تناول عبد الصبور الإنسان من حيث هو مجلى المطلق المسكون برغبة المعرفة التي تقوده إلى المحظور، والإنسان الذي لا يخلو من ملاك ينطوي على كل ما هو حق وخير وجمال، والإنسان الذي لا يخلو من شيطان، يفترس غيره، فيحيل الوجود إلى غابة، والكائن إلى وحش في فوضى زمن لا يعرف فيه مقتول من قاتله ومتى قتله:
ورءوس الحيوانات على جثث الناس
ورءوس الناس على جثث الحيوانات
فتحسس رأسك، تحسس رأسك
أما الطبيعة، فهي المجلى الموازي للإنسان ومرآته في آن، لكنها المجلى الثابت الذي لا يعاني ما يعانيه الإنسان من تغير أو تحول أو تبدل أو سرعة عطب، فهي الثابتة والإنسان المتغير، وهي لا تفنى أو تتبدد، بينما الإنسان يفنى ويتبدد، وذلك بما يذكره، في أحوال تأمله، بصغار شأنه، أو بأنه جرم صغير انطوى فيه العالم الأكبر. والمطلق هو أصل الوجود الذي يوجد في كل الوجود، الخالق الذي أسلم العالم إلى الإنسان بريئًا نقيًا، فالله لم يبرئنا ليعذبنا، بل ليرانا ننمو، وتلامس جبهتنا وجه الشمس، الحقيقة، لكي نكون جديرين بكوننا مخلوقات الله التي صوّرها على صورته، تمجيدًا لها، وتمييزًا عن بقية خلقه من حيوان أو جماد، ولذلك فالمطلق هو العلة الأولى التي تثير من الأسئلة ما يدفع الإنسان إلى الإبحار الأبدي للبحث عن يقين، كي يهدأ أو يستريح أو يسعد في الدارين.
وشمول رؤية العالم «الإنسان، الطبيعة، الحيوان»، لا تخلو، على هذا النحو، من عمقها النوعي، وخصوصيتها الكيفية، كما تتميز بتعقيداتها وتعدد مستوياتها، وتنوّع علاقاتها، وذلك جنبًا إلى جنب جذريتها الإبداعية، التي تهدف إلى أن ترتقي بالإنسان من مستوى الضرورة إلى أفق الحرية، سواء في حوار الإنسان مع نفسه، أو حواره مع غيره من بني الإنسان، أو حواره مع الطبيعة، أو حواره مع المطلق في دائرة التأملات الميتافيزيقية التي تأخذ في الاتساع عبر دواوين صلاح المتلاحقة.
والمركز الأول الذي تدور حوله هذه الرؤية هو الإنسان الذي كان له - وحده - الملك في عالم صلاح عبدالصبور، حين كتب قصيدته «الملك لك» التي نشرها في جريدة «المصري» سنة 1954، لكن مأساة هذا الإنسان أنه يريد أن يطول بالأصابع المجذوذة نجوم أحلامه اللامحدودة، وأن يقاوم الشر الذي استولى على كل ما حوله، ويواجه الزمن كما يواجه كل عوامل التحلل والفساد والظلم في المجتمع، وعذاب رحلته العقلية والروحية سرّ تميزه الذي يجعله يموت واقفًا في احتجاج نبيل أو تمرّد جليل، هذا الإنسان ظل صلاح عبدالصبور على إيمانه به، حتى في سخطه عليه، أو لعنته إياه، إذ لم يجحد، قط، قدرة الإنسان الخلاّقة على إنشاء العالم في أفضل صورة، وأحسن نظام.
