بما أن الحديث عن الشاعر الكبير صلاح عبدالصبور في هذا العدد الاحتفائي به، كان ولا بد أن نبحث عن تساؤل وقضية تم إثارتها من قبل ولم نحصل على إجابة وافية، ألا وهو هل تراجع المسرح الشعري العربي؟ أم أن ما لدينا من محصلة للأعمال الدرامية المسرحية الشعرية لم يكن سوى تجارب منفردة ومتفردة ولم تنكر، وفي إطار محاولتنا لفتح هذا المجال من التساؤلات حول المسرح الشعري، وقد نصل إلى إجابة أو قد لا نصل.. فدائمًا ما يكون إثارة التساؤل أهم من الوصول إجابة واضحة إليه، ليكون أول حجر يُرمى في المياه الراكدة لنقف بشكل ما أو بآخر حول تلك الإشكالية حول المسرح الشعري؟ وهنا تحاول البوابة الولوج إلى ماهية المسرح الشعري العربي والذي جسده الشاعر الكبير صلاح عبدالصبور ويحاول الإجابة على ذلك كل من الدكتور سيد الإمام أستاذ الدراما والنقد المسرحى، والدكتورة نجوى عانوس أستاذ النقد المسرحى بكلية الآداب جامعة الزقازيق والمؤرخ المسرحي الدكتور عمرو دوارة، حول المسرح الشعري وصلاح عبدالصبور والذي أحدث طفرة ونقطة تحول في المسرح الشعري استطاع أن يرسم طريقا جديدا نحو المسرح العربي لكنه ظل مشروعًا فرديًّا بالرغم من حدود نصوصه المسرحية والتي جاءت في خمس نصوص مسرحية وهي «مأساة الحلاج، ومسافر ليل، والأميرة تنتظر، وليلى والمجنون، وبعد أن يموت الملك»
الدكتور سيد الإمام: «عبد الصبور» ذروة أدائه الفنى فى الأميرة تنتظر واستطاع أن يوحد الصورة المسرحية بالصور الشعرية
في البداية، تحدث الدكتور سيد الإمام حول الدراما الشعرية والمسرح الشعري قائلًا: "من المسلم به، لدى الدارسين، أن الدراما بدأت شعرية منذ أدركها الإغريق الأقدمون، حتى اخترقتها الكتابة النثرية بالتدريج منذ القرن الثامن عشر، في ترافق مع صعود الطبقة البرجوازية.
وكان منحى الكتابة الشعرية للدراما، إثبات عمق موهبة الشاعر وقدرته علي الحركة بين أصوات الشعر الثلاثة، من الغنائي الذي يتغني بالهموم والمشاعر الذاتية، إلي الملحمي الذي يروي عن الغير، إلي الدرامي الذي يهرب جوهريا من الذاتية إلي موضوعية تمثل الآخر بصفته شخصية مفترضة مهما امتدت جذورها وتفرعت في أرض الواقع المعاش. ولكن مع سيادة ذائقة الطبقة البرجوازية، ولا سيما الصغيرة، في القرن التاسع عشر سادت في الوقت نفسه كتابة الدراما بالنثر، بسيادة نظرية الواقعية في الإبداع، التي ارتأت الواقع المعاش والمظاهر التي تدركها الحواس إن هي إلا معيار الصدق في العمل الأدبي والفني، وبات الشعر- في المقابل- ضيفًا غريبًا في عوالم الإبداع الدرامي، حيث مطلب الحضور الحي للجمهور بإزاء العمل في الفراغ المسرحي.
