باقٍ عام واحد ونحتفل بمئوية الكاتب والمفكر والفيلسوف الكبير أنيس منصور الذي وُلد في 18 أغسطس 1924، وهي فرصة للحديث عن أبعاد نفسية وفلسفية لم يسبقه أحد إليها، كيف كان له مشروع فلسفي عميق، ونقلات خاطفة من كتابه «وداعًا أيها الملل»، الصادر عن دار الشروق عام 1984، وكتاب «القوى الخفية».
فإذا كان عندك وقت فاجلس في غرفة مغلقة عليك، وحاول أن تُغمض عينيك، لا لكي تنام ولكن لكي توفر لنفسك الهدوء ولعقلك الطاقة على أن تفكر.. ولن أذهب بك بعيدًا، المطلوب منك أن تفكر في نفسك، لا في الذي حدَث أمس أو أول أمس، ولا في الذي سوف يحدث غدًا، ولا في كيف تُعاقِب من أساء إليك، أو تُكافئ من أحسن إليك، أو في كيف تتخلص من الذين يُضايقونك، أو تزداد ارتباطًا بالذين تُحبهم ويحبونك..
أيها الإنسان، أنت أكبر وأعظم وأروع مما تتصور، ولكنك لا تدري.. فلا عندك وقت، ولا عندك صبر، ولا لك رغبة.. فأنت ضحية دنياك الضيقة..!! القوة الحقيقية في أعماق الإنسان.. ففي داخل الإنسان كل القوى، وهو قادر على أن يجعل جسمه أو عقله منيعًا لكل ما في الدنيا من توتُّر وهو قادر على أن يجعل رأسه محطة إذاعة تتلقَّى كل الأصوات في هذا الكون ثم يُعدِّلها لحسابه.
ورغم قوة الإنسان؛ فإن العَفَن يُولد في قلب التفاحة، الذي هَضَمها آدَم قبل آلاف السنين ليترك نَسْلَه يواجهون الإحباط والمَلَل، في حالة انعزال عن هذا العالم الذي لا يتوقف.
حتى الشيطان الذي حُرِم من السعادة الأبدية في السماء لم يستسلم بل يحاول ويحاول، لم يفقد الأمل، ويشعر بالذنب في كل لحظة، لكنه مستمر في النضال داخل صراعه الأبدي مع الإنسان.
يا صديقي، الشياطين لم تفقد الأمل؛ لأنها لا تعرف الملَل، لا تعرف اليأس، لديها رغبة حقيقية في الوصول إلى رحمة الله التي لا حدود لها؛ فهي تتسع للإنسان والشيطان أيضًا.
هل النقص في الإنسان أو الواقع؟ هل فقدنا الاتصال بالعالم أو فقدنا العالم؟ هل أصبحنا كالجماد مثل كيس من «النايلون» مُلقًى على الأرض؟!
قد نفقد الأمل أحيانًا لكن لا يجب أن يتملكنا الملل؛ ذلك الشعور بالغُربة والغَرابة والاغتراب.
في البدء خلق الله السموات والأرض، ثم خلق آدم وحواء فشعرا بالملل فارتَكبا أول خطيئة، ثم أنجبا قابيل وهابيل، وعندما زاد الملل ظهرت الضغائن وقتلَ الأخُ شقيقَه.
ومن المَلَل خرجت الحضارات، ومن الملل في أوروبا ظهرت أمريكا، ومن المَلل من الكُرة الأرضية ظهرت الأقمار الصناعية، ومن الملل من الإقطاع اشتعلت الثورة الفرنسية، والملل من الرأسمالية قامت الثورة الروسية، وهكذا..
ختامًا: إن كان الملل سرًّا من أسرار الكون والقضاء عليه من نواميس الحياة، لكن هذا لا يمنع أن السعادة آتيةٌ لا مَحالة.