أسعدنى الحظ، ودعانى الفنان الراحل الجميل محمد نوح قبل رحيله إلى صالونه الثقافى الجميل فى صومعته الهادئة الهادرة، الهادئة بمكانها فوق السطوح والهادرة بكوكبة روادها من المثقفين والمفكرين، بقدر ما سعدت بالجلوس إليه، بقدر ما حزنت على أننى لم أتعرف عليه بشكل حميم إلا أخيرًا، رحل وهجرنا صاحب موسيقى «المهاجر» وكأنه يودع زمنًا يخاصم موسيقى الجمال ويتصالح مع ضوضاء القبح، هذا ما كتبته لـ«نوح» بعد مقابلتى له متمنيًا له الشفاء ولكن الموت سبقنى.
حضرت صالون الفنان محمد نوح الثقافى بدعوة كريمة من الفنان الجميل صاحب الصالون، وبحضور باقة من رواده الذين يثبتون باستنارتهم ورقى حواراتهم واختلافهم المثمر أن مصر ولادة ولا يمكن أن يصيبها العقم، كنت مشغولًا خلال المناقشات والحوارات بسؤال مهم، كيف لا يُكرم هذا الفنان المبدع الذى أثر فى وجداننا حتى هذه اللحظة؟!، تُقام أعياد الفن ولا يذكر اسمه، تقدم جوائز الدولة التقديرية كل عام ولا يتم ترشيحه، تعقد المهرجانات والاحتفالات ويتم تجاهله ونسيانه، هل هذا معقول؟!، هل لا يعرف أحد فى وزارة الثقافة، ماذا قدم هذا الرجل؟ هل لأنه عازف عن التزلف والنفاق والتقرب لأصحاب الكراسى يتم نفيه؟ هل لأنه موسيقار مثقف ثقافة حقيقية ومهموم بقضايا وطنه نهمشه ونشطب عليه؟
تذكرت وأنا طفل أصحب عمى الذى كان جنديًا مشاركًا فى حرب 73 ونزل إجازة من سلاح الدفاع الجوى بعد الحرب، وكان قد قضى أجمل سنوات حياته فى الجيش انتظارًا لقرار الحرب، أنه قال لى: «النهاردة حنروح معرض الغنايم فى الجزيرة»، ضم هذا المعرض غنائم الجيش المصرى من دبابات ومدافع وصواريخ وطائرات إسرائيلية، تحمست لأننى سأستمع إلى محمد نوح، كانت أغنية: «مدد شدى حيلك يا بلد» هى القوت اليومى للمصريين أثناء الحرب، كنت أريد أن أستمع وأشاهد أيضًا، أشاهد هذا الصوفى المتبتل العاشق الذى ينفجر ينبوع حماسه أثناء الغناء، ألمح دموعه وأراقب عضلات وجهه الغاضبة وأشاهد نظرة التفاؤل الصافية على ملامحه المصرية المنحوتة بأزميل الصبر وكأنها أحد تماثيل مختار المحفورة على جرانيت مصر المحروسة، بكيت معه وقفزت سرورًا على أنغامه، قال لى عمى عندما شاهد الآلاف يغنون مع «نوح» فرحًا بالنصر: «الحمد لله دم زمايلى ماراحش هدر».
يا من لا تتذكر هذا العملاق، استمع إلى موسيقى فيلم «المهاجر» لتتعرف على ما هو التأليف الموسيقى والهارمونى والبناء والحس؟، هذا الفنان الذى لم يكتف بتعلم الموسيقى هنا فى مصر فسافر إلى أمريكا ليستزيد من العلم وعاد ليقدم شيئًا مختلفًا لم تتعود عليه الأذن المصرية، يا من تتجاهل هذا الفنان العبقرى، استمع إلى موسيقى مسرحية «سحلب»، واحدة من أعذب وأرقى وأهم التجارب الغنائية الموسيقية فى تاريخ المسرح المصرى؛ لكن للأسف لم يكتب لها الاكتمال وبترت واغتيل نجاحها.