إليوت وصلاح عبدالصبور
وتابع الإمام:«وربما كان "توماس ستيرنر إليوت١٨٨٨- ١٩٦٥" آخر كتاب الدراما من الشعراء العظام في أوروبا، ابتداء من (الصخرة/١٩٣٤)، مرورا برائعته (جريمة قتل في الكاتدرائية)، (التئام العائلة/١٩٣٩)، (حفل الكوكتيل/ ١٩٤٩)، (الموظف الموثوق/١٩٥٣)، انتهاء بمسرحيته (رجل الدولة الكبير/١٩٥٨). وكان "إليوت" ذا أثر كبير علي شاعرنا "صلاح عبد الصبور/١٩٣١- ١٩٨١"، منذ تمثل (جريمة قتل في الكاتدرائية) في باكورة إنتاجه الدرامي (مأساة الحلاج/١٩٦٤). والواقع أن إدراك حقيقة هذا الأثر ومداه يقتضي الإلمام بما كان عليه المسرح الشعري في مصر والمنطقة العربية قبل "عبدالصبور"، أي منذ محاولات "أحمد شوقي/١٨٦٨- ١٩٣٢"، و"عزيز أباظة/ ١٨٩٨- ١٩٧٣".
شوقي وأباظة
مستكملًا:«وبغض النظر عن عمق الخبرة أو الموهبة الدرامية، سواء عند "شوقي" أو "أباظة"، لم يستطع الأداء اللغوي في أعمالهما تجاوز القيود التي فرضها عليهما تراث الشعر العمودي: القافية، وحدة البحر أو الميزان الشعري والعناية التي تكاد تكون مفرطة بوحدة البيت لا وحدة القصيدة ككل حي. وقد أخلت هذه القيود- من ناحية ثانية - بما يقتضيه تحول وتطور فكر وشعور وانفعال الشخصية الدرامية داخل الموقف الواحد، بل في العمل ككل، مما أدي- بالتبعية- إلي الرتابة وتواصل الإيقاع الخارجي المستمد من تكرار القافية ووحدة البحر، بل كثيرا ما نفاجأ بتقسيم كلمات البيت، بل والشطر، علي الميزان نفسه بين شخصيات متعددة، رغم ما بينها من تنقاضات في الفكر وإيقاع الشعور. وعلي مستوٍ آخر، التزم الشاعران، لاسيما "أباظة"، بجزالة الألفاظ حتى ولو كانت مهجورة أو عفى عليها الزمن منذ قرون ولم يعد لها وجود إلا في القواميس، بحيث تتطلب الشروح المطولة في هامش النص الدرامي المنشور!، وقد أثقل هذا الالتزام كاهل الأداء اللغوي، ليتعثر به الأداء التمثيلي علي المسرح من ناحية، ووعي المتلقي- من ناحية ثانية- الذي أصبح تنقصه المذكرة التفسيرية لما يسمعه أو يراه!.
عبدالصبور والتحرر من القالب الشعري
علي أن ما التزم به "شوقي" و"أباظة" في الأداء اللغوي، راح يتعرض- عموما- لضربات موجعة وحاسمة من مدرسة بغداد الشعرية في أواخر أربعينيات القرن العشرين، بينما يوشك "عبدالصبور" أن ينهي دراسته الجامعية، سواء من خلال "نازك الملائكة/١٩٢٣- ٢٠٠٧" التي نشرت قصيدتها (الكوليرا/١٩٤٧)، أو من خلال جهود زملائها في الفترة نفسها: "بدر شاكر السياب"، "شاذل طاقة" و"عبدالوهاب البياتي". فتحررت هذه المدرسة من قيود وفلسفة الشعر العمودي، وأعلنت الشعر الحر بخيار التفعيلة متفاوتة العدد بين الأسطر، وبإدراك الوحدة الشعورية للقصيدة ككل، وتنوع إيقاع النفس بين الأسطر.
