رشيد.. مدينة مصرية اشتهر منها حجر كان سببًا فى فك رموز الكتابات المصرية القديمة على يد عالم الآثار الفرنسى شامبيلون، لكن شهرة الحجر المحفوظ فى المتحف البريطانى طغت على شهرة المدينة.
هنا نحن نأخذك لزيارة مدينة رشيد وإعادة اكتشافها مرة أخرى، فى شوراع مدينة رشيد ستأخذك الدهشة من تنوع ملامح الوجوه، هذا التنوع جاء نتيجة لأنها ميناء فى العصور الوسطى استقرت به جاليات من المغرب وسوريا وإيطاليا وفرنسا وغيرها من بلاد العالم.
فقد كانت محطة أساسية لتصدير البن القادم من اليمن إلى العالم، ثم تصدير الأرز وغيره من السلع، فى شوارع المدينة سترى أثر ناس يحملون فى ذاكرتهم قصصا وحكايات من الماضى البعيد والقريب بعضها له ظل من الحقيقة التاريخية والبعض الآخرمن نسج الخيال الشعبى، لكن الأقرب هو حكايات حول المشاركة الشعبية فى هزيمة الإنجليز عام ١٨٠٧ م.
والبعض الآخر ينسج حكايات حول زواج زبيدة البواب من قائد الجيش الفرنسى مينو الذى ترأس الحملة الفرنسية على مصر فى مرحلة لاحقة، وبعيدًا عن الحكى الشعبى فما زالت شوارع رشيد تكتظ بالمبانى التراثية لكن المنازل هى ما يسحرك لتنوع الحيل المعمارية بها.
تميزت منازل رشيد بطراز معمارى خاص بها سواء من حيث الزخارف أم التخطيط المعمارى وطريقة البناء وقد زخرت وثائق المدينة بأوصاف عدد ضخم من المنازل عند إجراء تصرفات قانونية شرعية عليها من بيع وشراء واستبدال وإيجار ووقف أو حصر تركة وحتى محاضر السرقة وغير ذلك من التصرفات كما تفيض هذه الوثائق بذكر المصطلحات الخاصة بمكونات هذه المنازل والتى ما زالت باقية فى هذه المدينة وإلى الآن.
أثرت الأهمية التجارية لمدينة رشيد على التصميم المعمارى لمنازلها فكان الطابق الأرضى فى معظم الأحيان يستخدم لأغراض تجارية فى الغالب، كما استخدم لأغراض صناعية، ومن ثم فقد كان يؤدى دور الوكالة أو الشادر، ويتكون من صحن صغير تفتح حولها حواصل معقودة، أو من قاعة كبيرة مسقوفة بأقبية متقاطعة.
ويوجد فى بعض الأحيان سلم بالصحن يؤدى إلى طابق علوى مثلما هو موجود فى منزلى علوان والتوقاتلى، ويكون للوكالة أو الشادر مدخل خاص من الخارج بخلاف مدخل المنزل، مع ارتباط كل من الوكالة والمنزل بعناصر اتصال وحركة تختلف من معمار منزل لآخر، وأسفل المنزل يوجد عادة صهريج للمياه تحت الأرض ويعلوه سبيل مياه فى بعض الأحيان كما هو فى منازل رمضان، محارم، عرب كرلى، حسيبة غزال، مكى، البقراولى.
ومن ثم فواجهة المنزل تحتوى على تلك الوحدات التجارية وعلى باب مستقل يؤدى إلى سلم يصعد منه إلى الدور الأول، وهو ما يطلق عليه دائمًا فى الوثائق «عقد سلم أول».
إذ يوجد فى كثير من الأحيان عقد سلم ثان يؤدى إلى الدور الثانى وعقد سلم ثالث يؤدى إلى الدور الثالث وهكذا ويتكون الدور الأول من «دهليز» وهو عبارة عن مساحة مبلطة تطل عليها الحجرات، و«تخانة» ويقصد بها القاطوع بين المبانى و«فسحة» أو «ميدان» أو «وسط دار» وتستخدم هذه المصطلحات بمعنى واحد يكون به مقاعد للجلوس ويستخدم هذا الدور للرجال واستقبالاتهم.
