طوال مشواره الفكري، ركز المفكر الكبير طارق حجي على أزمات الواقع الفكري والثقافي في مصر، وفي المنطقة العربية، لما بينهما من تأثير كبير، سلبًا أو إيجابًا، وعلى رأس هذه الأزمات تغلغل الأصولية الإسلامية المتطرفة في المجتمعات العربية على يد تيارات سلفية، ومعها جماعة الإخوان الإرهابية، فنتجت عن ذلك عرقلة لمسيرة التقدم والنهضة في هذه البلاد، وضرب الحركات الوطنية الصاعدة، وتكبيل العقل العربي وسجنه داخل أسوار الماضي، والحيلولة بينه وبين مسيرة التمدن الإنساني، وإذاعة الوهم بين أنصار هذه التيارات أنها هي التي تمتلك الحلول وآليات التقدم والنهضة المستلهمة من التراث.
مواجهة هذا الوهم وتفنيده كانت مهمة جليلة قدمها طارق حجي للعقل العربي خلال كتاباته ومقالاته في الشأن العام، وهو بدوره رفض مقولة الجماعات بأنها مالكة لآليات النهضة، وفي رفضه وسع "حجي" الدائرة، قائلا "إن الزعم بوجود آليات يهودية أو مسيحية أو إسلامية أو بوذية، أو غير ذلك، للتقدم هو محض هراء لم يقل به إلا أصحاب العقول الصغيرة والمحاصيل المعرفية المحدودة والمنمطة والمؤدلجة والموجهة والمؤسسة على الطاعة والتقليد والاتباع"، وهكذا فإن أصحاب المحصول المعرفي المحدود يشيعون أنهم يمتلكون القدرة على إدارة الدول وتحقيق التقدم، بينما هي تحافظ على مجموعة من الأفكار الساذجة والبدائية المتعلقة بإدارة الدول، هذه الأفكار لا يمكن التعامل معها إلا من خلال إعادتها لزمن نشأتها لمعرفة التطور الإنساني الذي لحق بفنون الإدارة وعلوم السياسة متجاوزا مثل هذه الأفكار الساذجة، التي لا تزال تحلم بالعودة إلى سقيفة بني ساعدة حيث المرحلة الأولى لتكوين دولة بالمعنى السياسي لدى المسلمين، واللحظة التي منها التبس الديني فيها بالسياسي.
آليات التقدم التي سحبها طارق حجي من يد الجماعات الدينية، أو بمعنى أدق كشف زيفها، لأنه في المقابل طرح الآليات الحقيقية للتقدم التي يتمسك بها أي مجتمع، وليس بحاجة إلى جماعات دينية كي تضمن له هذا التقدم، بعد إيهامه أنها تمتلك الحلول السحرية، أولي هذه الآليات هو "التوظيف الواسع لثمار العلوم الحديثة ومن بينها علوم الإدارة الحديثة، وتقنيات إدارة الموارد البشرية"، وثاني هذه الآليات كما يوضحها "حجي" هي "إيجاد مؤسسات تعليمية تبث قيم التقدم، وأهمها قيمة الوقت والعقل النقدي والتعددية والغيرية، قبول الآخر قبولا غير مشروط، والنسبية وقيمة النقد والتعليم الحر وحقوق المرأة والديمقراطية والإتقان والعمل الجماعي، وغيرها من قيم التقدم". وفي ظل بحث الجماهير عن الحزب أو الشخصيات السياسية لقادرة على ترسيخ هاتين الطريقتين لتحقيق التقدم، تصطدم بقوة جماعة الإخوان الإرهابية التي تتجاهل مسيرة التقدم الإنساني، وتزعم امتلاكها لمجموعة من الآليات الأخرى المستمدة من التراث، وذلك في نظر "حجي" عبارة عن "محض عبث صرف، فكل التجربة الإنسانية منذ بداية الثورة الصناعية تؤكد عدم وجود آليات نابعة من أي أيديولوجيات، وأن الآليات الوحيدة التي نجحت فى ظل ثقافات مختلفة هى ذات الآليات التى أفرزتها وطورتها مسيرة التقدم والتمدن الإنسانيين عبر قرون ما بعد الثورة الصناعية".