ويجدر بالذكر أن "عبدالصبور"، وكثيرا من أبناء جيله من شعراء هذه الحقبة، تواصلوا مع مرامي مدرسة بغداد وفلسفتها. وتميز- بتأثير "إليوت "علي الأرجح- بإعادة الاعتبار لقاموس الألفاظ والأصوات المتداولة في الحياة اليومية، وأعطاها ثقلا شعريا في أدائه اللغوي. فاتسع- بالتبعية- قاموس عبد الصبور الشعري، بقدر ما تعددت الروافد إليه من دروب وألسنة العامة في القطاعات الشعبية، مما تواءم- علي مستوى آخر- مع تنوع المشارب الثقافية التي من المفترض أن تنهل منها الشخصيات الدرامية، وتحاشي- في الوقت نفسه- المهجور والنابي وغير المطروق من الألفاظ، فجاء شعره متألقا سلسا متدفق الإيقاع ميسور الفهم والتداول.
قاموس مفردات عبدالصبور
وتابع الإمام: "وفي هذا السياق، تكفي الإشارة إلي قاموس الألفاظ التي أدرجها علي ألسنة العامة بتنويعاتهم في مفتتح (مأساة الحلاج) وعلي لسان السجينين الأول والثاني في المسرحية نفسها، وألسنة الجواري في (الأميرة تنتظر)، والقاموس المهني المستمد من عالم القطار والركاب في (مسافر ليل). وعلي هذا النحو سمح "عبد الصبور" للشخصية الدرامية أن تفرض نفسها بقاموسها وثقافتها علي أدائه اللغوي، فأكسبها مصداقية فنية قلّ أن تكتسبها في أداء شاعر درامي آخر من الشعراء العرب".
ومن ناحية أخري، تحاشي "عبدالصبور"، إلا فيما ندر، تفعيلات البحور ذات الفصلات الصغري، مثل تفعيلة بحر الكامل، "متفاعلن"، التي تتطلب نفسا طويلا ورنانا في الأداء التمثيلي قد يوحي بالافتعال ويكشف الصنعة، وهو ما تورط فيه "عبدالرحمن الشرقاوي/١٩٢٠- ١٩٨٧"- مثلا- في كثير من خطاب "مهران" في مسرحيته (الفتي مهران/١٩٦٥). واعتمد غالبا علي تفعيلة بحر المتقارب، "فاعلن"، التي تنقلب إلي تفعيلة بحر المتدارك، "فعولن"، وكلاهما يؤدي إلي إيقاع نشط وحيوي، وجمل قصيرة ميسورة التقطيع في الأداء التمثيلي، كما أنها أقرب إلي تنويعات الإيقاع الممكنة في حديث الحياة اليومية. وبهذا استطاع أن يخضع متطلبات الشعر إلي متطلبات الدراما ومتطلبات المسرح معا، حيث الأداء التمثيلي الحيوي.
الصوت الدرامى
وإذا ما كان صوت الشاعر الدرامي أدعى إلى الهروب من الذاتية، فالراجح أن مزاج عبدالصبور الشخصي بجانب مزاج الفترة التي أفرز فيها خيوط شعره الحريرية، تحالفا باتجاه تحقيق هذه المزية في أعماله الدرامية الخمس: (الحلاج)، (ليلي والمجنون)، (الأميرة تنتظر)، (مسافر ليل) و(بعد أن يموت الملك). فهذه الأعمال جملة، تتناول- برغم تنوعها- قضية مركزية لا شخصية، ألا وهي قضية تغيير الواقع الاجتماعي السياسي، ودور الفرد الحالم في إحداث هذا التغيير، ولو دفع دمه ثمنا له. ومن اليسير، بقليل من تأمل ودراسة أعماله، ملاحظة أنه وفق توفيقا بارعا بين ما هو ذاتي وما هو موضوعي، باستخدامه تكنيك "الشخصية القناع" الذي أجاده كتاب الدراما الرومانسية من أمثال "فيكتور هيجو/١٨٠٢- ١٨٨٥".
