لم تكن الكنيسة القبطية في عصورها الأولى حبيسة الداخل المصري بل كانت كنيسة كرازية تتميز بخصائص مسكونية إمتدت كرازتها حول العالم شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، فقد تتلمذت على يديها كنائس أورثوذكسية عريقة في أفريقيا مثل الكنيسة الأثيوبية، وإمتد تأثيرها عبر مناطق في أسيا الصغرى وأوروبا سواء عبر رحلات كرازية مباشرة للكنيسة القبطية، أو عبر أبنائها الأقباط أثناء جولاتهم العسكرية أو التعليمية في القرون الأولى للمسيحية، كما كان لمدرسة الاسكندرية وأبائها ومعلميها دور عظيم في تمدد الكنيسة القبطية وفكرها عبر العالم المسيحي، فضلاً عن حركة الرهبنة القبطية التي أصبح مؤسسيها الأقباط أباء للرهبنة في كل العالم.
حتى أن مسيحيو أوروبا في شمال إيطاليا وسويسرا وغرب ألمانيا يحتفلون بشهداء وقديسين أقباط كانوا ضمن الكتيبة الطبية المرسلة من مصر لوسط أوروبا في عهد الإمبراطور ديقلديانوس أواخر القرن الثالث، وهناك عشرات الكنائس في أوروبا بأسم شهداء وقديسين أقباط مثل القديسة فيرينا والقديس موريس قائد الكتيبة الطبية القبطية الذي تحمل أسمه عدة مدن في جنوب وشرق سويسرا، كما تحمل أسمه 114 كنيسة في ألمانيا وحدها.
ومع تقلبات الواقع السياسي في الداخل المصري ودخول الكنيسة القبطية في عصور متلاحقة من الإضطهاد والأستشهاد، إنحسر عملها الكرازي في الداخل المصري ومع الوقت إكتسبت خصائص وطنية ككنيسة قبطية تستهدف الأقباط فقط وتخلت تدريجياً عن دورها الكرازي العالمي، إلى أن بدأت حركة الهجرة القبطية خارج مصر في النصف الثاني من القرن الماضي، وبعد تزايد عدد المهاجرين الأقباط في دول العالم إستعادت الكنيسة القبطية دورها الكرازي مرة أخرى خارج الحدود المصرية في حقبة جديدة بملامح وخصائص كرازية جديدة مستهدفة أولاً أبنائها الأقباط المهاجرين مع ضم أعضاء للكنيسة من الجنسيات الأخرى.
وقد شهدت فترة حبرية قداسة البابا شنودة الثالث هذا الشهر بداية حقبة كرازية جديدة للكنيسة القبطية بعد إنحسارها في الداخل المصري لقرون طويلة، ومع إنتشار ظاهرة الهجرة وتزايدها في العقود الاخيرة نشأة معها نمط جديد من أنماط المواطنة في المجتمعات المستقطبة للمهاجرين، فلم يعد حق المواطنة قاصرأ على أبناء البلد الأصليين بل شمل أيضاً المهاجرين الشرعيين في معظم الدول المستضيفة، ومع نشوء النمط الحديث للمواطنة والمتعلق بمزدوجي الجنسية نشأ معه نمط جديد من الكرازة القبطية خارج الحدود المصرية، مستهدفاً المهاجرين الأقباط في كل العالم شرقاً وغرباً.
ورغم البداية المبكرة لحركة الهجرة القبطية بعد 1952، إلا أن تحرك الكنيسة القبطية الكرازي جاء متأخراً بحوالي عشرون عاماً وتحديداً مع بدء حبرية البابا شنودة الثالث في 1971، فقد كانت هناك خدمة روحية ضعيفة للكنيسة القبطية بالمهجر قبل 1971 من خلال مذابح متنقلة وكهنة منتدبين بصفة مؤقتة، ولم تكن عدد الكنائس القبطية بالمهجر قبل حبرية البابا شنودة تتعدى السبعة كنائس حول العالم، فعلى سبيل المثال تأسست أول كنيسة قبطية بالولايات المتحدة الأمريكية يوم 22 فبراير 1970 قبل بداية حبرية البابا شنودة بعام واحد، وهي كنيسة مار مرقص الرسولي بمدينة جيرسي سيتي بولاية نيوجيرسي، إلى أن تمددت الكرازة في عهده بالولايات المتحدة لتصل إلى ثمان إيبارشيات تضم مئات من الكنائس القبطية وعدد من الأديرة.
