ربما نحتاج إلى عقد كامل أو يزيد حتى نرى العالم يعود إلى نوع من الاستقرار النسبى؛ بعد أن تفجرت حرب ثالثة بين القوى الكبرى تتخذ أشكالًا وصورًا غير تقليدية، يمتد مسرحها من شرق أوروبا إلي المحيطين الهندي والهادي، ومن بحر الشمال إلي وسط القارة السمراء.
الإنقلاب العسكرى الذى شهدته النيجر 26 يوليو الماضى ليس بعيدًا عن الصراع الدائر بين الشرق والغرب فى أوكرانيا، وفى بحر الصين الجنوبى حول جزيرة تايوان الصينية.
صحيح أن العملية العسكرية الروسية الخاصة بدأت فى 24 فبراير2022 لحماية الأمن القومى الروسى من أطماع حلف الناتو الذى كان يخطط لضم أوكرانيا ونصب صواريخه النووية على بعد بضعة كيلومترات من موسكو؛ إلا أن الأمر لن يتعلق منذ اللحظة الأولى بحدود هذه الأزمة.
الغرب الجماعى بقيادة الولايات المتحدة كان يسعى لبسط نفوذه وهيمنته على العالم بشكل متوازي، فبينما كان يحاول توسيع الناتو فى شرق أوروبا تلاعب فى الخفاء بما يعرف بمبدأ "الصين واحدة" لتعزيز تعاونه وتنسيقه مع الانفصاليين فى جزيرة تايوان فى الوقت الذى كانت القيادة العسكرية المركزية الأمريكية فى أفريقيا "أفريكوم" تحاول تعزيز تواجدها فى شمال افريقيا ووسطها.
لم يكن التحرك الروسى ليأتى منفردًا ودون تنسيق مع جمهورية الصين الشعبية التى كانت قد دخلت فى مواجهة تجارية أشبه بالحرب حامية الوطيس مع الولايات المتحدة بوصول الرئيس الأمريكى السابق دونالد ترامب.
بعيدُا عن المواقف الرسمية، هزيمة روسيا فى أوكرانيا يعنى سقوط تايوان بين يدى الأمريكان، ولا يعنى ذلك أن موسكو كانت فى حاجة إلى دعم عسكرى صينى أو حتى دعم سياسى معلن، لكن القوتين اللتين تمثلان المعسكر الشرقى كانتا دائمًا تعملان بتنسيق فى أماكن دقيقة حول العالم.
انطلقت عدة مناورات عسكرية ضخمة للاسطولين البحريين الروسى والصينى فى منطقة المحيط الهادى والهندى ممتدة من بحر اليابان فى الشمال إلى بحر الصين الجنوبى ليؤكدا جاهزية عالية لأى مواجهة محتملة مع القطع الحربية الأمريكية والأوروبية التى تجوب المنطقة بين الحين والحين لتعزيز ما تسميه أمن التجارة العالمية وحرية الملاحة.
فى السياق ذاته، تأتى تحركات ومناورات مماثلة فى بحر الشمال، بل أن 11 قطعة حربية صينية وروسية اقتربت الأسبوع الماضى من سواحل ألاسكا الأمريكية ما أدى إلى استنفار الجيش الأمريكى الذى أرسل 4 مدمرات وطائرة استطلاع.
مع تصاعد العمليات العسكرية فى الساحة الأوكرانية ترتفع أصوات المحذرين من اندلاع حرب عالمية ثالثة يستخدم فيها السلاح النووى، ويبدو أن أغلب المراقبين والمحللين يذهبون فى تعريفهم أو وصفهم لشكل الحرب العالمية الثالثة بأنها تلك الحرب التى تستخدم الأسلحة التقليدية ثم تتطور لتستخدم أسلحة الدمار الشامل بما فيها السلاح النووى؛ إلا أننا على ما يبدو بصدد حرب ثالثة فعليًا ولكن أطرافها لا يريدون تدمير ذواتهم وقرروا ألا ينخرطوا فى مواجهة مباشرة عبر حرب تقليدية أو نووية؛ إنهم يخوضون حربهم الثالثة بأدوات وأشكال جديدة، جانبها العسكرى يندلع بما يعرف بـ"الحرب بالوكالة" أى أن تقوم أوكرانيا نيابة عن حلف النيتو بقتال الدب الروسى وربما كان مخططًا أن تقوم تايوان بنفس الدور مع التنين الصيني.
