ليست المسألة في الاتفاق أو الاختلاف مع جملة الأطروحات والاجتهادات التي يقدمها طارق حجي عبر العديد من مؤلفاته المتنوعة التي تشتبك مع المعطيات والتحديات التي تواجه الثقافة المصرية والعربية، لكنها في ضرورة الإقرار بأنه يمثل ظاهرة مهمة جديرة بالاهتمام والتأمل والتحليل منذ ثمانينيات القرن العشرين، وأبرز ما في هذه الظاهرة أن المفكر المستقل يجمع في منهجه النقدي بين شجاعة التناول الجريء غير المؤدلج من ناحية وبين القدرة غير المحدودة على تغيير المسار والتطور وإعادة النظر من ناحية أخرى، مدفوعا في تحولاته هذه بقناعات موضوعية لا تعرف الجمود والتشنج وضيق الأفق وأحادية التفكير المغلق، فضلا عن أنه مسلح في مسيرته متعددة الفصول بثقافة موسوعية متكاملة لا تقوده إلى التعقيد والتعالي والتنظير الجاف المنفر، وصولا إلى الجمع بين البساطة والعمق، ما يفضي إلى التواصل مع الصفوة والنخبة، والوصول أيضا إلى العاديين والبسطاء وغير المتخصصين من القراء، أولئك الذين لا يجدون صعوبة في استيعاب رؤاه ومفاهيمه.
لعل كتاب طارق حجي: "سجون العقل العربي"، الذي نُشرت طبعته الأولى في دار "ميريت"، ٢٠٠٩، يمثل النموذج الأهم في تجسيد ما يدعو إليه ويبشر به من أفكار وقيم، ولا بد هنا من الإشارة إلى أن جانبا مهما من خصوصية الكتاب تتمثل في أنه أقرب إلى خلاصة وعصير رحلة جادة طويلة ممتدة، تبدأ في كتب سابقة، وتُعاد بلورتها وصياغتها مجددا، أو كما يقول في المقدمة:"كتبت ونشرت فصولا منه في كتب متفرقة:(نقد العقل العربي) و(الثقافة أولا وأخيرا) و(قيم التقدم) و(تأملات في العقل المصري).... وأخيرا جلست وأعدت كتابة وترتيب جل ما سبق مع فيض من الحذف والإضافة والتعديل؛ بما يسمح لي بوصف ما حدث بإعادة الكتابة. وهكذا يصح (أرجو ذلك) أن أقول إن هذا السفر هو النص الناسخ لكل كتاباتي السابقة عن الحالة الراهنة للثقافة العربية المعاصرة، وبالتالي العقل العربي المعاصر.
ومادة هذا الكتاب (القديم-الجديد) تقول إن العقل العربي المعاصر هو أسير ثلاثة سجون سميكة الجدران هي سجن الفهم البدائي للدين، وسجن الموروثات والمفاهيم الثقافية التي أثمرتها تجربتنا الثقافية-التاريخية، ثم سجن الفزع والجزع والرعب من الحداثة والمعاصرة، بحجة التخوف على خصائصنا الثقافية من الضياع والاختفاء والزوال أو امتزاج الدماء الشريفة لهذه الخصوصيات بالدماء غير الشريفة لثقافات وافدة!".
المراجعة الفكرية لا ترادف التراجع، بل هي دليل على صحة وحيوية النشاط العقلي الذي يبحث دوما عن الإضافة والاقتراب من النضج، وفي هذا السياق يمكن القول إن "سجون العقل العربي"، التي يعنيها حجي، تتمثل في:
- الرؤية البدائية الآسنة الراكدة للدين، من منظور متحجر يحيله إلى عنصر معطل وليس قوة دفع للحياة.
- هيمنة الموروث الثقافي الجامد صانع القطيعة المدمرة مع المنهج العلمي والثقافة العصرية.
- التعليم المتخلف العاجز عن مواكبة التقدم غير المحدود في المعارف والعلوم، تحت مظلة الحرص على وهم الخصوصية.
لا تخفى نبرة التهكم والسخرية اللاذعة عند الإشارة إلى الدماء الشريفة والأخرى الوافدة غير الشريفة، لكن الأمر في حقيقته أقرب إلى الكوميديا السوداء، ذلك أن الفكاهة الأسيانة الموجعة هي البديل عادة عندما تشتد الأزمات وتستفحل!
