أريدك أن تفكر في نفسك..
أن تفكر في عملية التفكير نفسها..
كيف أنقل إليك معنى من المعاني؟
وكيف تقبلُه أو ترفضه؟
كيف يعجبك اللون والصوت؟
وكيف تستطعم الطعام وتتذوق الموسيقى؟
وكيف ترفض ذلك كله؟
وكيف تخترع قصة لم تحدُث؟
كيف ترسم لوحة من خيالك؟..
وكيف تؤلف موسيقى من وجدانك؟
وكيف تؤثر على إنسان فيحبك؟ وكيف تؤثر عليه فيكرهك؟
ما الذي يحدث في داخلك... وما الذي تفعله للتأثير في أفكار الآخرين؟ وما هذا الذي يجري في داخلك؟..
كان هذا جزءًا صغيرًا من مقدمة كتاب «القوى الخفية» للرائع أنيس منصور، لكن في رأيي أن أهم جزء هو كيف تخترع قصة لم تحدث؟
السؤال هنا: هل لدى الإنسان القدرة على اختراع الأكاذيب وكتابة القصص عن أحداث لا توجد في الحقيقة؟ ولماذا تتشكل في أذهاننا مُعتقدات لأحداث لم تحدث وأحيانًا لن تحدث؟
لديَّ اعتقاد راسخ في أن الإنسان لديه إمكانيات متعددة لم يستغلها حتى الآن رغم ما حدث من تطور عظيم في المشوار البشري على هذه الأرض.
يعتقد الإنسان التائه بـ«القوى الخفية»، التي تتحكم في هذا العالم، ولا يعرف أنه أقوى.. فقد اختفت الكثير من الكائنات لكنه «باقٍ».
لكن هذا الكائن البشري الشقي يرفض البحث عن ذاته، ويواصل البحث عن المتاعب وخلْق مخاطر وهمية ومواقف سلبية لم تحدث، ولن تحدث أبدًا.
العِلم لم يترك البشري الساذج تائهًا بين أدغال أوهامه، لكن قدَّم تفسيرًا واضحًا لما يُسمى بـ«تأثير التعرُّض»، فعندما يتعرض الشخص لمواقف كثيرة متشابهة بعضها مؤثرة وأخرى هامشية، تَنسِج في مخيلته قصصًا وسيناريوهات لأشخاص ومواقف، ويبدأ في سردها في جلسات السَّمَر على أنها واقع، ويدافع عنها، ويؤكد حدوثها وهو يعلم أنه كاذب!
تأثير التعرُّض تظهَر على كل البشر بشكل متفاوت جدًّا.. ففي المجتمعات العربية تسمع أساطير ومعتقدات دينية عن تأثير القوى الخفية للحسد والسحر، وهي لا يمكن أن يكون لها تأثير مادي مباشر، بل ذكرهم هدف وقف الضغائن والأحقاد في النفوس التي قد تؤدي لوقوع الجرائم.
وفي أوروبا مثلًا تجدهم يتحدثون عن مصاصي الدماء، وفي الولايات المتحدة عن الكائنات الفضائيات، ولا يوجد أي دليل مادي واحد عن وجود تلك القوى الشريرة، لكنها رغبة دفينة من البشر للبحث عن أعداء.
وهناك أساطير رسخها المؤرخون عن التتار والمغول، ونسجوا لها حكايات أسطورية، دفع البعض باعتبارهم «يأجوج ومأجوج» تحدثوا عن شرهما ولكن لم يتحدثوا عن شرور الخليفة العباسي الذي ألقى بالدولة الإسلامية إلى الفشل، لم يتحدثوا عن واقع يقارن بين محاربين أقوياء في مواجهة نظام حكم فاشل وظالم، لكن في النهاية ستسمع عن جرائم التتار ولن تسمع أبدًا عن جرائم الحكام المسلمين، الذي أخرجوا المارد التتاري من القُمقم بالاعتداء على قوافلهم التجارية.
الأوهام ستجدها أيضًا في الواقع الافتراضي ومواقع التواصل الاجتماعي، فقد تُعظِّم من شأن شخص لمجرد إعجابك ببعض منشوراته ومتابعتك له، وهو في الحقيقة شخص أقل من العادي ثقافيًّا وفكريًّا وإنسانيًّا أيضًا، لكنها ثقافة التعرض.
«تأثير التعرض» له أبعاد نفسية كثيرة، كلها تتعامل سلبيًّا مع مَواطِن الضعف النفسية عند الإنسان.