مائة عام من الحضور الفعلي عبر رؤية لاهوتية وكنسية وضعها منذ علمانيتة، البابا شنودة متفرد ومختلف عن كل بطاركة القرن العشرين، فهو علماني جسدت علمانيتة خبرات حياة عميقة، رضع من مرضعة مسلمة، فأمتزجت هويته المصرية مع معموديتة المقدسة فصار مصري مسيحي، يتيم فأدرك الحرمان وتعلم منه وتحول قهر اليتم الي ابداع واشعار ورغبة في البحث عن الحقيقة، اكتسب طفولتة قبل ان تدركها الاوراق الرسمية، البابا الوحيد الذي عمل بالسياسة وكان من انصار مكرم عبيد ( ووفق حديث معة في الاهالي كان سكرتير تحرير صحيفة الكتلة لسان حال حزب الكتلة المنشق عن الوفد) وبدات علاقتة بالرئيس السادات منذ ان كان السادات يكتب مقال للكتلة وكان نظير مجلي يجيد اللغة العربية افضل من السادات، وكثيرا ما اختلفوا علي مقالاتة، ـ ربما يكون ذلك بداية التنافس الذي تطور بعد ذلك ـ كما ان نظير مجلي كان ضابط وحارب من أجل فلسطين مما ترك في نفسة رؤية عروبية انبثقت من مكرم عبيد ومن دماء الفالوجا، كما ان نظير مجلي كان معارضا كنسيا كتب في مجلة مدارس الاحد العديد من المقالات المعارضة مثلا للائحة البطريرك وغيرها، كل ذلك يؤكد علي اننا امام شخصية متفردة وعظيمة الخبرة.
رؤيتة للإصلاح الكنسي والموقف من السلطة:
من “،”نظير جيد“،” وحتى “،”البابا شنودة“،” مرورًا بالراهب “،”أنطونيوس السرياني“،”، 58 عامًا منها 50 عامًا من المسئولية، حيث رسم البابا كيرلس السادس الراهب أنطونيوس السرياني أسقفًا للتعليم 1962، ومنذ ذلك التاريخ وحتى رحيله 2012، هناك العديد من الأسئلة الموضوعية التي تحتاج لمزيد من الإجابات، على سبيل المثال سؤال: “،”هل كان البابا شنودة يسعي للسلطة الكنسية من اجل الاصلاح ؟.. ولمحاولة الإجابة عن ذلك السؤال لابد من العودة إلى 1956 حينما فتح باب الترشيح للكرسي البابوي بعد رحيل الأنبا يوساب الثالث 1956، تقدم الراهب الشاب أنطونيوس السرياني للترشح للكرسي البابوي، رغم أنه لم يكن مضى أكثر من عامين على دخوله الدير! ترى لماذا يقوم راهب شاب ترك العالم ولم يكن قد تمرس بعد في الحياة الرهبانية بالتطلع إلى أعلى رتبة وسلطة كنسية؟ هل كان لديه مشروع لإصلاح الكنيسة من قبل دخول الرهبنة، وذلك المشروع ما كان ليتحقق إلا بالجلوس على قمة الهرم الكنسي؟ أم أن الأمر لا يعدو أكثر من الرغبة في السلطة؟.. في الحالتين هل كانت الرهبنة هي السلم للوصول لتلك القمة؟.. ولم يقتصر الأمر على الشاب نظير جيد (أنطونيوس السرياني) بل كان هناك مرشحون آخرون مثل الراهب مكاري السرياني (الأنبا صموئيل) فيما بعد، والراهب متى المسكين، ووهيب عطاالله (باخوم المحرقي)، والأنبا غورغوريوس فيما بعد.. وهكذا يبدو جليًّا للعيان أن ما جمع هؤلاء الرهبان الشباب هو الحلم في تغيير الكنيسة عبر الصعود إلى أعلى سلم الرهبنة، حيث التأهل لقمة الهرم الكنسي، حيث مراكز صنع القرار.. أم أن الأمر هو مجرد الرغبة في الوصول للسلطة؟! خاصة أنهم كانوا الرهبان الأوائل الحاصلين على مؤهلات عليا، في وقت كانت الرهبنة يغلب عليها الأميون أو غير المتعلمين، ولكن حينذاك أتت الرياح بما لا تشتهي السفن. تحالف عبدالناصر الثوري في 1956 مع الحرس القديم في الكنيسة، ولعب المرحوم كمال رمزي أستينو (وزير التموين حينذاك) في ذلك دور الوساطة بينه وبين الأساقفة المحافظين، وفي مقدمتهم القائمقام الأنبا إثناسيوس مطران بني سويف.. والذي رسم أسقفًا في مطلع القرن العشرين، ويمتد فكره التقليدي إلى القرن التاسع عشر، وافق الزعيم الثوري عبدالناصر على لائحة انتخاب البطريرك (لائحة 57) التي تقضي