وفي هذا التكنيك يتخير الشاعر بطلًا بمواصفات معينة، بحيث يمكنه بسهوله أن يختبئ وراءه، ويعيد تجسيد ذاته خلالها، ليعبر رؤيته الذاتية لعالمها. ولعل هذا ما يعود ليفسر السمات المتكررة التي تتردد بين "الحلاج"، سعيد في (ليلي والمجنون)، القرندل في (الأميرة تنتظر)، راوي (مسافر ليل) والشاعر في (بعد أن يموت الملك)، ففيها جميعا بطل يملك الحلم أو مجموعة الأفكار التي يمكن تغيير الواقع العقيم في ضوئها، ولكنه- في الوقت نفسه- عاجز عن تحقيق حلمه أو امتلاك القدرة، سلطة اتخاذ القرار وتنفيذه، علي ذلك، بقدر ما يعجز عن الاقتراب من البطلة التي يحبها، وهي غالبا ما تكون رمزا للوطن.
عبدالصبور وتوحيد الصورة الشعرية
وعلي أية حال، لقد بلغ "عبدالصبور" ذروة أدائه الفني في (الأميرة تنتظر/١٩٦٩)، حيث استطاع أن يوحد الصورة المسرحية: تفصيلات الكوخ الذي انتفت فيه الأميرة، الحركة، الأشخاص، الملابس والإرشادات، بالصور الشعرية أو بالأداء اللغوي، فأضفى علي بلاغة الشعر الزمنية طابعا بصريا أخاذا، ونقل المسرح الشعري إلي مستوى شعرية المسرح. ولأنه ابن واقعه وتحولاته التاريخية، فقد أسكت صوته الدرامي بنهاية البطل التاريخي لهذه الفترة في سبتمبر ١٩٧٠.
تراجع المسرح الشعري
وفي محاولة الإجابة عن تساؤل لماذا تراجع المسرح الشعري قال الدكتور سيد الإمام: «إنه لم تستطع الحركة الشعرية- في تقديري- أن تفرز من يعوض عن فقدان صلاح عبدالصبور في المسرح، باستثناء الشاعر "محمود نسيم/١٩٥٥- ٢٠٢١" الذي قدم (مرعي الغزلان)، الغرفة، (أمواج)، وإن لم تمثل له سوي مسرحية (الغرفة) من إخراج "عبدالستار الخضري" علي مسرح الهناجر في التسعينيات. وقد يرجع ذلك إلي تغيرات المناخ العام التي أدت إلي استغراق الشعراء في مشكلات الاغتراب الذاتية والمجتمعية من طرفين متقابلين، وعجزهم- بالتبعية- عن مطاوعة متطلبات الصوت الدرامي، أو الاقتراب من دوائر الإنتاج المسرحي العاملة.
الدكتورة نجوى عانوس: تراجع المسرح الشعرى يعود لعدم إلمام بعض الكتاب باللغة العربية
أما الدكتورة نجوى عانوس والذي صدر لها مؤخرا كتاب «التراث الفرعوني في المسرح المصري» والصادر عن دار المعارف قد قدمت من خلاله رؤية نقدية مختلفة عن صلاح عبدالصبور، حينما خصصت فصلا كاملا في كتابها عن التراث الفرعوني في مسرحية «بعد أن يموت الملك» وهي إحدى مسرحيات عبدالصبور والتي لم تلق مثل نظيراتها من المسرحيات الشعرية له في الإنتاج، وربما كما أوضحت عانوس في تصريحاتها لـ «البوابة» بانه نص صعب ولا يستطيع الجميع أن يفهمه ويقدم على إخراجه.
وتقول الدكتورة نجوى عانوس أن صلاح عبدالصبور في بعد أن يموت الملك يمدنا العنوان بوسيلة قوية لتشويق المتلقي للاندماج في المسرحية، فهو أول ما يتلقاه المتلقي وآخر ما يكتبه الكاتب، فالملك يموت ويشير الفعل المضارع إلى أنه ما زال يموت ولم يمت ولن يموت، فيستدعي فعل الموت لدى المتلقى المصري للوقوف إلى كلمات الموت، وهي الكلمة التي تحتص بها الحضارة المصرية القديمة بين مختلف الحضارات حول الموت والبعث والخلود في قلب الحياة، وهو ما كتب على جدران المقابر ومحتوياتها".