الإيمان بالانسان
وأتصور أن إيمان صلاح عبدالصبور بالإنسان دفعه إلى الانتساب إلى قضايا الإنسانية في كل مكان، بعيدًا عن المدارات المغلقة للنزعات العرقية والدعاوى السياسية أو حتى التأويلات الدينية التي تنغلق بالكائن على نفسه، وتنزوي بالحضارة عن حركة التاريخ، وتهبط بالمبدع إلى قرارة القرار من التعصب العقلي والانحدار الروحي. وكان من نتيجة ذلك، أن انتسب صلاح عبدالصبور إلى وحدة التراث الإنساني من غير أن ينسى خصوصيته بوصفه شاعرًا عربيًا مصريًا، ولم يعرف الانحياز إلى ميراثه الشعري، الذي كان ينطوي عليه في داخله، وجعل ميراثه تراث الإنسانية الإبداعي في كل حضارة قديمة أو حديثة. ولكنه لم يتّبع هذا التراث تقليدًا، وإنما ابتدعه وأعاد إنتاجه، ضمن تشكيله رؤيته الجذرية الخاصة، ولذلك لم يتردد في مساءلة تراثه الإنساني: معارضةً أو تضمينًا أو تناصًا أو حتى محاكاة ساخرة، كما لم يتردد في إعلان انتسابه إلى قبيلة الشعراء في كل مكان، وذكر أقرانه من الشعراء الذين عرفهم وعرفوه: أوبرستاد من أوسلو، إيفتشنكو من موسكو، رضا براهني من إيران، وذكر أقرانه من الشعراء الذين تعلم منهم، أو تأثر بشعرهم، وكتب عنهم. والقائمة طويلة تضم - فضلًا عما سبق -: ت.إس.إليوت، وكفافي، وسان جون بيرس، ولويس أراجون، وديلان توماس، وكازنتازاكس، ولوركا، وويتمان، وجونار إكليوف السويدي، فضلًا عن ماياكوفسكي، وباسترناك، وبوشكين، وبرخت، وسافو، واللورد بايرون، وكولردج صاحب قصيدة «الملاح القديم» التي ظلت قريبة من قلبه، وعشرات غيرهم من الشعراء الذين ظل يشعر بالانتماء إلى الجوهر الصافي للشعر الذي أبدعوه، بعيدًا عن أردية المدارس والمذاهب التي يتمرّد على حَرْفيتها كل شاعر أصيل، والنتيجة هي ما نقرؤه له من أبيات:
يسألني بول إليوار
عن معنى الكلمة
«الحرية»
يسألني برتولت برخت
عن معنى الكلمة
«العدل»
يسألني دانتي أليجيري
عن معنى الكلمة
«الحب»
يسألني المتنبي
عن معنى الكلمة
«العزة»
يسألني شيخي الأعمى
عن معنى الكلمة
«الصدق»
تسألني القدم السوداء
عن معنى الكلمة
«الصمت»
وهي أبيات تصل، أولا، بين شعراء لغته وشعراء العالم في وحدة لا تعرف التمييز أو التحيز، وتبين، ثانيًا، عن الإيمان بالقيم التي تجمع ما بينهم: الحرية، العدل، الحب، العزة، الصدق. وتكشف، ثالثًا: عن الدور الذي يؤديه الشاعر في جوقة قبيلة الشعراء في كل مكان، وهو السعي الدءوب الذي يصل إلى حد التضحية بالنفس كما حدث مع الحلاج، أو الصمت الاضطراري الناتج عن وحشية القمع الذي يتعرض له الشاعر المختفي وراء الرمز أو القناع.
مساءلة الوجود
وطبيعي، والأمر كذلك، أن تكون مساءلة التراث الشعري كمساءلة الوجود والكائنات دافعًا أساسيًا من دوافع العملية المتحدة للحوار القلق الذي غدا عنصرًا تكوينيًا في شعر صلاح عبدالصبور، خصوصًا في توتر هذا الشعر بين تعارضاته، وفي صياغته أسئلته الجذرية، التي أرادت أن تكسر جدران الصمت. وأن تنطق - ولو على سبيل المراوغة المجازية - المسكوت عنه من الكلام المقموع سياسيًا أو اجتماعيًا أو ثقافيًا أو فكريًا أو حتى اعتقاديًا. وكانت الدرامية نتيجة الحوار المتوتر بين المتناقضات، والصدام المتوقع بين المتشابهات المختلفات للإخوة الأعداء من ناحية، وأشكال الصدام الداخلي للأنا التي تنقسم على نفسها فتتعدد تجليات صراعها الداخلي من ناحية مقابلة، وكانت النتيجة تولد بذرة الدراما الشعرية من داخل القصائد الغنائية، ونمت هذه البذرة، وأثمرت المسرح الشعري الذي مضى به صلاح عبدالصبور إلى مدى غير مسبوق، لم يصل إليه شاعر عربي قبله أو بعده، فأضاف إلى ما سبق إليه الشرقاوي، كميًا وكيفيًا، وتمايز عن أقرانه الذين لم يصل واحد منهم إلى أفقه الدرامي في الإبداع الشعري، خصوصًا بعد أن آمن أن الشعر أصل المسرح، وأن عودة المسرح إلى الشعر هي عودة الفرع إلى الأصل، والنهر إلى البحر.