الباب الأول:"سجن الكهنوت"، أو سجون رجال الدين وتفسيراتهم ورؤاهم المضادة للعصر والعلم والإنسانية، بمثابة الامتداد للمعركة الطويلة الممتدة التي يخوضها رواد ودعاة النهضة الثقافية المصرية في عقود سابقة، من منطلقات ديمقراطية علمانية، ضد الكهنة والظلاميين من رجال الدين وداعميهم لأسباب لا شأن لها بالدين:"يهدف هذا الباب لأن يضع أمام القارىء المعني بأمر الإسلام السياسي حقيقة أن الجناح الأكثر تشددا بين المتأسلمين لا يكف عن محاولة الإطاحة بكل الأجنحة الأكثر وسطية واعتدالا داخل عالم المتأسلمين، ناهيك عن عدائه غير القابل للانحسار لغير المسلمين كافة".
"التشدد" و"الاعتدال" مفهومان نسبيان مراوغان بطبيعة الحال، والاعتدال لا يعني الاقتراب من المفاهيم العصرية المستنيرة، لكنه بالضرورة يرادف الابتعاد الملموس عن التطرف والمبالغة العدوانية وإلغاء العقل لصالح النقل والتقليد الميكانيكي الأعمى لكل ما هو موروث. الإيمان بالدين شأن شخصي ونشاط فردي في المقام الأول، والحرية الدينية حق مكفول في إطار المواطنة والدولة المدنية التي لا تعرف الإقصاء ولا تعترف بالتمييز على أسس دينية أو عرقية. فكرة العداء للدين ليست مطروحة عند حجي ومن يسيرون على نهجه من السابقين واللاحقين، لكن مثل هذا الاتهام قائم مكرر عند الخصوم الذي يرون في التكفير المجاني سلاحا ناجعا مفيدا لتحقيق الانتصارات الرخيصة بلا عناء، جراء العجز عن المواجهة الفكرية الجادة.
لا عداء للدين أو تربص بالمتدين الذي يمارس الشعائر ويؤدي الفروض بلا مضايقة أو اعتراض، لكن الدولة الدينية هي الجديرة بالرفض لأنها لا تنتج إلا الخراب والدمار والمزيد من القطيعة المعرفية والتخلف الحضاري، وفي نموذجي إيران وأفغانستان، ثم النماذج المشابهة في أعقاب ما يُسمى بالربيع العربي، سوريا والعراق وليبيا تحديدا، برهان عملي على صحة الفكرة التي ترى أن الإسلام السياسي، بأطيافه وأجنحته المتعددة، عائق خطير أمام كل طرح يستهدف بناء مستقبل أفضل، بل إنه يمثل تهديدا حقيقيا للدين نفسه.
المستبدون الطغاة غير المنتمين إلى تيار الإسلام السياسي، مثل صدام حسين في العراق وسوهارتو في أندونيسيا والقذافي في ليبيا، هم الذين يمهدون الأرض لطغيان واستبداد الإسلاميين، والمشترك الأساس بين الفرقاء المختلفين هو الإعلاء من شأن المنهج الإقصائي والإصرار على إلغاء العقل لحساب الشعارات الشعبوية الإنشائية الفضفاضة، دينية كانت أم قومية:"وما أن ينزاح الطغاة حتى تبرز القوى السياسية الوحيدة التي كانت قائمة (تحت الأرض) وفي ظل انعدام المجتمع المدني واختفاء الحراك الاجتماعي وشيوع عدم الكفاءة، فإن المسرح يكون معدا لفريق جديد من الطغاة سيكونون طغاة وغير أكفاء في آن واحد.. وسيأخذون مجتمعاتهم لدرجات أشد انحدارا من التأخر والتلف والبعد عن معادلة التقدم والحداثة والاستغراق في مشكلات اجتماعية لا حصر لها.
وباختصار، فإن طغاة ما فوق الأرض وطغاة تنظيمات تحت الأرض على السواء من ثمار المعادلة المرة: نظام سياسي أوتوقراطي (استبدادي) يشل الحراك الاجتماعي فيسود غير الأكفاء في كل المجالات، فتنخفض كل المستويات، فيشيع اليأس، وتنبثق وتستفحل ذهنية العنف، ولا يكون بوسع مؤسستي التعليم والإعلام إصلاح تلك التراجيديا، لأن هاتين المؤسستين قد فسدتا أيضا على يد غير الأكفاء".
