمًا. وبذل جل همته بتثقيفها في إتقان الآداب والبيان قاصدًا بذلك أن تكون امراته يومًا.
فعكفت على الدرس والمطالعة ورغبت جدًا في التقوى ولم يمل قط قلبها ولا انعطف إلى الملذات الدنيوية ولا تاقت نفسها الى الاشتراك في العرش الملوكي مع الظافر الباغي.
بل بقيت وتبين لرفيقاتها الدارسات ما قد استولى على قلبها من مزيد الحب للاستشهاد. ولم تكف من أن تتذكر المقتلة العظيمة وما شاهدته من خراب مملكة أبيها بعد أن مر على ذلك ثلاثون سنة ما قد أرعب صبوتها وأقلقها على الدوام وجعلها تذرف الدموع الغزيرة وتندب حظها قائلة:
ويحي لقد استولى على الأعداء ونفوني من موطني وقادوني الى هنا ذليلة بعد أن عاينت بعيني ردم قصر أجدادي. واها لقد شاهدت بيت أبي ساقطًا في الذل والهوان. ورأيت أهلي وقومي النجباء الأكياس مأسورين وفاقدين الكرامة.
فيا له من مشهد مريع ومحزن حينما رأيت ابي وعمى مذبوحين وجثتيهما مطروحتين على الأرض وتاجيهما الذهبيين ملقين في التراب معدومين من كل وقار وإكرام. يا حسرتي لقد شاهدت جميع القتلى أحشرت في قبر واحد والنساء مسحوبات إلى الأسر مغللات الأيدي مسدلات الشعر حافيات الأرجل. واما أنا فبقيت وحدي في الحياة لأرثيهم واندبهم باكية نائحة.
ولما بلغت ثماني عشر سنة من العمر وعلمت أن الملك مجد في تجهيز العرس عازم على إتمامه بعد فترة قصيرة. خرجت من القصر الذي كانت مقيمة فيه الواقع على ساحل النهر وركبت سفينة هاربة سرًا تحت ستار الظلام.
فلما علم الملك بذلك أرسل من استعقب أثرها وجاءه بها الى داره. وبعد زمن قليل تزوج بها باحتفال ورهج عظيمين. وصبا إليها منشغفًا بهواها. ولفرط حبه لها أخذ يشكو عدم الفتها له وتواصلها وكراهيتها الملاذ الدنيوية. وكان الملك يقول ان زوجتي ليست بملكة بل انما هى راهبة. فكانت تنعكف على أعمال التقوى والعبادة والقراءات الروحية.
كانت تسعف الفقراء وتبذل الاحسانات والصدقات بسخاء جزيل معتنية اعتناء خصوصيًا في إدارة مستشفى إقامته في مملكة اثياس حيث قضت سني اسرها الأولى. وخدمت فيه بنفسها جميع المرضى. وذات يوم قتل زوجها أخاها وهو صغير السن وكانت تحبه محبة عظيمة لأنه كان رفيقها في الأسر. فاغتمت راديغوند غمًا شديدًا وامتلأ قلبها حزنًا عليه.
فقالت يومًا وهي تتنهد:" أني شعرت بنفسي كأن نير العبودية قد تجد وتضاعف". وبعد فترة من الزمان نالت بغيتها فأذن له أن تهجر القصر الملوكي. فتركته وخرجت من مدينة سواسون ورحلت الى نويون. فقصدت أسقف المدينة مار ميدرد، فعرضت نفسها بين يديه وطلبت منه أن يكرسها لخدمة الله. فرفع يديه ووضعهما على راسها وكرسها خادمة لله.
فإنها أخذت منذ حينئذ تطوف الكنائس والهياكل موزعة عليها مما لها من الجواهر والحلى الثمينة الملوكية. ثم رحلت الى مدينة بواتييه. وشيدت ديرًا فىها لتنفرد فيه عن العالم وانفردت فيها لتعيش في عزلة فانعكفت على التقشف والحياة النسكية ملازمة خدمة الفقراء والمرضى بمختلف العلل. واهتمت أيضا بإنشاء دير للرهبان محاذيًا لديرها، لكى يقوم هؤلاء بتدبير ديرها ويوزعوا على الراهبات الأسرار المقدسة.
ولم تبرح رادغنده تجهد نفسها في المطبخ وتوقد الأثافي والتنور وتستقى الماء وتحمل أحمال الخشب وتغسل الأواني وتكنس الأرض وتنظف أحذية الراهبات. وكانت تنفرد في قلايتها مدة أيام الصوم الكبير وتحبس ذاتها فيها وتقتات من بقول وعروق نباتات مطبوخة. مع قراءة الكتب المقدسة وسير القديسين.
وعندما عقد المجمع الثاني في تورس طلبت راديغوند من الأساقفة الملائمين هناك أن يثبتوا قانونًا لديرها في شأن الخلوة المؤبدة حسب قانون القديس قيساريوس. وسعت بجلب جزء من عود الصليب المقدس ووضعته في الدير بكل توقير ولقبت ديرها باسم الصليب المقدس.
وتوفت القديسة راديغوند في الرب بعد حياة مملؤة بالقداسة والمحبة في 13 أغسطس سنة 587م. فكان وجهها في التابوت يزاد بهاء وجمالا وهي محتاطة بمائتي راهبة وهم يرتلن أناشيد الوداع.