مضيفًا: " إلى أن صورة الملك الثابت في الماضي – الحضارة المصرية القدينة – المتجسدة في الملك الإله إلى تجلي الملك المؤله – أي الذي ألهه الشعب، والذي يتمتع بالسلطة والنفوذ ومن هنا يجعل صلاح عبدالصبور المتلقي يتساءل هل الملك هو الإله الفرعوني الثابت صاحب السلطة أو الهيمنة أم هو الحاكم المتحرك الذي يكتسب قوته من علاقته بالشعب"
لافتًا غلى أن صلاح عبدالصبور قد كتب مسرحيته في أواخر عام ١٩٧١ وأنه بالنظر إلى اللحظة التاريخية في تلك الفترة وهي وفاة الرئيس جمال عبدالناصر بعد هزيمة ١٩٦٧ وتولى الرئيس أنور السادات مقاليد الحكم وقام بحركة التصحيح في مايو ١٩٧١، وتم عرض المسرحية في مارس ١٩٧٤، ويقول عبد الصبور فيها "أن لكل عمل فني كلمة يقولها" والكلمة هنا اختلاط الأمرين الماضي –الثابت الإلهة- والحاضر –المؤله-، وهذا الاختلاط أدي إلى هزيمة أو نكسة، ونجد الشاعر يقول على لسان المراة الأولى «وهذه المسرحية عن آخر ملك مات منذ ثمانية أعوام وخمسة أشهر وقد يسأل سائل ذكي " ملك أي البلاد كان هذا الملك؟" وتقول إن المملكة لم تعرف طوال تاريخنا ملكًا غيره، وكان المصريون القدماء يتحاشون ذكر اسم الملك فيقولون الملك أو الإله أو حورس، ويقول صلاح عبدالصبور "فربما يكون اسمه أنوبيس الأول وجورجياس التاسع وابن طولون الثالث ولويس الرابع والثلاثين وعبد الرحمن الخماس.. إلى خر" أي في عهدة الحضارة المصرية القديمة، كما نجد أن أغلب المسرحيات التي ألفها صلاح عبدالصبور كان متأثرًا بالحضارة المصرية القديمة وما خلفته من تراث حضاري"
وأضافت عانوس:"انها حاولت تقديم قراءة جديد لأعمال صلاح عبدالصبور، والذي نجده في بعد أن يموت الملك وهو طقس فتح الفم لإخراج طائر الموت من فم الملك، وهو طقس فرعوني يتم خلال عملية تحنيط الموتي، وهو ما نقله عبدالصبور، كما ان عبد الصبور استلهم أو استخدم رمزية اللون حيث تتغير رموز الألوان من الماضي وحتى المستقبل، حيث جسدت نكسة ٦٧ والتي خلفت شعارً ورمزًا مختلفًا، إذ إن تيير الألوان هنا يوحي بالتغير الثقافي لاسيما في مرحلة التغير الاجتماعي، وهنا يبرز أهمية استخدام عبدالصبور اللون ومدى قدرته على تزييف الوعي وايهام الشعب بأن ثمة تغيرات ذلك من أجل ضمان الاستمرار الأبدي لرجال السلطة في الحكم، وهو ما جسده الحوار الدائر بين المؤرخ والملك حينما قال له "البس ثوبا أبيض يغدو قلبك أبيض " ليرد عليه الملك متسائلًا " لم أبدلناه؟، ويرد المؤرخ دعني أسال أوراقي يا مولاي، كنا عندئذ ندعو للنسيان الأبيض، ولطرح الماضي في الأكفان البيضاء ومواجهة الأيام القادمة بفكر أبيض.
وتؤكد عانوس على أن صلاح عبدالصبور قد اتخذ من اللون الأبيض هنا كرمز للنسيان كنسيان الهزيمة ووضع الهزيمة على الأكفان البيضاء لتواجه مستقبلا بفكر جديد أبيض، وعندئذ تتنقل وتتغير المرحلة من مرحلة النسيان إلى مرحلة الفناء في الذات الملكية والخضوع والاندماج فيها وإلى الوصول إلى درجة الصفر لتصبح الذات الملكية هي العالم الكوني، وهو ما يؤكده عبد الصبور على لسان شخصيات مسرحية حينما قال "إنا اخترنا اللون الأبيض حتى نفنى سعداء محبوبين، في حالة الصفر الشامل، فلقد دمجتنا النعماء المشتركة، حتى، صرنا كملائكة بيض، نفني في الذات البيضاء الكلية، الذات البيضاء الملكية، وهكذا قد برع عبدالصبور في استخدام رمزية اللون في مسرحيته بعد أن يموت الملك".
وأشارت عانوس إلى أن مسرحية بعد أن يموت الملك هي أكثر الأعمال المسرحية لصلاح عبدالصبور استلهامًا للتراث الفرعوني، وهي من المسرحيات، وإن أكبر الإشكاليات التي تواجه هذه المسرحية تحديدًا هي كيفية قراءة النص، كما أن مسرح صلاح عبدالصبور يحتاج إلى قارئ من نوع خاص أو بمعنى آخر إلى قارئ مثقف، فهو بوجه عام يحتاج إلى إعادة قرءاة من منظور آخر، وتأتي تلك الدراسة لفتح باب جديد للباحثين لإعادة قراءة عبدالصبور من منظور مختلف،.
وعن النقلة التي أحدثها صلاح عبدالصبور في المسرح الشعري بعد ما قدمه أحمد شوقي وعبدالرحمن الشرقاوي وعلى أحمد بن كثير قالت "عانوس": «في الحقيقة أن صلاح عبدالصبور قد استطاع توظيف الموروث الثقافي توظيفا مسرحيًّا، بمعني أننا نجد في أعمال أحمد شوقي أنها طغت عليها الغنائية وترك الدراما المسرحية تمامًا، ففي مسرحية كليوباترا نجده قطع الدراما تماما لكي يقدم لنا قصيدة غنائية طويلة جدا في حب أنطونيو متناسيًّا الخط الدرامي، فلم يضع أحدهم على كيفية توظيف الصورة الشعرية توظيفًا دراميا سوى صلاح عبدالصبور، كما أن الأمر لم يقتصر عند صلاح عبدالصبور في المسرح الشعري فقط، وإنما كانت الدرامية طاغية حتى في قصائدة الشعرية، فصلاح عبدالصبور هو رجل مسرح سواء حينما يكتب شعرًا أو يكتب مسرحًا".
وعن اهتمام صلاح عبدالصبور في تقديم صورة المثقف بداخل أعماله المسرحية مثل شخصية الحلاج أو الشاعر في بعد أن يموت الملك وغيرها من الشخصيات أوضحت "عانوس":"أن صلاح عبدالصبور قد شعر أن المثقف يستطيع أن يكون المخلص وسأل سؤال مهمًّا في أغلب أعماله وهو "هل المثقف هو المُخلص؟وهو ما أجاب عنه في بعد أن يموت الملك فنجد أن الشاعر لم يستطيع أن ينقذ الملك أو الشعب، بل إنه ترك النهاية مفتوحة، دون الإجابة عن التساؤل "هل سينجح في الإنقاذ؟ بل، كيف سينقذ هذا الشاعر الشعب؟ هل بالمزمار أم بالسيف أم بالأشعار، وأعتقد أنه ترك النهاية مفتوحة، لتكون الإجابة على تساؤله بأن المُخلص هو الشعب وليس هو هو الشاعر المثقف".