داء الاستبداد وتداعياته المهلكة، كما يشير حجي، علة قديمة جديدة، وجزء أصيل من الموروث التاريخي الثقافي الذي يمتد عبر قرون طويلة من القهر الذي يحتمي بالدين ويسرف في التشدد والتطرف والتمهيد للعنف والإرهاب. قد يكون صحيحا أن الظاهرة لا تقتصر على الإسلام وحده، لكن أوروبا المسيحية تنجح في إزاحة وترويض الكنيسة، وهو نجاح لم يتحقق في العالم الإسلامي، ولا شك أن المسألة في التحليل النهائي وثيقة الصلة بعوامل اقتصادية واجتماعية يفرضها الصراع الطبقي، وعندئذ تتسع الفجوة بين عالمين متعارضين:"وإذا كان التطرف من طبائع البشر وليس من طبائع المسلمين (إذ أنه وجد تاريخيا في كل الأديان وفي ظل كل الحضارات والثقافات) فإن الحقيقة تبقى متجسدة في أن المجتمعات التي تعمل على خلق طبقة وسطى واسعة وذات شروط حياتية (سياسية واقتصادية وثقافية واجتماعية) طيبة تكون أكثر تحصنا أمام التطرف الذي يمكن أن تقل معدلات تواجده ولكنها لا تختفي ما دامت البشرية موجودة على ظهر الأرض".
المعركة الحقيقية لن تنتهي قريبا، ولا شك أن السجال المطلوب مع دعاة الإسلام السياسي لا بد أن يكون فكريا:"فمشكلتنا مع المتأسلمين لا تُحل إلا بالحوار. بمعنى أن الدخول في حوار ممتد مع المتأسلمين هو الطريقة الوحيدة لتحويلهم على المدى الطويل لحزب سياسي مدني يقبل ركائز الديمقراطية وهي قبول الآخر وانتقال السلطة منهم وإليهم والاحترام العصري الكامل للديانات الأخرى. وللمرأة والتخلي عما يظنونه من الإسلام وهو في الحقيقة من آثار البداوة والعصور الوسطى وجيوبوليتيكا ذهنية البدو الرحل في الصحراء. ومن حق المجتمع المدني أن يحمي نفسه من أي فريق قبل اكتمال نضجه حسب معايير العصر".
ما يدعو إليه حجي، على الصعيد النظري المثالي، صحيح لا تشوبه شائبة، لكن الأزمة المزمنة يمكن أن تُترجم في صيغة سؤال: هل يرضى هؤلاء المتأسلمون بمبدأ الحوار والانخراط في منظومة المجتمع المدني وتداول السلطة وفق المعايير الديمقراطية، أم أنهم يجدون في العنف والإرهاب أسلوبا بديلا في حسم الصراع؟
جانب خطير من المشكلة المعقدة يكمن في توهمهم بامتلاك اليقين والحقيقة المطلقة، فكيف لهم أن "يتنازلوا" بقبول الحوار مع "الآخر" الذي يجدون في إقصائه واستئصاله واجبا دينيا وجهادا يستحق المثوبة؟.
أهم ما في الباب الثاني:"سجن المفاهيم الثقافية العربية السلبية الشائعة"، ينبثق من السؤال المفصلي الحاكم:"هل هناك موقف عربي محدد من العلاقة مع العالم الخارجي؟.. هل هناك موقف عربي موحد من الديمقراطية والتقدم والحداثة؟.. هل يوجد موقف عربي موحد من حقوق الإنسان وحقوق المرأة؟".
لا مجال للحديث عن موقف عربي محدد موحد تجاه هذه القضايا، وإنما هي "خلطة" غير عقلانية قوامها المشاعر والانفعالات والشعارات الغامضة. أي منطق في الإصرار على استخدام مصطلح مثل "الغزو الثقافي" وضرورة مقاومة الغزو الوهمي؟، وهل يمكن للثقافة أن تكون أداة للغزو؟. إن منجزات وعطايا الثقافة الغربية هي في جوهرها موروث إنساني يتحقق عبر تراكم تاريخي طويل معقد، يتجاوز الانتماءات العرقية والدينية.
معركة العقل العربي للخروج من النفق المظلم تبدأ من بناء جسور تنفي فكرة التناحر والصدام:"وما يجب علينا أن نبذل قصارى الجهد لغرسه الآن وفي المستقبل في أذهان وعقول وضمائر الناشئة في مصر أن الإبداع لا جنسية له وأن الفكر كذلك بلا هوية وأن اشتراكنا مع الإنسانية في التعرف على ثمار الإبداع والعبقرية والعقول الإنسانية لا يمثل هجوما على خصوصياتنا".
