راقت لى عفويته وهو مازال ينهج من صعود السلم الذى سبقنا عليه ليستقبلنا ـ زميلى المصور الصحفى إيهاب عيد والعبد لله ـ قبل وصولنا بدقائق فى هذه الأجواء المضطربة بعطش الحمام والعصافير التى تحط على شباك السيناريست الكبير ناصر عبد الرحمن، والتى شق من أجلها طريقا من المطبخ ـ طراز الأمريكى ـ حاملا فى يده وعاء ممتلأ بالماء وجاء مسرعا نحونا حيث نجلس وخلفنا الشباك ليملاء الأوانى التى وضعها خصيصا على أطراف شباكه المزين بزجاج ملون ليسقى الطيور العابرة.
طلبت منه كوبا من القهوة وماء ليبدأ العمل وأجرى حوارا صحفيا مع هذا الكاتب المختلف والكريم، لم يوافق على المساعدة فى تحضير أكواب القهوة وبمجرد أن رشفت رشفتى الأولى بدأ الحوار.
تحدثنا عن حبه الأول وفيلمه الأول ووثب بنا الحوار إلى أعماله الدرامية التى بثت فى الموسم الرمضانى الفائت «ستهم» و«ضرب نار» وتحدثنا أيضا عن صدفة قدرية غيرت حياة الكاتب رأسا على عقب، وذكريات الطفولة كانت محطة مهمة فى حوارنا توقفنا فيها لنرى كيف كانت الحياة حينما كان «ناصر» طفلا ثم صبى وشاب ذائب فى شوارع وحارات شبرا، وتحدثنا عن فيلمه القادم أيضا.
الفوضى لا وجود لها فى هذا المكان، على عكس ذلك تماما، حيث إن أجواء مكتبه «الصومعة» يغلب عليها خصائص جمالية وروحية موحية بالطراز الإسلامى، وأقصد بهذا الطراز الجانب الصوفى منه الذى يتسع ليشمل الزجاج الملون وأرفف خشبية بسيطة لكنها تحمل جوائز حصدها «ناصر» فى مهرجان «كان» العالمى، كما هو الكنب البلدى الذى احتل بيوت المصريين منذ العصر العثمانى ـ كما أتصور ـ ومجموعة متفرقة من اللوحات موزعة على الجدران كل شئ هنا لا فوضى فيه.
لكن ومن حسن حظى فرض مفهوم الفوضى نفسه فى المشهد الأخير من الجلسة الحوارية التى دامت لوقت طويل حينما أعطانى حزمة من الأوراق الكبيرة تحوى داخلها حلقات لعمل درامى له لأقرأها فى ظرف مهترئ هنا قلت لنفسى هذا ما كان عليه أن يحظى به هذا الرجل ولو جزء بسيط من الذات المبدعة تصيبها الفوضى.. لتكتمل الذات.
■ ما السينما؟
فى البداية سألته وكانت إجابته: السينما هى أعظم اختراع اخترعه الإنسان فالسينما لها قدرات لم يصل إليها فن آخر فهى قادرة على اكتشاف الإنسان ذاته فهى مرآته التاريخية والمستقبلية والآنية فكادر السينما قادر على تسبيت الزمن وتطوره وتحاكيه وتستعيد أزمنة سابقة وتكشف أزمنة لاحقة وترصد علاقات البشر وصراعاتها ولغاتهم وطرق التعبير لديهم وثقافتهم وبيئتهم وترينا أيضا أبعاد الإنسان وتقول لنا كيف يحب وكيف يكره وكيف يتطور ومصر لها تاريخ عميق فى هذا المجال الفنى فهى تنتج أفلاما منذ أكثر من ١٢٠ سنة وتسبق دولا كبيرة مثل أمريكا فهذا الفن يشبه فى جوهره فنون القدماء المصريين فى تسجيل حياتهم ولكن بصورة متحركة.
السينما المصرية كانت تشارك فى أكبر المهرجانات بشكل طبيعى دون ضجه نشهدها منذ فترة إذا ما تم مشاركة فيلم مصرى فى مهرجان كبير فمثلا فيلم «المنزل رقم ١٣» كانت له نسختان واحدة فى بريطانيا وأخرى فى مصر كان من إخراج المخرج الكبير كمال الشيخ فى هذه الفترة كتب نقاد أوروبا عن هذا الفيلم وكان ضمن أحكامهم أن نسخة مصر هى الأفضل وأيضا الفنان الكبير يوسف وهبى والفنانة الكبير فاتن حمامة كانوا أعضاء فى مهرجانات عالمية كثير مثل مهرجان «كان» وبرلين وغيرهم فصادف ذات مرة سنة ٢٠٠٧ أن أشارك فى ثلاثة مهرجانات كبرى فى سنة واحدة فذهب فيلم "جنينة الأسماك" إلى مهرجان برلين وذهب فيلم "هى فوضى" إلى مهرجان فينسيا بإيطاليا، وفى مهرجان "كان" شاركت بفيلم "الغابة" وأول فيلم لى حصدت جائزة فى مهرجان «لوكارنو» وهذا أمر طبيعى وعادى لا أرى فيه ما يدعو للفخر.