وبهذا الطابق الأول سلم ثان يؤدى إلى الطابق الأعلى الذى يتكون أيضًا من وسط الدار وتخانات وأروقة أو حجرات أو قاعات ويكون فى الطابق الأخير من المنزل الحمام وفى الطابق الأوسط المطبخ فى حالة تكوين المنزل من ثلاثة طوابق، ويحتوى الطابق الأخير فى بعض المنازل على سلم يؤدى إلى حجرة يطلق عليها الكشك أو القصر العالى أو الطيارة وهى تستخدم فى فصل الصيف للإقامة.
وبعض هذه المنازل به عناصر معمارية وفنية فريدة من نوعها. وكل منزل من هذه المنازل يستحق أن يكون بمفرده موضع دراسة مستقلة، ففى منزل رمضان يصل سلم سرى من داخل الطابق الأول الطابق الثانى، ومن داخل هذا السلم يتم الوصول إلى طابق مسحور أسفل الطابق الأول، وذلك بطريقة خفية تعمدها معمار هذا المنزل.
بل أوجد المعمار سلمًا إضافيًا يؤدى إلى الطابق الأول مباشرة بخلاف سلم المنزل الرئيسى، ناهيك عن العناصر المعمارية والفنية الزخرفية فى هذا المنزل وتمثل واجهته أروع واجهات المنازل بالمدينة من حيث التناغم المعمارى والفنى فى توزيع وحدات المنازل على الواجهة من الطابق الأرضى حيث الأبواب بعقوبها وزخارفها إلى الطابق الأخير بروشنه ومشربياته.
وفى منزل البقروالى استخدم المعمار حيلة رائعة للفصل بين طابق الاستقبال وباقى طوابق المنزل الخاص بأهله وذلك باستخدام دولاب دائرى من رفين يفتح فى جانب منه على وسط الدار بالطابق. وفى الجانب الآخر على سلم الطابق الثانى لينتقل من خلاله الطعام إلى الضيوف دون الحاجة إلى انتقال النساء إلى هذا الطابق لنقل الطعام. وهو هنا يؤكد عامل الخصوصية وهو من العوامل التى حرص عليها المعمار برشيد.
وفى منزل علوان وكذا فى منزل محارم استخدم المعمار بلاطات القاشانى فى تزيين جدران الطابق الأول وهذه البلاطات مزجت بين الزخارف المصرية المحلية والأندلسية المغربية وكذا العثمانية فى مزاوجة رائعة. وفى منزلى جلال واميزونى نرى دور الفقه الإسلامى فى صياغة عمارة منازل رشيد فقد اشترك المنزلان فى حائط واحد، والحوائط المشتركة من الأمور التى شاعت فى المدن الإسلامية وقرر لها الفقهاء قواعد صارت أساسًا يتعامل بها.
أوجد المعمار فى أعلى المنزلين مدخنتين لتصرف دخان مطبخى المنزلين، وهو هنا يحافظ على البيئة من التلوث ويرعى جاره، ورعاية حقوق الجوار من الأمور التى شكلت بوضوح منازل رشيد سواء واجهتها أو توزيع وحداتها من الداخل. هذا السقف سقف زخرفى، إذ أن السقف الذى يعلوه هو السقف الحامل، والذى يمثل أرضية الطابق الأول علوى.
ويختلف منزل الأمصيلى عن المنازل الباقية بمدينة رشيد حيث أن صاحبه كان يعمل فى حامية المدينة وبالتالى ليست هناك حاجة لاستغلال الطابق الأرضى بصورة تجارية فحوله إلى قاعة استقبال تطل على وسط الطابق وهذه القاعة ذات سقف من مستويين المستوى الأول زخرفى ويتكون من ألواح خشبية شكل عليها بسدائب من الخشب أشكال أطباق نجمية، وفى كندات الأطباق زخارف نباتية، وفى وسط السقف صره بارزة شكلت زخارفها على أشكال نباتية مفرغة بالحفر.