"الإخوان" شجرة الإرهاب العالمي
في رسمه لخريطة ذهنية تقريبية لوضع الجماعات الدينية في موضعها من حيث الدور التي تقوم به، عدَّ طارق حجي الكتابات الفقهية للحنابلة وخاصة كتابات ابن تيمية وابن قيم الجوزية والشيخ محمد بن عبدالوهاب بمثابة الجذور لشجرة الإرهاب، فمنها يمتد كل تنظيم متطرف، يستقي معلوماته، ويبرر سلوكه العدائي من فتاوى هذه المدرسة السلفية، أما ساق الشجرة فيراه "حجي" متمثلا في جماعة الإخوان، لأن كتابات حسن البنا مؤسس الجماعة وكتابات سيد قطب التي طرحت تفسيرا حركيًا لهذه السلفية، وصبغت تفكير كل التنظيمات الآتية بعدها، لأن هذه التنظيمات تعود بشكل أساسي لأفكار سيد قطب وتتمثلها جيدا.
فروع الشجرة، بحسب "حجي" هي "التنظيمات العديدة مثل الجماعة الإسلامية والجهاد وحماس والقاعدة وبوكو حرام غرب أفريقيا، والشباب في الصومال، وداعش والنصرة وبيت المقدس. إلخ. وكل هذه الكيانات، كيانات الجذور وكيانات الساق وكيانات الفروع، تشترك فى الأدبيات التى تشكّل أسسها الفكرية، وتشترك فى الأهداف الاستراتيجية، ولكنها توزع المهام فيما بينها".
طارق حجي لفت إلى أن الجماعات الدينية مشتركة في الأدبيات والأهداف، لكن توزيع المهام أخطر شيء يتحدث عنه الدكتور حجي، لأنه أثبت بذلك أن فهمه لخريطة جماعات الإسلام السياسي فهم دقيق، خاصة أن التنظيم الدولي لجماعة الإخوان بالفعل يقوم بدور التخطيط والسياسية والتعامل مع العالم، والجماعات تعمل في منظومة تصب في صالح مجموعها، كل التنظيمات المتمسكة بالسلاح والقوة تجند الشباب وتقوده إلى معارك مختلفة في كل بلد يتشكلون فيه، بينما تلعب جماعة الإخوان دور المفاوض الذي يضمن للعالم إسلاما وسطيا بعيد عن القتل والدمار الذي تمارسه داعش والنصرة والقاعدة مثلا، و"نظرًا لأن هذه التقسيمات والتفريعات والانطلاق من نفس الأفكار وتوزيع المهام هى حقائق وظواهر نمت فى بيئات خارج المجتمعات الغربية، فإن كثيرا من الغربيين يبقون عاجزين عن رؤية الصورة على حقيقتها، أي كون كل هذه الفسيفساء تشكّل كيانًا واحدًا هو مشروع الإسلام السياسي الذى يهدف استراتيجيا لإقامة كيان عالمي يتجاوز فكرة الأوطان المعاصرة، وهذا الكيان العالمي هو "الدولة الإسلامية" التى تقوم على أسس تتصادم كلها مع كل مفاهيم الحداثة وتتعارض تعارضا كليا مع الأنساق القيمية الحديثة، الحريات وفى مقدمتها حرية الاعتقاد وحرية التعبير، والتعددية، والغيرية أي قبول الآخر، والتعايش المشترك، والتسامح الديني والثقافي، والعقل النقدي، وحقوق المرأة، وحكم القانون، ومدنية الدولة والدساتير والقوانين والتعليم الحر".
عداء مفاهيم الحداثة والمدنية
يقوم مشروع جماعة الإخوان على رفض الآخر ومعاداة مفاهيم الحداثة والتمدن، وإن تظاهرت بعكس ذلك، وهنا يصطف طارق حجي مع عدد من المفكرين الذين نبهوا على ضرورة إدراك تحورات جماعة الإخوان، فهي عندما تنكشف ويفتضح أمرها تبحث بسرعة لارتداء قناع مختلف يسهل عليها العودة للحياة والضحك على الناس، فمن المنطقي جدا أن تسمع من هذه الجماعة الإرهابية كلاما مرنا ومرحبا بمفاهيم متعلقة بالحريات والتسامح والتعددية، لكنها في نفس الوقت تمارس نوعًا من التخفي والتمويه تحت بند "التقية" وهي جواز إخبار الخصوم بما يحبوا أن يسمعوا، وذلك في أوقات ضعف الجماعة، وعدم قدرتها على مجابهة الخصوم وإسكاتها، هنا تمارس "التقية" للكذب على الناس، وهي كما شرحها طارق حجي "مفهوم شيعي تسرب للممارسات السياسية لجماعات الإسلام السياسي المعاصرة سواء كانت شيعية أو سنية.