■ تتمتع ببناء فريد لشخوصك.. فكيف ترى الشخصية المصرية؟ فى ضوء أعمالك الدرامية الأخيرة التى جعلت من شخصية «ستهم» أيقونة للمرأة المصرية ومن شخصية «مهرة» رمز للحب العاقل.
سألته فكانت إجابته: كتبت عن الشخصية المصرية فى فيلمى الأول "المدينة" وهذا الفيلم كان مشروع تخرجى من المعهد العالى للسينما بأكاديمية الفنون التى شهدت حبى الأول، وكانت شخصية «على» هى تجسيد لحالة الشخصية المصرية الأكثر وضوحا فى هذه المرحلة من تاريخ مصر والتى تبدأ تقريبا فى سنة ٧٧ حينما كانت الأجواء العامة طاردة للمواطن المصرى بشكل أو بآخر.
تلك الفترة كانت بداية النزوح فى اتجاه الخليج وهنا تغيرت تركيبة الشخصية المصرية فبعدما كنا مصدرين للثقافة استوردنا بعض ملامح وتفاصيل هذه مرحلة، وفى فيلم «دكان شحاتة» أعدت النظر مرة أخرى فى تركيبة الشخصية المصرية فتجسد «شحاتة» وهى الشخصية المصرية الأصيلة وناقشت كيف تغيرت فى إخوته، وكان رد فعل الجمهور معيار لى فاندهاشهم من براءة «شحاتة» وما وقع عليه من إخوته من ظلم ولم يبادلهم هذا الجحود رغم قوته وهم من سرقوا عمره وورثه وحبيبته وقتلوه فى النهاية.
رأيت فى أحد العروض بكاء الجمهور على «شحاتة» وكأنهم يبكون على الشخصية المصرية التى حدث لها نوع من أنواع النزيف، ومؤخرا فى مسلسل «ستهم» حاولت تحليل الشخصية المصرية فى شخصية "ستهم" التى ارتدت ثوب الرجال لتحتمى داخله، وفى مسلسل «ضرب نار» تنعكس على شخصية «مهرة» إصرار المرأة على الحب رغم تحدى الظروف له، كل تلك التحولات المرنة التى مرت بالشخصية المصرية يمكن أن نختزلها فى تشبيهها بالنيل.
■ لست ماهرا فقط فى تشكيل الشخصية على الورق وتجسيدها بأبعادها النفسية والتلميح عن جذورها لتبدو حقيقية وأصيلة بينما أنت تهتم بعنصر المكان بوصفه بيئة الحدث فى أعمالك الدرامية والسينمائية.. سؤالى عن علاقتك بالمكان هنا فى الواقع فكيف تكون هذا وما هى علاقتك الواقعية بالمكان؟
لى علاقة فريدة مثلا مع شارع محمد على تختلف إلى حد ما عن خريطة علاقاتى التى تشكلت بالمكان عبر مراحل حياتى فأنا تربيت فى حي روض الفرج وهو حى له طابع خاص فرغم أنه فى قلب القاهرة لكنه قطعة من صعيد مصر وأكثر سكانه الأصليين من سوهاج بلد جدودى وكانت مدرستى تطل على نهر النيل وكان لأبى محال بالقرب من مسجد الحسين وتوزعت ذكريات الطفولة أيضا على حديقة الأزهر وأماكن أخرى مثل شارع الصنادقية وزقاق المدق لكن شارع محمد على كان فى مرحلة الثانوية تقريبا وهو وفيه تكسبت للمرة الأولى من الكتابة وكانت مكافأتى خمسة جنيهات كاملة من عم القرشى وهو صاحب فرقة عرائس جوالة تطوف بين المحافظات لطلبة المدارس.
وأتذكر جيدا وأنا فى جزيرة بدران طلب منى أن أكتب له اسكتش لبطل فرقته الدمية «مرجان» ولا يمكن وصف سعادتى فى هذه اللحظة لأننى أيضا سافرت معه لرأس البر ورأيت ما كتبته يقوله مرجان على الشاطئ للمصطافين هناك وكان موضوعها أنه كان يبحث عن حبيبته ويسأل الناس عنها.