فى رشيد عدد من المساجد الأثرية أبرزها:
مسجد زغلول (قبل سنة ٩٨٣هـ/ ١٥٧٥م): أكبر مساجد رشيد وهو المسجد الجامع للمدينة وعلى مدخل المسجد مرسوم مملوكى بإجراء تجديدات به ولأهميته جرت به عمارة كبيرة وتوسعة سنة ١٠١٦هـ/ ١٦٠٨م على يد أحمد بن الخواجا محمد الشهير بالرويعى كما أنشأ حوله مجموعة كبيرة من المبانى.
وكذلك ساقية لإمداد مرافق الجامع بالمياه. وللمسجد مئذنتان واحدة شرقية أعيد ترميمها حديثًا والأخرى غربية. والغربية قصفها الإنجليز فى عام ١٨٠٧ لأنه خرج من فوقها نداء الله أكبر حى على الجهاد لمقاومة الإنجليز أثناء احتلالهم المدينة، وأدت هذه المقاومة إلى انسحابهم وحصارهم للمدينة وقصفهم مئذنة هذا المسجد وما زالت هذه المئذنة شاهدًا تاريخيًّا حيًّا على انتصار أهل المدينة على الإنجليز، ولهذا يحظى هذا المسجد بأهمية خاصة لدى أهل رشيد وهو فى حالة سيئة حاليًّا إذ بدأ به مشروع الترميم فى عام ١٩٨٦ ثم توقف حاليًّا. (لوحات ١٩٥- ١٩٦).
مسجد النور
يعرف هذا المسجد لدى أهالى رشيد بمسجد المشيد بالنور وهو من أقدم مساجد المدينة. وأما تخطيطه من الداخل فيتكون من أربع بائكات ذات عقود مدببة تقسم المسجد إلى خمسة أروقة وسقف المسجد من قباب ضحلة. ويؤرخ هذا المسجد قبل سنة ٩٨٥هـ/ ١٥٧٧م. وقد أجريت به تجديدات سنة ١١٧١هـ/ ١٧٦٤م. وللمسجد مئذنة ذات دورة واحدة.
مسجد الجندي
هذا المسجد غير منتظم فى مساحته إذ إنه بنى على قطعة أرض غير منتظمة، وله ثلاثة مداخل: الرئيسى يفتح على قصبة المدينة، وهو من الداخل به ٣٩ عمودًا مختلفة الأشكال والأحجام وهذه الأعمدة مصطفة فى ٣ بائكات تحمل عقودًا مدببة وهى تقسم المسجد إلى أربعة أروقة ويتوسط المسجد صحن صغير ثبتت به مزولة لتحديد أوقات الصلاة.
والمسجد يرجع إلى ما قبل سنة ٩٩٤هـ/١٥٨٦م وقد أجريت به ترميمات عديدة أبرزها فى عام ١١٣٠هـ/ ١٧٢١م. وللمسجد مئذنة كانت قد تهدمت وأعيد ترميمها حديثًا.
مسجد العرب
يقع هذا المسجد على رأس الشارع الرئيسى برشيد وهو شارع دهليز الملك، الذى تطلق عليه وثائق رشيد (الشارع الأعظم) ويعرف حاليًا هذا المسجد باسم العرابى، ومؤرخ بسنة ١٢١٩هـ/١٨٠٤م. حسب اللوحة الخشبية التى تعلو المدخل الشمالى للمسجد، وتحمل اسم الحاج خليل بن الحاج إبراهيم.