ولقد كان إيمان صلاح عبدالصبور بالإنسان موازيًا لإيمانه بالحضور المادي لهذا الإنسان في تجسّده وتعيّنه، خصوصًا من حيث هو حضور جسدي محدد، ووجود حسي مشخّص، حضور أو وجود لا يمكن فهم جوانبه الروحية أو الوجدانية أو العقلية من غير الغوص عميقًا في كنه الوعي بالجسد، وإدراك سر الانتساب إلى شهوة الأطراف التي تَلمس أعراقَ الأشياء:
أنتسب إلى جسمي
أنتسب إلى شهوة أطرافي أن تلمس أعراق الأشياء
شهوة شفتي أن تَنْدى، وتندَّى
أن تَسقي أن تُسقى
حتى تقنص روح الجلد الحمراءْ
والانتساب إلى الجسد، خلال مثل هذه الأبيات، هو انتساب إلى شهوة المعرفة، التي يغدو الإبحار، في الجسد، موازيًا للإبحار وراءها، فالجسد هو أول المعرفة، التي ترهف فيها الحواس كلها، واصلة ما بين الشم واللمس والذوق والبصر، الذي سرعان ما يغدو بصيرة، تبدأ من شهوة الرغبة في معرفة النفس، وكيف تصير الرغبة لحظة صحو، وكمال الرغبة لحظة محو، فتتقلب الذات العارفة من حال إلى حال، أو تجمع ما بين الحضور والغياب الذي يجعل الكائن مسلوبًا في الحالين، رهيفًا كالموسيقى، لكن مغتربًا في أنحاء الكون الذي أول منافذ معرفته الوعي بالجسد الذي هو وعي بالحضور والغياب في آن.
هذا الوعي بالجسد، من ناحية أخرى، لايقتصر على «الجنس»، الذي يجمع بين رجل وامرأة لأسباب عدة. إنه يبدأ من إرهاف الحواس بما يجعل العين - مثلًا - ترى الألوان في الألوان، والضياء في الظلال، أو يجعل الكف تحسّ الدفء والصقيع في أكف رفقة المقام أو صحبة الترحال. ويمضي هذا الوعي صاعدًا ليغدو وعيًا بكينونة الأنا في حضورها الجسدي الذي يعني اكتمال الوجود، ويصل إلى ذروته بالاكتمال بالآخر، فلا يتوقف عند مجرد متابعة النَّفَس المستعجل الحفيف الذي يشهق في الحَلَمة، وإنما يمضي إلى أحوال الوجد الصوفي الذي تصل فيه نشوة المعرفة بالحضور في حضرة الواحد الأحد إلى ذروتها التي ليس بعدها ذروة، وكان شعر صلاح يعلن انتسابه إلى هذا النوع من الوعي بالجسد، حسيًا وروحيًا ويتغلغل فيه، حتى من قبل أن نسمع رطان السنوات الأخيرة، ضيق الأفق، عن «كتابة الجسد».
الحب والبراءة
ويلزم عن ذلك أن الإنسان المتعيّن الذي يكتب نفسه حين يكتب جسده لا يكتمل في شعر صلاح عبدالصبور إلا بالحب الذي يعيد للإنسان براءته، وعفويته، وعرامة الإحساس بالحياة، فيختلس اللذة مع المحبوب مثل جناحي نورس، أو موجتين صفيتا من الرمال والمحار، أو نجمتين جارتين، فالحب هو الخلاص من الكون الكئيب، وحتى لو كان هذا الخلاص وقتيا، لا يدوم، لأنه بالفطانة اختنق، في كون خلا من الوسامة، أكسب صاحبه التعتيم والجهامة، إلا أنه يظل منطويا على أمل في الخلاص، فالإيروس نقيض الثاناتوس ووجهه الآخر في شعر صلاح. ولذلك يظل الحب وترا مشدودا، وأصلا وفاصلا، بين نقيضين: أولهما الحب الجسدي الخالص، وثانيهما الحب الروحي الخالص، وما بينهما يمتد الحب حبلا من نغم، يريق من عينيه في وسن المحبوب فيوقظه، ويوشوش صوته المنغوم في أذنه فيؤرجحه، وحين يطلقه بعد الغياب فيه، يفنى دون أن يفارقه إلى أن ينتهي الليل، وتولد في الصباح مرارة أخرى، لا خلاص منها إلا بمحاولة الفناء، مرة أخرى، في الجسد الذي يغدو سبيلا إلى المطلق، وزادا تواجه به الذات العارفة مرارة أيام البشر المسرعين الخطو نحو الخبز والمئونة المسرعين الخطو نحو الموت.