بألا يقل سن المترشح عن 40 سنة، علمًا بأن ناصر كان رئيسًا للجمهورية في سن 38!! وذلك لتحقيق رغبة الإكليروس التقليدي لاستبعاد كل المرشحين من شباب الرهبان. تبقى أمام الحرس الكنسي القديم من المرشحين القمص متى المسكين الذي كان يتبقى على بلوغه الأربعين شهور، فتمت إضافة بند للائحة يقضي بأن يكون المرشح قد أمضى 15 عامًا في الحياة الرهبانية.. بذلك تم إبعاده وكان القائمقام الأنبا إثناسيوس قد اتخذ قرارًا بعدم جواز ترشح الأساقفة والمطارنة، ولذلك ما تبقى من المرشحين صاروا خمسة قمامصة هم: دنيال المحرقي وتيموثاوس المحرقي وأنجيليوس المحرقي ومينا الأنطوني ومينا البراموسي (البابا كيرلس السادس) ويعود ذلك القرار إلى عدم جواز ترشح أساقفة للكرسي البطريركي وفق مقررات أكبر مجمع كنسي وهو مجمع نيقية 325 ميلادية، وذلك لأن التقليد الكنسي يعتبر أن الأسقف تزوج من (إيبارشيته) ولا يجب أن يكون الأسقف إلا (بعلًا لامرأة واحدة)، والغريب أن البابا شنودة الذي أضير من اللائحة وكتب ضدها في مجلة مدارس الأحد العديد من المقالات.. لكنه بعد وصوله للكرسي البابوي دافع عن تلك اللائحة حتى اخر ايامة وترك لمن يخلفة اتخاذ الموقف ؟
أما عن علاقة البابا شنودة الثالث بالمجموعة التي ترشحت معه عام 1956 للكرسي البابوي؟ (متى المسكين، الأنبا غورغوريوس، الأنبا صموئيل)، فالغريب أن العلاقات بينهم صارت غير طبيعية، هل يعود ذلك للتنافس على السلطة الكنسية؟ ولم يتوقف الأمر على الخلاف بل وصل الأمر إلى حد القطيعة مثلما حدث بين الآباء متى المسكين وغورغوريوس والبابا، وتحالف بعضهم مع السادات في أزمة 1980 للاسف ؟!
ولم يقتصر الأمر على خلاف البابا شنودة مع أقرانه بل بعد أن رسمه البابا كيرلس السادس أسقفًا للتعليم 1962، دب بينهما الخلاف عام 1968 بسبب الكلية الإكليريكية.. فتظاهر الإكليريكيون ضد البابا كيرلس فأبعد البابا كيرلس الأنبا شنودة إلى الدير، ثم عاد بعد وساطة الدكتور سليمان نسيم، عالم الاجتماع ورئيس تحرير مجلة مدارس الأحد حينذاك وتلميذ البابا كيرلس، الغريب أن البابا شنودة أبعد فيما بعد سليمان نسيم عن المجلة وعن رئاسة قسم الاجتماع بمعهد الدراسات القبطية !
من السلطة الكنسية إلى السلطة السياسية نتوقف قليلًا أمام الخلاف بين الرئيس السادات والبابا شنودة.. وكما يؤكد الكاتب الكبير حسنين هيكل في كتابه “،”خريف الغضب“،” فإن السادات بعد رحيل البابا كيرلس كان يحبذ انتخاب الأنبا شنودة خلفًا للبابا كيرلس ويراه الأنسب!! وفي عام 1977 بعد انتفاضة 18 و19 يناير زار السادات الكاتدرائية المرقسية بالعباسية ومدح البابا شنودة! ترى ماذا حوّل هذه العلاقة الودية إلى الصدام؟ هل المظالم القبطية؟ البعض يرى أن المظالم القبطية كانت موجودة وتتفاعل من سيئ إلى أسوأ، ولم تتدهور العلاقة بينهما مثلما وصلت في أحداث سبتمبر 1980.. هل يعود ذلك إلى الصراع على السلطة كما أراد أن يصور ذلك السادات؟ علمًا بأنهما- الرئيس والبابا- أبناء مدرسة سياسية واحدة، مدرسة الكتلة لمكرم عبيد!!
رؤية البابا لاصلاح الكنيسة قدم فيها عشرات الكتب في التعليم ورسم اكثر من مائة اسقفا عاما فتجاوز المجمع المقدس المائة بعد ان كان في عهد من سبقوة لايتخطي كثيرا العشرات، ومن ثم اغلب المجمع والعلمانيين الذين تربوا علي تعاليمة يقودون العمل الكنسي بأفكارة وتعايمة حتي الان.
وهكذا يبدو للعيان أن أصعب الأسئلة التي تحتاج للدراسة العلمية الموضوعية هي علاقة البابا شنودة بالسلطة الدينية والسياسية، كون البابا شخصية مؤثرة في حياة الوطن والكنيسة حتي الان.