ما الأمثال إلّا مقولات ذات مغزىً وتحمل بين طيّاتها العظة والفائدة، والإيجاز من غير حشو أو إطالة هو أهم مميزات الأمثال، مع عمق في المعنى وكثافة في الفكرة، وقد توارثتها الأمم مشافهةً من جيل إلى آخر، والمثل عبارة محكمة البنية بليغة، شائع استعمالها عند طبقات المجتمع كافة، وإذ يلخّص المثل حكاية عناء سابق وخبرة غابرة اختبرتها الجماعة، فقد حظي عند الناس بثقة تامّة، فصدّقوه ذلك أنّه يُهتدى به في حلّ مشكلة قائمة بخبرة مكتسبة من معضلة قديمة، وتلك المعضلة القديمة آلت إلى عبرة لا تُنسى، وقد قيلت هذه العبرة في جملة موجزةٍ قد تُغني عن رواية ما جرى هي الأمثال، وفيما يلي بين يدينا مثل عربي مشهور هو: “لا يفلّ الحديد إلّا الحديد”.
مثل: “لا يفلّ الحديد إلّا الحديد”، من الأمثال العربية المشهورة المتداولة بكثرة على الألسنة، والمقصود منه: أنّه لا شيء بإمكانه أن يؤثّر في الحديد إلّا الحديد بحدّ ذاته، وهو يُستخدم في الكثير من الأحداث والمواقف الحياتية، فحين تؤرّق المرأة زوجها وتنغّص عليه عيشته، قد ينصحه أحدهما بالزّواج بأخرى، قائلًا: يا أخي لا يفلّ الحديد إلّا الحديد، أي لا يقهر المرأة إلّا امرأة مثلها، وهو يُضرب في المواقف التي يُعبّر فيها عن قوّة إنسان مقابل آخر يضاهيه في البسالة والشّجاعة، كي يمكنه أن يقهره ويتخلّص منه بسهولة.
قصة مثل: “لا يفلّ الحديد إلّا الحديد”
فيما يُروى عن أحداث قصّة مثل: “لا يفلّ الحديد إلّا الحديد”، أنّه خلال حكم الخليفة العباسيّ هارون الرّشيد للدّولة الإسلاميّة، خرج الوليد بن طريف التّغلبيّ، وقام بالفتك بإبراهيم بن خازم والي هارون الرّشيد في الجزيرة، وحين اشتدّ ساعده، وقويت شوكته، دخل إلى أرمينية وحاصرهم مدّة عشرين يومًا، وكي يخلصوا أنفسهم من الأسر، افتدوا أرواحهم بثلاثين ألف.
ثمّ إنّ الوليد التّغلبيّ بعد ذلك تقدّم ناحية أذربيجان وحلوان وأرض السّواد، وكذلك فعل أهل هذه المناطق كما فعل أهل أرمينية، إذ إنّهم افتدوا أنفسهم بمئة ألف، وهكذا استمرّ الوليد في عمليات التّخريب والقتل والفتك، إلى أن ضاق به الخليفة ذرعًا، وأخذ يبحث عن شخص يساويه في القوة، ويضاهيه في الشّجاعة، فلم يجد أحدًا أفضل من ابن عمه الفارس المغوار والمقاتل الشّجاع: “يزيد بن مزيد بن زائدة الشّيبانيّ البكريّ الوائلي”، والملقّب بالعنزيّ.
ولما بلغ الوليد أمر مجيء ابن عمّه يزيد كي يلاقيه، قال: “ستعلم يا يزيد إذا التقينا …. بشطّ الزّاب أيّ فتى أكون“، ولأنّ يزيد كان شديد الذّكاء ظلّ يراوغه ويماكره، فقال بعض المحرّضين للخليفة هارون الرّشيد: إنّ يزيد يتجافى عن منازلة وحرب الوليد بسبب صلة الرّحم التي بينهما، فكلاهما من بيت وائل، فما أن سمع هارون الرّشيد ذلك حتّى غضب بشدّة، وأمر يزيد بمناجزة الوليد والتّخلّص منه بعد أن أغلظ له في القول.
بعد استعجال الخليفة ليزيد، قام بالهجوم على الوليد، والتقى جيشاهما، وثبت يزيد ومن معه، وثبت الخوارج الذين كانوا مع الوليد أيضًا، غير أنّ رجال يزيد استطاعوا من إرهاق الخوارج، فولّوا هاربين، وهنا تبعهم يزيد، ولحق بالوليد ابن عمه، وفصل رأسه عن رقبته كي يستريح المؤمنين من أفعاله، وبالفعل لقد كان هذا اليوم يومًا مشهودًا ليزيد، إذ كثرت فيه قصائد المدح فيه، وكان ممّا نظمه بعض الشّعراء عنه يومها:
“يا بني وائل لقد فجعتكـــــــم … من يزيد سيوف بالوليد
لو سيوف سوى سيوف يزيد …. قاتلته لاقت خلاف السّعود
وائل بعضهم يقتل بعضًا … لا يفلّ الحديد إلّا الحديد”.
منذ ذلك الوقت ضُرب مثل: “لا يفلّ الحديد إلّا الحديد” في يزيد العنزيّ، للتّعبير عن مدى قوته، وهو من دم الوليد، وكان يضاهيه بسالة وشجاعة، لذلك تمكّن من قهره والتّخلص منه بسهولة، ثمّ إنّه صار مثلّا مشهورًا تناقلته الأجيال، يُضرب في المواقف المشابهة للموقف الأصليّ.