ومفهوم "التقية" يعني أنه طالما كان الإسلاميون هم على أرض الواقع الطرف الأقل قوة، فإنه يحق لهم أن يصرحوا بخلاف أو بنقيض ما يبطنون"، لذلك من الطبيعي أن نجد ما يمكن تسميته بـ"الإخوان الجدد" الذين يتحدثون في البرلمانات الأوروبية للهجوم على الأنظمة السياسية، متباكين على غياب الديمقراطية والتعددية والحريات العامة، وكأنها جماعة ليبرالية أو حقوقية لا تمت للعنف والإرهاب بصلة.
أمام هذا العداء الشرس لمفاهيم الحياة السياسية السليمة وللمدنية الحديثة، أعطى طارق حجي نوعًا من الأمل لتراجع الجمود والرجعية أمام انتصار المدنية، قائلا: "أنا شبه متأكد من أن المستقبل سيشهد مزيدًا من انتصار الحداثة فى المجتمعات الناطقة بالعربية، وإن كنت فى نفس الوقت أري أن هذه المجتمعات قد أفرزت خلال نصف القرن الأخير عدوًا للحداثة لا يُستهان به وهو الإسلام السياسي الذى يعمل بكل جزئياته على الرجوع بمجتمعاته ثقافيا لما قبل العصور الوسطى"، وهكذا فإن الصراع الدائر بين الحداثة وعدوها المتمثل في الجماعات الدينية فإن الانتصار سيكتب للحداثة طالما أفسحنا المجال أمام التعليم والثقافة، وأعطيناهما دعما كبيرا لمجابهة مثل هذه الأفكار التي تطلقها الجماعات.
شربوا من كأس الجماعة الإرهابية
بصورة تفصيلية، ضرب طارق حجي عدة أمثله لبيان اشتراك التنظيمات الإرهابية في الأدبيات التي تنطلق منها جماعة الإخوان، فالأخيرة مؤسسة عالمية تشكل قوام الحركة الإسلامية، وكل من شرب من كأسها كان له دور في التطرف والإرهاب، وإن حاولت الجماعة نفسها للتخلص والتنصل من نتائج توجهاتها، من الأمثلة، نلاحظ "خالد شيخ محمد" العقل المدبر وراء هجمات ١١ سبتمبر، كان عضو بجماعة الإخوان المسلمين، كما كان "محمد عطا" واحدا من خاطفي طائرات ١١ سبتمبر"، كل هؤلاء الأعضاء استشهدوا بالإخواني سيد قطب بوصفه مصدرا وملهمًا لأعمالهم الإرهابية.
حينئذ يتبلور سعي جماعة الإخوان في إبعاد التهم عنها، وأن تكون بمنأى عن الأعمال الإرهابية، تطلق مجموعات نوعية وتنظيمات أخرى تمارس العنف وتتورط في الجرائم الإرهابية، ويظل اسمها كجماعة الإخوان بعيدا عن هذا العنف، ومن قبل هذه الاستراتيجية فإنها هي صاحبة الإطار الفكري الذي شكل جوهر معتقدات تنظيمات خطرة للغاية مثل تنظيم القاعدة، وداعش، وبوكوحرام، والشباب، وأنصار بين المقدس، وكلها جماعات تعمل في إطارها المحلي للبدء في تحقيق الكيان العالمي المتمثل في دولة الخلافة المزعومة.
قرأ طارق حجي خطاب جماعة الإخوان، ولاحظ مثلا أن أحدهم وكان مرشحا لمنصب الرئاسة وهو عبدالمنعم أبو الفتوح عندما طُلب منه أن يقول رأيه في أسامة بن لادن، فهاجم أمريكا وقال إن الأمريكان هم الذين يرتكبون الإرهاب، بينما تجاهل إدانة أن يقوم شخص بقتل المدنيين مثلا، وعلى شاكلة أبو الفتوح هناك وجدي غنيم، ويوسف القرضاوي، ومحمد بديع، كلهم يطلقون على بن لادن لقب "الشهيد"، ويعدون أن التحالف المكون لضرب داعش في العراق وسوريا تحالف صليبي، أي أنهم يرفعون من شأن التنظيم الإرهابي الأشرس في العالم، ويزعمون أن حربا صليبية تشن ضده.
وهكذا فإن هؤلاء الرموز الذين يمثلون جماعة الإخوان، التي تحاول التنصل من الأعمال الإرهابية وهي مشتركة فيه بشكل جوهري وحقيقي، هذه الرموز تؤيد قتل المرتدين عن الإسلام، وتصف أي جهادي يقتل المدنيين في أوروبا بالشهيد، أي أنها في حقيقتها لا تعترف بأي حقوق للإنسان، بينما تجيد تصدير شخصيات أخرى للحديث عن التعددية وحقوق الإنسان وانفتاح الجماعة على الآخر المختلف.
تأثير الفكر الهدام وتجديد الخطاب الديني
رغم ضرورة التعامل الأمني مع المشكلة الإرهابية، ونجاحها في حصار جماعة الإخوان داخليا، وحصار التنظيمات الإرهابية التابعة لها في سيناء، فإن طارق حجي يشدد على ضرورة مواجهة الفكر الهدام للجماعة الإرهابية مندهشًا من عرقلة ملف تجديد الخطاب الديني، ويرى "حجي" أن "الفكر الهدّام لا يُحارب بالبندقية إلا عندما يمسك هو بالبندقية، وحتى فى هذه الحالة، فإن الفكر الهدام المناقض لقيم الإنسانية الحديثة سيستمر فى الوجود وفى التأثير، لماذا ؟ لأن التعامل معه لم يكن بالوسيلتين الوحيدتين القادرتين على الحد من انتشاره، والحد من تأثيره وهما: التعليم والثقافة".
مواجهة الفكر الهادم لجماعة الإخوان بمثابة مواجهة كبرى ضد كل التنظيمات، ولأنه من المعلوم أن "مطبخ الإخوان هو مصدر كل تيارات الإسلام السياسي الأخرى، وأن أدبيات الإخوان المسلمين، هي مرجعيات كل تيارات الإسلام السياسي المصري ؛ بل إنها مرجعيات معظم تيارات الإسلام السياسي في العالم".
ومن هنا تأتي عظمة وفائدة ثورة الثلاثين من يونيو ٢٠١٣ لأنها من ناحية وضعت حدا فاصلا أمام البدء في دعم وتعزيز دور الجماعات الإرهابية انطلاقا من مصر، ومن ناحية ثانية أعادت الموقف المصري لدوره الطبيعي في مواجهة الإرهاب ووقف تمويله بدلا من مده وتعزيزه مع حكم جماعة الإخوان، ومن ناحية ثالثة فإن المواجهة الفكرية للأسس والمرجعيات التي تستند إليها جماعة الإخوان هي مواجهة شاقة وتمثل تحديًا صعبًا لأنه وقوف صريح في وجه كل تنظيمات الإرهاب في العالم الخارجة من مطبخ جماعة الإخوان.
المطالبة بتجديد الخطاب الديني، دعوة أشاد بها طارق حجي وتحدث عن فوائدها في تحجيم ظاهرة الأصولية الدينية، وفي الوقت نفسه أبدى استياءه لعرقلة البعض لهذه الدعوة، أو الوقوف ضدها، أو العمل على إجهاضها أو تأجيلها، لأن وقف تجديد الخطاب الديني يصب فى "صالحِ الأصوليين وأهمهم فى الحالةِ المصريةِ الإخوان والتيارات السلفية، لأنه واقع يجعل رفضَ كثيرٍ من المصريين لهؤلاء سياسيا وليس فكريا وقيميا، وهو أمر شديد الخطورة من المنظورين: السوسيولوجي/ الاجتماعي والتاريخي، لأنه يعني أن رفض العقل الجمعي للإسلامِ السياسي ليس رفضا صلبا". وهكذا فإنه من الخطورة رفض جماعة الإخوان سياسيا بينما قبول أفكارها من ناحية أخرى، وبهذا تظل الهيمنة الإخوانية على العقل المصري قائمة واحتمال عودة هيمنتها سياسيا قائما أيضا، لذا من الواجب مواجهة أفكارها بتنفيذ الدعوة إلى تجديد الخطاب الديني.