تمر هذه الأيام الذكري المئوية لميلاد قداسة البابا شنودة الثالث حيث ولد يوم ١٣ أغسطس عام ١٩٢٣، ويعد موسوعة ثقافية ودينية وفنية وعلمية لا يمكن أن يغفلها أحد، فهو أحد أعمدة الكنيسة الأرثوذكسية علي مر الأجيال.
اشتهر البابا المتنيح بأسلوبه الرصين في كتابة الشعر، واستخدام أبياته الشعرية بشكل بسيط وواضح، حتي أن أشعاره من السهل أن يرددها البسطاء ويحفظها الكبار والصغار.
و نسج البابا أبياتًا شعرية في معظم المواقف الحياتية التي مر بها علي مدار عمره، منذ أن كان طالبًا في المرحلة الثانوية مرورًا بفترة الرهبنة ووصولًا لكرسي ماري مرقس الرسول.
و عبر البابا شنودة الثالث من خلال قصائده علي مراحل حياته المختلفة، ففي المرحلة الثانوية وتحديدًا عام ١٩٣٩ نظم أول قصيدة شعرية وكان عمره وقتها ١٦ عامًا ودارت القصيدة حول مولده، ولخص فيها باقتدار قصة حياته وقال فيها: أحقًا كان لي أم فماتت.. رباني الله في الدنيا غريبًا
أم أني خلقت بغير أم.. أحلق في فضاء مدُلهم.
و امتزجت قصائده في هذه المرحلة بحالة من الشجن حيث كان لديه شغف كبير لتعلم قواعد الشعر وتطوير مهاراته فيه، وقد استطاع دراسة قواعد الشعر الموزون، كما يبدو أنه كان يهتم كثيرا بأن يجعل شعره مفهوما وسهلا للجميع، وأيضًا كان يحرص على استخدام موسيقى لطيفة تناسب شعره وهذا يعكس رغبته في الوصول لجمهور كبير لجعل الشعر متاحًا للجميع.
وقال البابا شنودة واصفًا هذه المرحلة بأنه كان يقرأ كل ما يقع تحت يديه، حيث قال في أحد اللقاءات التليفزيونية: قرأت كتاب طه حسين "قادة الفكر " وقصة "سارة" للعقاد، وكتبًا كثيرة لشرلوك هولمز وغيره من الآداب العربية والأجنبية.
واحتوي شعر البابا شنودة علي عمق الفلسفة والروحانية في وقت واحد.
وكان البابا شنودة الثالث يحب الأدب والشعر العربي وكان يعشق أعمال الأدباء والشعراء مثل أحمد شوقي، توفيق الحكيم، نجيب محفوظ
كان يعتبر الشعر بوابته إلي اللغة العربية التي عشقها وأجاد العزف علي أوتار كلماتها وتناغم مع حروفها.
وبالفعل كان البابا شنودة الثالث لا يقتصر تفاعله مع اللغة العربية علي الشعر فقط بل كان يتمتع بمهارات لغوية عالية وكان صحفيًا وكاتبًا بارعًا ويتقن اللغة العربية بشكل كبير وكان يتمتع بقدرة عالية علي التعبير عن أفكاره وتفاعله مع الحضارة العربية الغنية، حيث كان خطيبا مفوها، وصاحب خفة ظل وسرعة بديهة تحمل ردودا فكاهية رصينة، جعلته قريبا من البسطاء والمثقفين في وقت واحد.
وفي مرحلة ما قبل الرهبنة كتب البابا شنودة الثالث العديد من القصائد المهمة التي عبرت عن تلك المرحلة بشكل رائع، ومنها قصيدة عن مادة الجغرافيا تنتمي للشعر الفكاهي يقول في بعض أبياتها:
حاجة غريبة بأدخلها بالعافية في مخي ماتدخلشي.. بنشوف في الأطلس أمريكا والمانيا وبلاد الدوتشي..ما تقول لي بأي فوتغرافيا وتقول ما تقول ماها صدقشي.
كما كان بارعًا في كتابة الزجل، حيث كتب العديد من القصائد منها قصيدة ( يعملوني عميد )
وقال فيها وهو طالب بالسنة التانية بكلية الآداب: ياما نفسي شهر واحد مش عايزه يزيد.. يعملوني فيه عميد أو حتي نائب العميد كنت أعمل للسياسية كلها ترتيب جديد.. كنت أهلي الشخص يتخرج تقول زي الحديد
وازداد نضجه في كتابة الشعر شيئًا فشيئًا حتي أنه كتب قصيدة بعنوان (ذلك الثوب) وعمره كان وقتها ٢٣ عامًا، وقال فيها:" وهوذا الثوب خذيه..ان قلبي ليس فيه"
و في نفس العام كتب قصيدة بعنوان (غريبًا) قال فيها: غريبًا عشت في الدنيا نزيلًا مثل أبائي.. غريبًا في أساليبي وأفكاري واهوائي.
كما كتب أيام الرهبنة العديد من القصائد التي تحمل معاني روحية عميقة مثل "قصيدة كيف أنسي وأنا الجبار أم شبحي ".
و في سنوات عمره الأخيرة كتب العديد من القصائد فيها أحبك يارب في خلوتي و(حرمت الجبال ) و( يا إلهي ) و( حنانك يارب ) و( ان جاع عدوك أطعمه ).
و في نفس الوقت الذي كان البابا شنودة الثالث ينسج فيه شعره، كانت لموهبة الكتابة الصحفية مكانة كبيرة في قلبه، حيث توهج ككاتب صحفي وقدم مئات المقالات في العديد من الاصدارات الصحفية منها (جريدة الجمهورية - جريدة أخبار اليوم - جريدة الأهرام )و كتب مقالات أيضًا في مجلة الهلال - جريدة وطني، كما شارك بالكتابة في مجلة مدارس الأحد وأسس مجلة الكرازة.
و كان مهتم بمفهوم الصحفي المثالي، حيث كان يتحدث في مقالاته علي أهمية الدقة والأمانة والصدق والموضوعية ونشر المعلومات الهامة للجمهور، وكان يعتز بانتمائه لنقابة الصحفيين،كما كانت له رؤية واضحة حول الصحافة ودورها في المجتمع وحرية الصحافة في الثقافة القبطية.
وبجانب الشعر والصحافة، كان للبابا شنودة الثالث تجربة مهمة في عالم المسرح الشعري حيث كتب مسرحية قصيرة بعنوان " في جنة عدن " سنة ١٩٥٤
والتي تتكون من منظرين اثنين وتدور حول قصة ادم وحواء وصراعهما مع الحية، وتؤكد هذه المسرحية القصيرة علي شاعرية البابا المتدفقة واستخدامه لاليه السرد القصصي وابرازه لفنية المسرحية الشعرية مثل رسم الشخصيات وتناول الموضوعات الدينية والروحية بطريقة فنية
و بالفعل بعد وفاته بقي شعر البابا شنودة الثالث يعبر عن تأملاته الفكرية العميقة ويمثل تراثًا ثقافيًا هامًا في الكنيسة القبطية الأرثوذكسية وفي الأدب العربي والشعر يمكن أن يؤثر علي الأجيال المختلفة.
تنيح البابا شنودة الثالث منذ حوالي ١١ عاما ليترك للثقافة المصرية عشرات القصائد التي تحمل بين جنباتها الحكمة والموعظة والجانب الروحاني العميق.