غير أن وثائق المدينة التى ترجع إلى العصر العثمانى تثبت أن المسجد أقدم من هذا التاريخ بكثير وأن تاريخ ١٢١٩هـ لا يعدو كونه تاريخ تجديدات قام بها الحاج خليل المذكور وسجله على اللوحة التى اعتمد عليها فى تاريخ المسجد، وقد دلت وثائق القرن ١١هـ/١٧م على إجراء ترميم للمسجد بدأ سنة ١٠٧٥هـ/ ١٦٦٤- ١٦٦٥م. وانتهى سنة ١٠٧٧هـ/١٦٦٦ – ١٦٦٧م.
مسجد المحلي
يقع هذا المسجد فى وسط المدينة، وهو يطل على القصبة العظمى بالمدينة ومساحته غير منتظمة ويتوسطه صحنان صغيران وضريح للشيخ المحلى الذى ينسب إليه المسجد، وقد أرخه بعض الباحثين بأنه يرجع لسنة ٨٦٠هـ/ ١٤٥٦م وأجريت به إصلاحات وترميمات واسعة فى القرن ١١هـ/١٧م.
مسجد دومقسيس
هو المسجد المعلق برشيد، ويتكون من دور أرضى يضم مخازن ودكاكين غطيت بأقبية متقاطعة، وتتقدمها سقيفة محمولة على أكتاف فى الجهة الغربية وعلى أعمدة فى الجهة الشمالية. ويقع باب المسجد فى الواجهة الجنوبية الغربية، ويصعد إليه بدرجات من الحجر.
ويواجه باب المسجد باب آخر فى الحائط المقابل يؤدى إلى مصلى ملحق بالمسجد وينـزل منه بدرج إلى الميضأة ويوجد حول المسجد سقيفة محملة على الطابق الأرضى ويعلوها سقف خشبى وذلك فى الجدارين الشمالى الغربى والجنوبى الغربى، والمسجد مقسم من الداخل إلى ثلاثة أروقة ويتوسط حائط القبلة المحراب.
يتميز هذا المسجد عن باقى مساجد رشيد بجدرانه المغشاة ببلاطات القاشانى التى لم يبق منها كاملًا سوى حائط القبلة ويتخلل هذه البلاطات قطع من الرخام عليها آيات قرآنية وأحاديث نبوية، وتوقيعات لصناع ومجددين للمسجد. شيد هذا المسجد أحمد أغا دومقسيس سنة ١١١٤هـ/١٧٠٢. ومهندسه هو مصطفى جورباجى والذى سجل اسمه على لوح رخامى تذكارى بالمسجد.
لكن يتبقى السؤال أين عثر على حجر رشيد الذى كان السبب فى الوصول لفهم حضارة مصر الفرعونية، لقد عثر عليه فى قلعة رشيد التى تقع فى قرية برج رشيد إلى الشمال من المدينة، احتفظت مدينة رشيد ببرجها الحربى الذى يبعد عن المدينة إلى الشمال بنحو ٦ كم وهذا البرج بناه الظاهر بيبرس ثم جدده السلطان قايتباى تجديدًا شاملًا فى أواخر القرن ٩هـ/١٥م.
كما جددت الحملة الفرنسية هذا البرج وأجرت به ترميمات شاملة كشفت عن حجر رشيد الشهير المحفوظ حاليًا بالمتحف البريطانى. هذا البرج ذو سور مستطيل به فتحات لوضع المدافع وأربعة أبراج صغيرة فى أركانه الأربعة ويتوسط ضلع السور الجنوبى مدخل البرج وفى وسط فنائه يوجد المسجد والصهريج ومخازن السلاح وأماكن إقامة الجند. ولم يتبق من سور رشيد سوى بوابة أبو الريش فى الجزء الشمالى الغربى من المدينة، وعلى طول الشاطئ من رشيد إلى الإسكندرية توجد مجموعة من القلاع الصغيرة تعود إلى عصر أسرة محمد على من أبرزها قلاع العبد، والجزاير، والنوى، العلايم، والشيخ.... الخ.