ويعني ذلك أن الحب قهار كمثل الشعر، لا تعنو له جبهة، وحدسي كمثل الرؤيا التي تبقى كما تبقى لحظة الكشف أو التجلي، ولكن بما يغري بمواصلة المسعى، والمضي وراءها كأنها وردة الصقيع التي تظل تغوي المسافر في الطريق إليها، حيث عذاب الطريق جزء من وعد الوصول الذي لا يتحقق في تمامه قط، بل في أبعاضه اللانهائية التي يغري كل منها في الإمساك بالكل عن طريق البعض. وإذا كان الحب هو الوصل والحضور في معنى من معانيه، فالزمان نقيضه الذي يشبه الريح التي تكنس كل ما يقع في مسارها الذي لا تمسكه اليد، والذي يستبدل الذكرى بالحب، والذكر بالنسيان فلا تبقى سوى صور باهتة، تطفو أحيانا على الذاكرة، حين نزور موتانا مثلا، لكنها سرعان ما تنزوي في غياهب النسيان والغياب الذي يغطي على الذكرى بالغبار أو الرماد الذي تتنفسه الكائنات، فينسل في الشرايين والأفئدة مذكرا القارئ أن الإنسان ابن الموت، وأن الموت هو نوع مواز من الخلاص.
وأتصور أن إيمان صلاح عبدالصبور بالإنسان كان دافعه إلى تجسيد النجمين اللذين تضيء بهما حياة هذا الإنسان، حتى في لحظات عمره القصير فوق الأرض لا تحتها، هذان النجمان هما: الحرية والعدل، الحرية من حيث هي استقلال الإرادة، وحق الاختيار، وإرادة الوجود، أو حتى إرادة رفض الوجود، والتمرُّد على عبثيته، والعدل من حيث هو سؤال أبدي يُطرح كل هنيهة، وحوار لا يتوقف بين الحاكم والمحكومين، والخالق والمخلوقين، والموجود وأصل الوجود.
والإيمان بالعدل هو الوجه الآخر من الإيمان بالحرية في شعر صلاح عبدالصبور، سواء في حال مساءلة الإنسان نظيره الإنسان، أو حال مساءلة الإنسان معنى الوجود، وأخيرا، مساءلة العلاقة بين المثقف والسلطان. ولذلك لا تخلو تأملات الإنسان من علاقته بالطبيعة، أو من علاقته التي تتوتر ما بين أضداد الخير والشر، الجمال والقبح، التمييز والمساواة، التسامح والتعصب، النقل والعقل، الروح والجسد. أما الحال الثاني فهو الحال الذي صاغه التأمل في الطبيعة لا على طريقة شوقي:
تلك الطبيعة قف بنا يا ساري
حتى أريك بديع صنع الباري
وإنما على طريقة التأمل في الوجود، من حيث هو علامات ومرايا: علامات تنبئ عما تنطوي عليه الطبيعة من أسرار تغوي الإنسان بالبحث عنها وفيها، ومرايا للحضور الكلي للمطلق الذي هو موجود في كل الوجود، ولذلك تبقى الطبيعة خالدة بينما يفنى الإنسان الذي سرعان ما يتحول إلى رماد، يرجع إلى مبتداه في الطبيعة التي تظل مجلى الوجود الحق أو المطلق، وذلك في كل أحوال تأمل الذات الشاعرة في توازيات أو تداخلات الوجود والعدم، حيث تتولد التأملات الميتافيزيقية الممسوسة بالأسئلة المحيرة، وذلك قبل قصائد مثل «أغنية إلى الله» وصولا إلي قصائد مثل «الموت بينهما» التي هي حوارية بين المحدود والمطلق، تتخللها آي القرآن التي هي كلمات الله، وفي مقابلها تعليقات وتساؤلات الإنسان العاجز، الحائر، الباحث عن النجاة التي تبدو سدى مابين أسئلته التي تبدو بلا جواب.
أما الحال الأخير فهو حال العلاقة بين الحاكم والمحكوم، أو العلاقة بين المثقف والسلطة، إذ لم تشغل هموم هذه العلاقة شاعرا مثلما شغلت صلاح عبدالصبور الذي جعلها هاجسا ملحا في قصائده، منذ أن كتب «عودة ذي الوجه الكئيب»، بعد أزمة مارس السياسية في مصر سنة 1954. وقد تصاعد هذا الهاجس بعد هزيمة 1967 التي أرجعها الشاعر صلاح عبدالصبور إلي غياب الديموقراطية، وغلبة الدولة التسلطية التي تحكمها نخبة عسكرية لاتؤمن بالحوار، أو حق الاختلاف، أو حرية التعبير والفكر. وهو الأمر الذي اضطره إلى الاختفاء وراء الرموز والأقنعة ليوصل ما ظل يؤمن به من أن الديموقراطية هي الترجمة السياسية لاحترام وجود المواطن، الفرد، من حيث هو طاقة خلاقة، قادرة على صنع عالمها الذي يزداد ثراء بقيم الحرية والعدل والتقدم. ولا فارق بين الوجه الفردي للحرية والعدل أو وجههما الجمعي، خصوصا حين تقترن الحرية والعدل بقدرة الفرد والجماعة على رؤية الأشياء في مكانها الصحيح، وإصدار الحكم المحايد عليها، فقيمتا الحرية والعدل هما وجها المواطنة التي لايتمايز فيها حاكم عن محكوم، ولا مواطن عن غيره. وكلتاهما تعني حق الاختلاف وقبول التعددية والتنوع بوصفهما الأصل الخلاق للوجود الأكمل، وذلك بما يجعل من الديموقراطية «البرلمانية» أرفع صور الحكم، ويجعل من الفكر المقترن بهذه الديموقراطية تجسيدا لشعار فولتير الشهير: «أنت ضدي في الرأي، ولكني أبذل حياتي في سبيل أن تعلن رأيك».
الفقر هو القهر
ومن هذا المنظور، لم يكن الفقر هو الجوع إلى المأكل، والعري إلى الكسوة، بل الفقر هو القهر، استخدام الفقر لإذلال الروح، وقتل الحب وزرع البغضاء.
والمسافة بين الفقر وغياب العدل، في هذا السياق، هي المسافة بين العلة والداء، فالعدل مواقف وسلوك وأفعال، وهو فوق ذلك سؤال أبدي لا يتوقف الإنسان عن طرحه في مطلق أزمانه المتغيرة التي نطلق عليها اسم التاريخ. وهو حوار لا يتوقف بين السلطان والمحكومين، والوالي ورعيته، والبشر وأقرانهم البشر في كل زمان ومكان.
ويعني ذلك أن أي نظام سياسي يقوم على الحزب الواحد هو نظام استبدادي بالضرورة، إذ سرعان ما يتقلص الحزب في لجنة مركزية، وتتقلص اللجنة المركزية، بدورها، في شخص الزعيم الواحد الأحد الذي لا يقبل اختلافا أو خروجا على ما يراه، فالمواطنة الحقة هي الإجماع والتصديق والإذعان لهذا الحاكم الذي يقود أمته إلى الكارثة حتما.
وقد أنتجت هذه الرؤية قصائد ديوان «تأملات في زمن جريح» (1970) التي تبدأ قصائدها بصوت الشاعر الذي صَدَّق سادته العسكر طويلا، ولكنهم عندما وقعت الواقعة، انهزموا وتركوه طعينا، غير قادر على الغناء، حزينا الحزن الذي لا تطفئه الخمر ولا المياه، فهو حزن لا تطرده الصلاة كأنه:
قافلة موسوقة بالموت في الغرِار
والأشباح في الجرار، والندم
ويتكاثف الحزن الأسود الذي خلفته هزيمة العام السابع والستين، فتغرق تأملات الزمن الجريح في بحار من الكآبة التي تستدعي الموت الذي يفرش ظله على القصائد، ولا يكف عن غرس بذوره السوداء التي تثمر ديوان «شجر الليل» الصادر سنة 1972، حاملا المزيد من التأملات الليلية، وأصوات المدينة المتألمة الغارقة في الليل الذي يتحول إلى الرحم، القبر، الغابة، حاملا الخوف الداجي، والرعب المتمدد، والأحزان الباطنة الصاخبة، ليل مطبق ممتد لا يلوح ضوء فيه، كأنه القدر، الرؤيا الهولية، وسقوط الحاضر المنكسر في المستقبل الذي لايحمل علامة ضوء، أو بشارة نجاة، بل يكرر نفسه كالجرح اليومي الذي ينزّ دما أسود في الصبح المقبل، وتبلغ أصوات الليل المقيض، المنكسر، المهزوم، ذروتها مع صوت مجموعة النساء الذي يبدو كالندب الصادر من قرارة قرار الأعماق التي تسلطت عليها أشجار الحزن التي اعتادتها، وألقت بذور الألم الموجع في أحشائها، فلا يبقى سوى السؤال السقيم.