أين يكمن الخلل؟!
إنه في غياب ثقافة التسامح واستيعاب الآخر المختلف، وفي التراجع المريع للعقل الناقد الناضج القادر على التقييم الموضوعي البعيد عن العاطفة والإسراف الانفعالي غير المحسوب:"وتكتمل درامية الصورة بأن ندرك أن "العقل" في مجتمعاتنا قد أصابته ضربتان أو هزيمتان كبريان: أما الهزيمة الأولى فهي التي تمثلت في اكتساح مدرسة النقل في القرون من العاشر إلى الثالث عشر (الميلادية) مدرسة العقل التي تمثلت في تلاميذ أرسطو وشراحه وعلى رأسهم العقل الفذ ابن رشد. إن هزيمة هذه المدرسة أغلقت قرونا من الانتعاش الفكري النسبي ومهدت لقرون من الركود والجمود والخمود. وأما الهزيمة الثانية فهي هزيمة مدرسة التنوير المصرية والتي شخصها أحمد لطفي السيد وسلامة موسى وطه حسين وعلي عبدالرازق والعقاد (قبل تراجعه الذي عاصر فصله من الوفد) وربما كان آخر هؤلاء لويس عوض وحسين فوزي وزكي نجيب محمود. كانت مصر في العشرينيات تبحث عن تألق ثقافي بوصفها واحدة من درر البحر الأبيض المتوسط وعلى أساس من ثمار عصر النهضة. ولكن ظروفا معروفة واكبت المد الفاشي في الثلاثينيات وكذلك هزيمة الليبرالية المصرية جعلت مدرسة التنوير الحديثة في مصر تنهزم لصالح قوى الفاشية أو الرجعية".
التكافؤ ليس قائما في معركة التنويريين دعاة النهضة ضد الظلاميين المتشبثين بثقافة العصور الوسطى، والأمر ليس مردودا إلى ضعف رواد التنوير وعجزهم عن المواجهة، لكن العوامل والتفاعلات الاقتصادية والاجتماعية، في الداخل والخارج، تلعب الدور الأخطر في تكريس الأزمة واستفحالها، ولا أمل في النجاة بمعزل عن تدعيم قواعد المواطنة وتمكين المرأة، وليس من سبيل إلى هذا التوجه بمعزل عن التعليم العصري، فهو الركيزة الأساس والأهم في معركة الوجود هذه.
قرب نهاية رحلة حجي مع "سجون العقل العربي"، يخصص الفصلين السادس والسابع من الباب الثالث لمناقشة قضية التعليم وأهميته في تشكيل المستقبل، وكل تقييم موضوعي للمؤسسات التعليمية لا بد أن يتصدى للإجابة عن الأسئلة الجوهرية قبل الشروع في العمل:
"- ما الأهداف أو الوظائف الاستراتيجية للعملية التعليمية؟
- ما وضع المؤسسة التعليمية المصرية الراهن من وجهة نظر الأهداف الاستراتيجية للعملية التعليمية؟
- إذا كانت المؤسسة التعليمية المصرية بوضعها الراهن لا تحقق الأهداف الاستراتيجية لعملية التعليم، فما هي آلية حل هذه المعضلة الكبيرة؟".
كيف تكون البداية؟. التعليم بوابة التقدم، لكن التحديات التي تنتظر التجديد والتحديث ليست قليلة أو هينة، والتراث الرجعي المهيمن يمتلك نفوذا وتأثيرا سلبيا لا يمكن إهماله أو إنكاره. التعليم العصري الحديث أداة تنظيم وترشيد العقل، وحال تدهوره تسود ثقافة "الكلام الكبير" بلا محصول، أو بتعبير نزار قباني في قصيدته الشهيرة:
"إذا خسرنا الحرب.. لا غرابة لأننا ندخلها بكل ما يملكه الشرق من مواهب الخطابة
بالعنتريات التي ما قتلت ذبابة لأننا ندخلها بمنطق الطبلة والربابة"
"الطبلة" و"الربابة" أداتان لصناعة أجواء احتفالية صاخبة عشوائية، ولا نجاة للعقل العربي إلا بالتعليم الذي يعيد تشكيل العقول، والانتقال بها إلى حالة جديدة قوامها التأمل والتحليل بلا هتافات عاطفية.