كان التوقيت عصرا.. وفى مكتبه بالدور السادس بجريدة الأهرام فى منتصف شهر فبراير عام ألف وتسعة مائة وثلاثة وثمانين حيث موعد الحوار معه.
الهدوء يسود الدور السادس.. مضى نصف ساعة ولم أبدا الحوار بل الكاتب الكبير هو الذي بدأ حواره معى.
تصحيح: ليس حواره معى..كان يحدث نفسه أمامى بصوت عالى.
رغم مرور أكثر من نصف ساعة أوراقي بيضاء ولم أسطر فيها كلمة واحدة من الحوار المفترض أن أجريه مع الكاتب الكبير توفيق الحكيم.. وما بين صمته وأسئلته كنت فى دهشة ممتعة !
لقد حاول الكاتب أن يدخل في مواجهة مع أفكاره بأسئلته لى ليعرف كيف يمسك بخيوط ما يفكر به.. وعندما نظر مدققا فى ملامح وجهى ومتسائلا مرة أخرى هل ممكن ان تتخيل أن يكلمنا الله
الآن ونكلمه؟
عندما طرح هذا السؤال عدت بذاكرتى سريعا إلى الصف الثاني الثانوي وروايته المقررة علينا "عصفور من الشرق".. ذكرت مقولته التى حفظناها ونحن طلبة صغار فى هذه الرواية.
"لابد من الخيال... لأن عالم “الواقع” لا يكفى وحده لحياة البشر.. إنه أضيق من أن يتسع لحياة إنسانية كاملة".
ليس هذا فقط ولكن فى هذه الرواية أيضا ذهبت معه بخيالى إلى باريس، وأحبت شوارعها وجلست على مقاهيها، وعشقت مسارحها التى كان يحبها.
ملامح شخصيته وهو يحدثني فى مكتبه لم تتغير عن ملامح بطل رواية "عصفور من الشرق".
"محسن" ذلك الشاب غريب الأطوار البسيط الذى وقع في حب "سوزي" الفتاة الفرنسية الجميلة التى تعمل على شباك التذاكر في مسرح "الأوديون"
ولا أنسى أنه جذب خيالى بقوة فى هذه الرواية لأعيش لحظات حبه لهذه الحسناء الباريسية.. كما ما زلت أذكر ما كتبه عن صوتها الفاتن الذى يغنى كأنه طائر جميل أغنية الرواية المشهورة "كارمن"
الحب طفل بوهيمى!.
لا يعرف أبدًا قانونًا ! إذا لم تحبنى فأنا أحبك، وإذا أحببتك فالويل لك!
وأنا مدين له ومعترف بفضل هذه الرواية فى أنه أيقظ عندى الخيال وجعلنى أتذوق حلاوة العبارة واستمتع بجمال الأسلوب.
شاهدت "توفيق الحكيم" مؤلف الرواية الذى كان عمره لا يتجاوز الأربعين عاما وهو الآن الجالس وقد تجاوز الثمانين عاما يفكر بصوت عالى.
خمسة وأربعون عاما ما بين تأليف الرواية والحوار معه ولم تتغير شخصية المتمرد على الواقع.
عدت مسرعا على صوت الأستاذ توفيق الحكيم وهو يقول:
هل تتخيل كيف يكون الحوار بين الله وبين نبى من البشر؟
للحق لم أجد أى إجابة مقنعة له لكننى قلت للكاتب الكبير لكن الله تعالى اختص أيضا سيدنا إبراهيم بقوله
"وَٱتَّخَذَ ٱللَّهُ إِبۡرَٰهِيمَ خَلِيلٗا"
وكثير من العلماء قالوا إن الخلة هي شدة المحبة.. لم يعجبه ما قلته..
أشاح بوجهه عنى ولم يلتفت لى ولكنه علق على ما قلته بهدوء:
أقول لك إن هناك عدة تأويلات وتفسيرات عن معنى وصف كلمة (الخليل) وأضاف لكن ليس كما تعتقد أنت
سعدت بقوله.. والحق أن تستمع إلى مفكر كبير لا بد أن تكون منصتا فى يقظة وأن تنتبه كل حوسك لخواطره.
لذة عقلية كبرى أن تجلس مع مفكر متفرد وكاتب مبدع ورمز من أعظم الرموز الفكرية فى الوطن العربى...
لقد أكمل تفكيره بصوت هادئ وهو يقول، لكن الله قال: "وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا"، ظللت صامتا وهو يكمل ما يريد أن يفكر فيه..
واسْتَطْرَدَ قائِلًا ماذا لو أحد منا تخيل أنه يكلمه الله وهو كبشر يكلم الله!
هل تتصور هذا القول حتى خيالا؟
فى الأسبوع القادم أكمل حوار المفكر الكبير توفيق الحكيم الذي أجراه معى بدلا من أن أجرى انا معه حوارا.