أما المناورت التى تحوم حول مناطق تماس خطرة ليست سوى رسائل تهديد خشنة، وفيما يبدو أن منطقة الساحل الافريقى ستشهد مواجهة عسكرية جديدة بين المعسكرين الشرقى والغربى بالوكالة أيضًا والنيجر ستكون مسرحًا لعملياتها.
فرنسا أعلنت عبر وزارتى الخارجية والدفاع دعمها لإنذار منظمة "إيكواس" الاقتصادية لمجموعة دول غرب افريقيا للعسكريين الذين انقلبوا على حكم محمد بازوم فى النيجر.
الموقف الفرنسى الرسمى لم يشر إلى تدخل عسكرى مباشر مكتفيًا بدعم موقف "ايكواس"، لكن تقارير صحفية تحدثت عن استعدادات مقاتلات فرنسية مقاتلة فى قاعدة بدولة جيبوتى.
تعانى معظم دول غرب افريقيا من اقتصادات ضعيفة ربما لا تساعدها على تمويل حرب طويلة مع النيجر التى أعلنت كل من مالى وبوركينا فاسو وقوفها إلى جانبها لمواجهة أى تدخل عسكرى خارجى معتبرة إعلان الحرب على النيجر إعلاناً للحرب عليهما.
فى الشمال تقف الجزائر معارضة لأى تدخل عسكرى لأنه من ناحية سيشكل تهديدًا لأمنها القومى، ومن ناحية أخرى سيؤدى إلى تزايد نشاط التنظيمات الإرهابية المنتشرة فى المنطقة (داعش وبوكو حرام).
ومن اللافت فى هذا السياق أن تنظيم داعش الذى تدعى القوات الفرنسية والأمريكية المتواجدتان فى النيجر محاربته، قاما بمهاجمة قافلة مساعدات أرسلتها مالى إلى النيجر خلال الاسبوع المنصرم.
هناك مخاوف جادة من أن تعمل الولايات المتحدة على استخدام التنظيمات الإرهابية فى هذه الحرب على غرار ما فعلت فى العراق وسوريا، وجميعنا يذكر حمولات المؤن والأسلحة التى كانت تلقيها الطائرات الأمريكية إلى عناصر داعش زاعمة أنها ألقيت بطريق الخطأ؛ فكان من اللافت أن دحر التنظيم الإرهابى وغيره من التنظيمات المسلحة فى سوريا لم يتم إلا بعد التدخل الروسى.
هنا يأتى دور قوات فاجنر المتواجدة فى مالى والتى من المرجح أن تقوم بتقديم الدعم لجيش النيجر حال اندلعت هذه الحرب.
فى هذا الإطار لابد من التذكير بالمناورات العسكرية التى أجرتها كل من الولايات المتحدة وروسيا مع دول إقليمية أخرى فى الشمال الافريقى يضاف إلى ذلك النفوذ الصينى المتنامى عبر المشروعات الاقتصادية فى المنطقة والذى يعد شكلًا آخر للمواجهة بين المعسكرين بالنظر إلى المصالح والشركات الفرنسية التى عملت طوال الوقت بذات المنطق الاستعمارى فى نهب ثروات افريقيا لتظل شعوبها فقيرة إلى حد الجوع.
إندلاع الحرب فى الساحل الافريقى ستكون له تداعيات خطيرة التى ستمتد إلى الجزائر وليبيا وسيخلق تحديًا جديدًا للأمن القومى المصرى على حدودها الغربية والجنوبية ولن تكونا تونس والمغرب بعيدتان عن تلك التداعيات، لذلك يتعين على دول الشمال الافريقي الكبرى (مصر-الجزائر – المغرب) العمل على صياغة استراتيجية لاحتواء هذا الصراع قبل اندلاعه، أو التعامل مع تداعياته الأمنية والسياسية حال وقوعه حتى لا يطالنا وهج سعيرها.