■ تصنف على أنك متبنى المدرسة الواقعية.. ما رأيك فى هذا التصنيف؟ وهل تنوى الكتابة فى سياقات أخرى مثل الرومانسية أو الخيال مثلا؟
لا بأس به لكن ما تم تنفيذه من أفلام هو عدد أقل بكثير من الأفلام التى كتبتها ولم تنفذ بعد فهذا التصنيف جاء من الأفلام التى تم عرضها لكنى كتبت أكثر من ١٢ فيلما ولم يتم تنفيذهم بعد ـ قاطعته هنا قلت له إذا هذا التصنيف يبدو متسرعا ـ ليكمل حديثه: أنا أحب الواقعية السحرية دون تدخل منى فالعالم الذى نشأت فيه وتربيت فيه هو عالم سحرى بامتياز فكما ذكرت منذ قليل كنت أمشى فى شارع الصنادقية مثلا لأجد نفسى أمام بيت «الجبرتى» فملامح الواقعية السحرية موزعة فى كل الأماكن التى عشت فيها طفولتى وصبايا وشبابى ولم أغادرها فى كهولتى ـ.
لم أقاطعه هنا لأقول له لا مفر من أن تكون صوفيا يا رجل قلتها فى نفسى وأكملت صمتى ـ وأرى أن ملابس المصريين قديما مثل الجلباب والبرقع والملاءة اللف موحية بالواقعية السحرية بصريا تبدو الناس مثل بعضها البعض بهذا اللباس وكانت المرأة تتشابه فى منطق الواقعية السحرية أيضا فهى كانت تخفى أكثر ما تظهر من مفاتنها كالواقعية السحرية التى من سماتها البساطة المنتهية والاعتيادية غير المعقولة لكن من ورائها تاريخ عميق وعظمة ومرونة غير طبيعية.
■ إذا كيف تقيم الحركة النقدية الفنية فى هذه المرحلة فى ضوء سيطرة السوشيال ميديا وانطلاق منصات تتخصص فى إنتاج الأعمال الدرامية والسنيمائية؟
قال ناصر: الناقد عليه عبء كبير فى وجود مواقع التواصل الاجتماعى ومخاوفى فى هذا الاتجاه تتلخص فى تشتت الناقد وتقليد أنساق كتابة السوشيال ميديا رغبة منه فى ركوب التريند وما أراه من كتابات نقدية تتبع المدرسة الانطباعية رغم وجود العديد من المدارس النقدية مثل البنيوية والتفكيكية والتعبيرية غيرهم فالانطباعية هى المدرسة الأسهل حيث إن الناقد من خلالها يروى قصة العمل السنيمائى أو الدرامى بما يتفق مع ذائقة المتلقى.
لذلك نفتقد الحديث عن الأعمال الفنية نقدية من حيث استخدام الكاتب مثلا لأدواته وحركة الكاميرا ودور الموسيقى وغيرها من الفنون التى تمتزج ليخرج عمل فنى متكامل والأكثر دهشة هو أن الناقد يكتب من خلال حبه للعمل أو كره له رغم أن النقد عملية معقدة وتحتاج لحيادية مطلقة للحديث عن أى عمل فنى دون تدخل العواطف فى هذا الشأن لذلك ولأسباب كثيرة أخرى أنا غير راض عن الحركة النقدية فى هذه المرحلة ومنها أيضا ظهور المنصات التى ستنهى دور القنوات الفضائية فى غضون خمس سنوات فى توقعاتى وهذا الأمر يشتت انتباه النقاد أيضا من حيث عدد الأعمال الكثيرة التى تعرض على شاشاتها وكيفية الإنتاج.
■ وماذا عن آخر أعمالك السينمائية وهل سيكون هناك أجزاء أخرى من مسلسل «ستهم» أو «ضرب نار» فى موسم رمضان القادم؟
سيكون فيلمى القادم مفاجأة بالفعل انتهيت من كتابة السيناريو عن رواية «بواب الحانة» وسيحمل الفيلم نفس العنوان وسيكون من إخراج ياسين حسن وهى رواية تدور حول «حسان الأزهرى» الذى يجد نفسه فى قلب خمارة بعد تعديه على أحد الأشخاص المخمورين فى الشارع وكرد فعل غريب يقرر البقاء فى هذه الحانة وخدمة مريديها حتى يصبح صاحبها فى النهاية لكن فى الفيلم لن تتوقف الأحداث داخل الحانة لكنها ستخرج لتكشف عالم آخر.
أما بالنسبة للأعمال الدرامية إلى الآن لم أتعاقد على عمل درامى أو أجزاء أخرى من مسلسل «ستهم» أو «ضرب نار».