لم تكن علاقة البابا شنودة بأقباط المهجر مجرد علاقة راعي برعيته، لكنه كان أكثر حكمة وصاحب رؤية سياسية في إحتضان المهاجرين الأقباط، فقد كان للبابا المتنيح فكراً أبعد من الرعاية الروحية في علاقته بأقباط المهجر إنطلقت من منظور إجتماعي وسياسي، فبعد التزايد المستمر للمهاجرين الأقباط وبزوغ نمط جديد للمواطنة بالخارج كان أبرز مظاهره ظاهرة مزدوجي الجنسية، ومع ميلاد أجيال جديدة بالمهجر مكتسبة لجنسية المجتمعات الجديدة ومتشبعة بثقافاتها وتقاليدها، أدرك البابا وقتها أهمية تلك الشريحة الكبيرة من الأقباط التي تعد إمتداد للهوية القبطية بالعالم الخارجي، كما أنها تمثل دعم إقتصادي وإجتماعي وسياسي للمكون القبطي بالداخل المصري، فضلاً عن دورها في مساندة القضايا المصرية بالخارج لما لأعضائها من ثقل تصويتي وسياسي ودبلوماسي في المجتمعات المستضيفة.
ورغم أن أقباط المهجر ليسو خليطاً متجانساً إجتماعياً وسياسياً وثقافياً، لكونهم موزعين جغرافياً على كل قارات العالم، ومختلفي اللغات والثقافات والتقاليد والخصائص الإقتصادية بإختلاف الدول المستضيفة لهم، إلا أن البابا شنودة نجح في إستيعابهم داخل الكنيسة ووحد نمط التواصل معهم، وقام ببناء هيكل إجتماعي ورعوي هرمي داخل مجتمع الأقباط بالمهجر من خلال المؤسسة الكنسية، فأوفد في بادئ الأمر الكهنة والأساقفة من مصر لخدمة تجمعات الأقباط في المهجر روحياً، ومن خلالهم قام بإختيار عناصر من أبناء الجاليات القبطية ليكونوا رعاة دائمين ومقيمين بالمهجر.
فدشن مئات الكنائس تابعة لإيبارشيات بلغ عددها 27 إيبارشية في كل بلاد المهجر: أربعة في أفريقيا، وواحدة في أسيا، و11 في أوروبا، وستة في أمريكا الشمالية، وإثنين في أمريكا الجنوبية، وثلاث إيبارشيات في أستراليا، وقام بتأسيس أسقفية لشئون أفريقيا وأسقفية عامة للكرازة، كما قام بأكثر من مائة رحلة لافتقاد الكنائس القبطية خارج مصر خلال الفترة من نوفمبر 1971 إلى يوليو 2011، وأشرف على تأسيس مراكز ومدارس وأديرة قبطية ببلاد المهجر.
البابا شنودة الثالث أدرك وإستوعب طبيعة حقبة زمنية جديدة تمر بها الكنيسة القبطية بعد تمدد شعبها في كل بلاد العالم، فعمل على ربط الشرائح القبطية المهاجرة بوطنهم الأم وهويتهم القبطية الاصلية بمختلف أجيالهم ولغاتهم وتنوع ثقافتهم، حتى أن تجمعات الأقباط بالمهجر باتت جزء أصيل وإمتداد للمكون القبطي بالداخل لا يختلف عنه شكلاً أو موضوعاً، لدرجة أن الحرص المفرط على إحتواء الأقباط بالمهجر، أدى إلى غياب بعض الإجراءات الضرورية للإصلاح والحداثة لإستيعاب الأجيال الجديدة التي قد تكون أنماط الرعاية الروحية التقليدية لم تعد مناسبة للتعامل معهم وإستقطابهم.
البوابة القبطية
الباحث نجاح بولس يكتب: البابا شنودة وكنائس المهجر.. حقبة جديدة من الكرازة
تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق