رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

عبدالحميد البسيوني.. قصة عميقة ليست قصيرة

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

التجربة جديدة علينا، نحن الذين احترفنا الكلام جماعة، قلنا سوف نصمت هذا المساء ونستمع، راودني شك أننا لن نستطيع الوفاء بوعد الصمت، ولكن كما قلت هي تجربة.

اخترنا المتحدث الوحيد بعناية فائقة، عبدالحميد بسيوني صديقنا الأكبر سنا ومقاما، تركنا له الحبل على الغارب ونحن نستمع.. أحدنا يهز رأسه موافقا على ما يطرحه بسيوني والآخر يهمهم دون كلام ليهضم الكلام.

عبدالحميد البسيوني الكاتب المبدع الذي عرفناه من أعماله المتنوعة يجلس في صدر القعدة منتشيا، لا مجال هنا للمقاطعة إلا لو أراد أحدنا أن يستفسر عن مسكوت عنه عند الحميد.

البداية كانت من قرية على تخوم مدينة المنصورة اسمها حماقة بمركز أجا دقهلية.. قرية حماقة هذه تغير اسمها في العهد الناصري واسموها قرية سماحة، لتستقيم الأمور وتبتعد عن تلاسن الظرفاء،هناك في تلك القرية كان الميلاد بالتحديد شهر ديسمبر 1947..العائلة الكلاسيكية الأب متعلم وصاحب أطيان يقرأ الجرائد ويطوف حول السياسة من بعيد لبعيد  أما العم فهو المتفوق دراسيا حتى أنه في مرحلة ما شغل موقع رئيس جامعة قناة السويس، بهذه الصورة العامة كان مكتوبا لعبدالحميد أن ينشأ داخل برواز مغلق، ولكن الجغرافيا لعبت لعبتها المفضلة حيث مدينة المحلة صاحبة التراث العمالي والوجه المدني كانت قريبة جدا من موطن النشأة ويعرف بسيوني طريق السينما هناك، ويرى الشاشة الفضية نهاية الخمسينات أوائل الستينات وعلى ذراعه وحده يكسر البرواز متمردا مشغولا محبا للحياة.

تغيير ما بدأت تظهر ملامحه في نوعية الكتب الغريبة التي يضيفها الفتى إلى مكتبة العائلة.. المكتبة التي كان أغلبها تفسير الأحاديث وشرح معاني القرآن صارت تشهد كتب فلسفية وروايات ودواوين شعر، صارت مشاوير المحلة ومشاوير المنصورة وتلمس سيرة قادة اليسار هناك ومعرفة عناوين المكتبات العامة كل هذه التحولات ابتعدت بعبدالحميد بسيوني من نمط المثقف العادي إلى نمط يلعب بالنار ويبحث عن المستحيل.

ينتهي الفتى من ثانويته العامة ويقذف به مكتب التنسيق إلى كلية التجارة جامعة القاهرة، لتبدأ صفحة جديدة طالما سعى إليها، هناك يعرف عنوان قصر ثقافة قصر النيل - نادي السينما حاليا - يعرف سلم كلية الآداب والطريق إلى وسط البلد صار التحاقه بكلية التجارة مجرد شهادة أما همه الأعظم فهو الكتابة ثم من بعدها الكتابة أيضا، لذلك لم يكن غريبا أن يزامله في اتجاه البحث عن الجمال ناقد كبير مثل الدكتور رمضان البسطويسى، أو يحاوره فيما يؤرقه اسم كبير مثل الدكتور نصر حامد أبوزيد.. نعم انت قرأت الاسم صحيحا هو ذاته نصر ابوزيد الباحث العلم.

حكايات عبدالحميد بسيوني متداخلة بإحكام هو وحده يعرف كيف يبدأ وإلى أين سوف ينتهي، نواصل الصمت المهذب بينما هو يردد بين كل حكاية وما تليها عبارة موحدة "مابعرفش أحكي لكن بكتب الحكاية كويس قوي".. يعتقد أنه خدعنا بذلك لكي نواصل هز رؤوسنا وإختصار تشجيعه لكي يحكي المزيد بكلمة "كمل وبعدين حصل إيه".

يقول بسيوني أنه لم يغرق في السياسة كعضو منظم في حزب ما، ولم يكن بعيدا عنها، المناخ العام من بعد 1967 كان كله سياسة وصولا إلى حركة الطلبة في السبعينات وحرب أكتوبر، اهتم بالكتابة الجديدة المبشرة بطعم طازج للقصة القصيرة والرواية، ويرى أن جودة الكتابة هي شكل من أشكال النضال للتغيير نحو الأفضل، يجمع ما تيسر من أعمال قصصية له ويدفع بها إلى سلسلة أدب الجماهير بالمنصورة، تلك السلسلة التي كان يشرف عليها المبدع الكبير فؤاد حجازي والتي تتمتع بمصداقية عالية فتولد أولى مجموعاته تحت عنوان "عدة أسباب للقسوة".

مصادفة ما في ندوة عابرة بقصر ثقافة قصر النيل قصر السينما حاليا يلتقي بسيوني بموهوب حاد الموهبة اسمه محمد عيسى القيرى تبادلا السلام ومضى كل منهما إلى حال سبيله، وليسمح لي القارئ العزيز أن أتركه هنا دون توضيح ولكن عليك أن تتذكر إسم عيسى وانتظر مع المقال المصادفة الثانية.

وقبل أن نبتعد أشير إلى تلك الندوة المهمة والتي خرج منها عبدالحميد بصداقة عميقة مع الكبيرين محمد بدوي ورمضان بسطاويسي.

مازلنا في بداية السبعينات وعبدالحميد يمضي في مشروعه تتلقفه دار الثقافة الجديدة تسأله عن مجموعة قصصية لتطبعها كان بسيوني جاهزا لتصدر مجموعة "أصوات في الليل" ويلفت بسيوني الأنظار أكثر فأكثر.. كان انتهى من دراسته الجامعية ليحصل على بكالوريوس التجارة عام 1971 ويلتحق بعدها بالخدمة العسكرية التى كانت بالقاهرة أيضا.. عام كامل بالافرول الميري، عسكري بعكوك بينما الصبايا جميلات على مقاعد المواصلات العامة.

تنتهي الخدمة العسكرية وهو يواصل الابتعاد عن القرية يلتحق بالإدارة المالية بمؤسسة الأهرام لكونه محاسبا وهذه هي مهنته، ولكن فيما يبدو أن وجود عبدالحميد الموهوب في القصة مع الآلة الحاسبة في الأهرام وبعيدا عن حروف المطبعة لم يكن أمرا طيبا له، لذلك غادر سريعا من شركة إلى أخرى ومن القاهرة إلى بغداد حيث يمضى هناك سنوات طوال مغتربا بينما يخفق قلبه نحو الاستقرار في الإسماعيلية، تلك المدينة ذات المسحة الباريسية في حينها وبالفعل يتحقق له ما أراد.

تنتهي سنوات غربته الاختيارية ويعود إلى شاطئ القناة موظفا كبيرا في شركة القناة لأعمال المواني، وبينما الحال هكذا وعبدالحميد يهرول على سلالم منزله كي يلحق موعد عمله، ليجد جاره في السكن الذي على بعد شقة منه جالسا في سيارته النصف نقل ويدعوه للركوب معه ليصل به مسرعا إلى مقر عمله.

في الطريق كان السؤال عن الإسم وأجاب الجار اسمي محمد عيسى القيري كاتب قصة ومهموم بالسياسة واليسار، المفاجأة التي هي أكثر من سارة نجحت في أن تجمع الصديقان بعد أكثر من خمسة وعشرين عاما من الابتعاد.

بقى أن نقول عن أعمال بسيوني له رواية وحيدة اسمها "أن تكون في نجريللى" صدرت عن مركز الإهرام 2015م، ولاقت رواجًا نقديًا وإعلاميا يليق بها وباسم عبد الحميد، كما أصدر عدة مجموعات قصصية منها: "أصوات في الليل" 1979م، "أخطاء صغيرة 2003م"، "عدة أسباب للقسوة" 2020.

انتهت سهرتنا ونحن يغلفنا الصمت.. نحن الذين نحب الكلام ولكن عبدالحميد كمن أزاح هما من على صدره لأنه تكلم دون مقاطعة من مدحت منير أو تعقيب من محمد حلمي أو استفسار من مسعد حسن علي.. بينما كاتب تلك السطور فقد استعاد لياقته الكتابية وهو يحاول توثيق سطور مضيئة عن كاتب القصة العميقة التي يقولون عنها قصة قصيرة.