«لا يوجد في جيلنا الشعري من حَضَن هذا الطمي العريق الأخاذ، وسافر في أغواره، واستنطقه كما فعل صلاح عبدالصبور، دون ادعاء، دون هرج دون انتفاخ، كأنه هو نفسه نخلة، أو نافذة، أو زهرة، أو موجة من الضوء».
د. عمرو دوارة: نجح فى إعادة المسرح الشعرى إلى خشبة المسرح.. وما زال مسرحه يلاقى نجاحًا فى الدول العربية
فيما تطرق الناقد والمؤرخ المسرحي الدكتور عمرو دوراة إلى بدايات المسرح والتي أكد خلالها على أن المسرح ولد شعرًا وليس ما يشاع على أن المسرح أبو الفنون ولكن الشعر هو أبوالمسرح وقال دوارة في حديثه لـ «البوابة»: « عدد كبير من المسرحيين والمثقفين يستخدمون ويكررون مصطلح أن "المسرح هو أبوالفنون"، وهو في حقيقة الأمر خطأ شائع لأن المسرح الإغريقي قد خرج من رداء أو عباءة الشعر وبالتالي يكون "الشعر هو الأسبق تاريخيا، فجميع الكتاب العظماء آنذاك وفي مقدمتهم سوفوكليس، وإسخيلوس، هم شعراء بالدرجة الأولى وكذلك كتب المبدع/ وليم شكسبير نصوصه شعرا، وبالتالي يكون الشعر تاريخيا هو "أبوالفنون" في حين يظل المسرح هو "جماع الفنون".
لافتًا إلى أنه إذا انتقلنا إلى بدايات المسرح العربي وبالتحديد مارون النقاش في بيروت (١٨٤٧)، وأبوخليل القباني في سوريا (١٨٦٥) ويعقوب صنوع بمصر (١٨٧٠) يمكننا رصد توظيفهم للغناء – بكتابة الأشعار والأزجال بعروضهم - استجابة لذوق المشاهد العربي، وكذلك لا يمكننا أبدا إغفال جهود وريادة المبدع/ عثمان جلال في تمصير مسرحيات موليير زجلا.
وتابع دواره:«وحينما نكون في صدد الحديث عن المسرح الشعري لا بد وأن نبدأ من ريادة أمير الشعراء أحمد شوقي، الذي أثرى المسرح العربي بعدد كبير من النصوص المتميزة بدءا من أول محاولاته في التأليف المسرحي بمسرحية "على بك الكبير" في عام ١٨٩٣، ثم استكمال مسيرته الإبداعية بدءا من عام ١٩١٣ بمسرحية قمبيز».
الشرقاوي وعبدالصبور
مشيرًا إلى أن المسرح الشعري قد وصل إلى ذروة الإبداع والتقدم والرقي – من وجهة نظري - بفضل إبداعات شاعرين كبيرين أولهما هو الشاعر القدير عبدالرحمن الشرقاوي (١٩٢٠ – ١٩٨٧)، والذي يُعَد حلقة مهمة فاصلة وفارقة بين المسرح الشعري القديم والحديث، حتى أننا حينما نقوم بالتأريخ للمسرح الشعري فإننا نسجل الحقائق عن مرحلة ما قبل عبدالرحمن الشرقاوي أو بعده، خاصة بعدما نجح في تحقيق إضافة نوعية بتطوير مرحلة إبداعات الشاعرين الكبيرين أحمد شوقي، وعزيز أباظة، وبصفة عامة تتميز لغة الأديب عبدالرحمن الشرقاوي بأنها سهلة وعميقة في آن واحد، من أشهر أعماله المسرحية الشعرية: الأسير، الحسين ثائرًا، والحسين شهيدًا، مأساة جميلة، الفتى مهران، النسر الأحمر، وأحمد عرابي. ويحسب له بجميع أعماله المسرحية التزامه بالثورية والفكر التقدمي وكذلك توفيقه في توظيف الشعر الحر بعيدا عن قيود الشعر العمودي القديم الملتزم والمحكوم بالقافية التقليدية.