رباه
ما سر هذه التعاسة العظيمة
ما سر هذا الفزع العظيم
وتتجاوب موجات الحزن السياسي الاجتماعي مع موجات الحزن الميتافيزيقي الذي زاده صمت الوجود عن كل سؤال، ويأس الشاعر من أي جواب فنقرأ:
أنا أستدير بوجهي إليك، فأبكي
لأن انتظاري طال، لأن انتظاري
يطول، لأنك قد لا تجيء...
لأن
الشواهد لم تتكشف، لأن الليالي
الحبالى يلدن ضحى، مجهضا،
ولأن الإشارات حين تجيء..
تجيء إلينا الإشارات من مرصد
الغيب، يكشف عن سرها
العلماء الثقات، تقول:
انتظار عقيم
انتظار عقيم
انتظار عقيم
وقد ظل هذا الحزن علامة شعر صلاح حتى آخر دواوينه «الإبحار في الذاكرة» (الصادر سنة 1979) الذي تحذرنا قصيدته الأولى من الإبحار في الذاكرة التي لا يجد فيها الملاح سوى الفواجع والكوارث، وتمضي الحياة متكررة لا جديد فيها سوى اليأس، أو التهويمات الليلية أو التجريدات التي تؤكد أن:
سيف اللاجدوى
يهوى ما بين الرغبة والعقل
صحراء اللافعل
تتمدد ما بين الرغبة والجدوى.
وتبدو الذات كأنها فأر مذعور ما بين السيف وبين الصحراء، وحتى عندما تقع حرب أكتوبر 1973، ويعبر الجيش المصري سيناء، حاملا بعض الأمل، فإن هذا الأمر سرعان ما تكبله العتمة، فلا يتبقى سوى رماد الموت الذي تلقى به الحياة في الشعر الذي لا ينجي صاحبه حتى في انتسابه إلى جسده، في المدينة التي ضاعت منه رغم أنه أحبها، وأحب أن يعيش بين جلدها ولحمها، لكن سدى، فالأكاذيب لا تزال تعشش في كل مكان والشر استولى في ملكوت الله، والشاعر لا يعرف كيف تغلغل في واديه الطيب هذا القدر من السفلة والأوغاد، فلا يملك سوى الحوار مع خالقه الذي يطرده من ملكوته، كأنه الشيطان الرجيم في وطن أضاعه وأضاع يقينه، خصوصا في السبعينيات المتثاقلة التي كانت جحيم صلاح عبدالصبور لا جنته، والتي استمر يقاوم فيها كوارث الهزيمة وأظافر الناهشين، وكذب المنافقين وكان حزنه العميق المتطاول، الواصل بين دواوينه الأخيرة في صعود لافت نوعا من احتجاج المحب على المحبوب الذي خذله، والوجود الذي صمت، مغلقًا الأبواب أمام أسئلته، والدولة الاستبدادية التي تطاولت وتزينت بما لا يخفى عورتها. وكانت الكلمة، دائما، هي سلاح الاحتجاج من شاعر لم يملك سواها، وسوى إيمانه بأن الكلمة قد تؤدي، وجوديا، إلى أن تواجه العبث بكل مايمنح الوجود معناه بالفعل الخلّاق فيه، الفعل الذي يصبح صفة محايثة للحضور في الوجود، أقصد الحضور الإبداعي الذي يسعى، مهما كان الألم، إلى العمل على اكتمال الحياة والعودة إلى جوهرها الأنقى.
العدد 594 «مجلة العربى» الكويتية