الشاعر المجدد
مستكملًا:«وثانيهما هو الشاعر المجدد صلاح عبدالصبور الذي تجاوز بمسرحياته الشعر المسرحي إلى المسرح الشعري، والذي أثري المكتبة العربية بخمسة مسرحيات هي مأساة الحلاج (١٩٦٤)، مسافر ليل (١٩٦٨)، الأميرة تنتظر (١٩٦٩)، ليلى والمجنون (١٩٧١)، بعد أن يموت الملك (١٩٧٣). والحقيقة أنه حتى الآن لم يأتِ من يضاهي بقلمه إبداعات الشاعر الكبير صلاح عبد الصبور الذي نجح في إعادة المسرح الشعري إلى خشبة المسرح، وما زال مسرحه يقدم ويلاقي نجاحًا في الدول العربية، وذلك بالرغم من وجود بعض الإبداعات المتميزة لعدد كبير من الشعراء وفي مقدمتهم الأساتذة: محمد إبراهيم أبوسنة، أحمد سويلم، عز الدين إسماعيل، محمد مهران السيد، فتحي سعيد، أنس داود، حسن فتح الباب، فاروق جويدة، ومن الأجيال التالية كل من المبدعين: مهدي بندق، فريد أبوسعدة، محمد سيد عمار، عبد العزيز شنب، السيد الخميسي، السماح عبد الله، أحمد سراج وآخرين.
هذا ويجب التنويه إلى أننا حينما نتحدث عن المسرح الشعري يجب ألا نغفل الإشارة أيضا إلى بعض الإبداعات الشعرية بالعامية المصرية للمبدعين الكبار: بيرم التونسي، يونس القاضي، بديع خيري، نجيب سرور ومن بعدهم صلاح جاهين، سمير عبدالباقي، فؤاد حجاج وآخرين.
لماذا توارى المسرح الشعرى
ويبقى السؤال المحوري الذي يطرح نفسه لماذا توارى المسرح الشعري وأصبحنا نفتقد عروضه برغم تعطش وتشوق الجمهور لها، والإجابة باختصار لصعوبة كتابة المسرحية الشعرية التي تتطلب موهبة خاصة بحيث يصبح الشعر جزءا من نسيج النص وليس مجرد قصائد مقحمة (أي نصا يتضمن مجموعة قصائد شعرية ولكنه ليس مسرحا شعريا)، بالإضافة إلى ضرورة وجود نخبة متميزة من الممثلين الذين يجيدون التمثيل باللغة العربية الفصحي ويملكون مهارة الأداء الشعري، وبمنتهى الصراحة أصبح للأسف عددهم قليل جدا يعد على أصابع اليد الواحدة!!.
هذا وتجدر الإشارة إلى أن عروض المسرح الشعري تتطلب – وطبقا للرؤى الإخراجية – غالبا الاستعانة بخبرات وإبداعات بعض كبار الملحنين لتلحين بعض القصائد الغنائية، وذلك نظرا لأن الجمهور المصري عاشق للغناء والطرب، ولعل من أشهر الأمثلة التي تؤكد نجاح عروض المسرح الشعري المتضمنة للغناء تعاون المخرج الكبير سمير العصفوري مع الملحن المبدع علي سعد في أكثر من عمل ومن بينهم: العسل عسل (لبيرم التونسي)، الست هدى (لأحمد شوقي)، يا ساكني مصر (لأحمد شوقي وحافظ إبراهيم)، وأيضا النجاح الكبير الذي تحقق لبعض عروض الشاعر القدير فاروق جويدة ومثال لها عرض "الوزير العاشق" للملحن منير الوسيمي، وعرض الخديوي للملحن محمد الموجي، وجميعها عروض تتطلب تكلفة عالية وميزانيات ضخمة للتعاقد مع المطربين وتقديم الاستعراضات.