الإثنين 20 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

مصريات

التأمين الصحي.. "البيمارستان" منظومة ابتكرها المصريون

من أحد كتب تدريس
من أحد كتب تدريس الطب في مصر الإسلامية
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

بعدما أنار الإسلام ربوع مصر، شهدت الحضارة العربية والإسلامية تقدما طبيا كبيرا، واهتم كل حاكم أنشأ دولته بالجانب الطبي. 

هكذا انتشر في جوانب البلاد أكثر من "بيمارستان" في مواضع محددة تسهم أجوائها في الشفاء، على رأسها عدد من الأطباء المهرة.
وخلال نهضتها الحديثة، اهتم محمد علي باشا، وعدد من أفراد أسرته فيما بعد، كثيرا بتطور الطب في البلاد، فأوفد البعثات إلى أوروبا لتعلم فنون الطب، كما استقدم الكثير من كبار الأطباء الأجانب لتدريب الأطباء المصريين وصقل مهاراتهم، ما أسهم في بروز أجيال من العباقرة، حتى وإن شهدت المنظومة نفسها تطورا فيما بعد.

والمتأمل في ذلك البناء العظيم والذي نعرفه جميعًا بجامع السلطان حسن، والذي يقع في مواجهة جامع الرفاعي في منطقة ميدان القلعة، سنجد أننا أمام مؤسسة علمية متكاملة، فحسب وقفية المبنى «وثيقة البناء» فإن المنشأة عبارة عن مدرسة، وليست جامعًا، والمدرسة في هذا العصر تساوي الكلية في عصرنا الحالي أو الجامعة. 
والسلطان الناصر حسن هو ابن السلطان الناصر محمد ابن السلطان المنصور قلاوون، فهو سلطان ابن سلطان ابن سلطان، وقرر في عام 757 هـ بناء هذه المدرسة وقفًا لأبناء مصر كي يتعلموا ويدرسوا فيها مختلف العلوم، وهي مكونة من 4 إيوانات كبرى، والإيوان هو المساحة المغلقة من 3 جوانب وتفتح في الجانب الرابع على صحن سماوي مكشوف، وملحق بكل إيوان مدرسة تخص أحد المذاهب الأربعة، وملحق بالمنشأة سبيل، وايضًا ملحق بها بيمارستان.

البيمارستان

هي كلمة من مقطعين، الأولى "بيمار" وتعني "مريض"، والثانية "ستان" وتعني "مكان"، أي مكان المرضى والتي نطلق عليها اليوم "المستشفى".
لماذا بنى السلطان مستشفى ملحقة بتلك المدرسة الضخمة؟ 
لكي نصل إلى هذا الجواب فمن الممكن أن نتأمل قليلًا في وقفية المنشأة والتي جاء فيها أن كل مدرسة من المدارس الأربعة كان بها 100 طالبًا، يقيمون فيها، أي أن إجمالي المنشأة تضم 400 طالبًا مقيمًا طوال الأيام الدراسية، إضافة إلى 30 طالبًا لعلوم القرآن الكريم، و30 طالبًا لعلوم الحديث، أي أن لدينا منشأة بها 460 طالبًا مقيمًا بشكل مستمر، إضافة للعاملين، حيث كان لكل مدرسة شيخًا، ومعيدين، وكان للمدرسة 32 مؤذنًا، ومداحًا، غير الفراشين والعمال، أي أن لدينا هيئة بكاملها تعمل على خدمة هؤلاء الطلاب، قد يقترب عددهم من مائة شخص آخر، بعضهم له أماكن إقامة، أي أننا نتحدث عن مؤسسة تضم بين جنباتها ما لا يقل عن 500 شخصًا مقيمًا، وهو ما يحتاج وبالتأكيد إلى خدمة طبية سواء طارئة أو دائمة.
ولهذا أنشأ السلطان أو ألحق بمدرسته بيمارستان «مستشفى»، وهذا البيمارستان قرر به السلطان حسن طبيبان وجراح، يمرون على الطلاب بشكل يومي، حيث يفحصون الطلاب في تخصصات الرمد والباطنة والجراحة، ومن يحتاج إلى إسعاف عاجل كان يتم إسعافه في غرفته أو في فصله الدراسي، ومن كانت حالته تستدعي الدخول إلى المستشفى كان يتم نقله إليها. 
إذًا فنحن أمام مستشفى تؤمن الرعاية الصحية والطبية للطلاب، وهي هنا على غرار المستشفيات الجامعية الحالية، ومن الممكن أن نتخيل أن تلك المستشفى كان لها دورًا في العملية التعليمية في مدرسة السلطان حسن، وهي كما قلنا جامعة كان فيها يتم تدريس المذاهب الأربعة المذهب الحنفي والشافعي والمالكي والحنبلي، وكذلك كان يتم تدريس علم التفسير وعلم الحديث وعلوم التاريخ والطب والهندسة والاجتماع والفلك، وبالتأكيد المستشفى تلك كان لها دورًا في تدريس الطب وعلومه المختلفة. 
والحقيقة أن مسألة التأمين الصحي أو الرعاية الطبية وتوفير تعليم مهنة الطب ليس جديدًا على المصريين فهم مبتكروا ذلك ومبتدعوه منذ عصور قدماء المصريين، فمثلًا يروي لنا الدكتور عبد الحليم نور الدين في كتابه آثار وحضارة مصر القديمة الجزء الثاني، أن المعابد المصرية القديمة كان ملحق بها مكان يقال له «بر عنخ» أي بيت الحياة، وكان هذا المكان يعتبر مؤسسة تعليمية، يتم فيها تدريس مجالات شتى وعلوم عديدة من بينها الطب، ووجدت مدارس الطب في معابد المدن الكبرى مثل تل بسطة في الشرقية وصا الحجر في الغربية وأبيدوس سوهاج وعين شمس القاهرة، وورد في بردية ايبرس أن كاهن الإلهة سخمت كان متمرسًا في الطب ووردت في هذه البردية مقولة تدلل أنها ما هي إلا نص دراسي ما حيث تقول البردية «إن الأصل في الطب هو القلب، وعندما تفحص «وهنا يعلم الطالب» أي عضو من أعضاء الجسد فإنك يجب أن تعلم عن القلب الكثير»
وفي سايس (صا الحجر) يقول كبير الأطباء «وجا حر سنب» أمرني جلالة الملك أن أعني بمدرسة الطب بكل فروعها وإننا يجب أن نختار أحسن الطلاب لدراسة هذا العلم وأن نمدهم بكافة احتياجاتهم. 
والحقيقة أن الالتحاق في مدارس الطب سواء عند قدماء المصريين أو في مدرسة السلطان حسن أو حاليًا في الجامعات المختلفة، يتطلب عدة شروط أولها، التفوق في مراحل التعليم السابقة، ثم غزارة معلوماته بشكل عام، وكان يشترط المصري القديم أن يكون الطالب من أسرة ميسورة الحال، وهو مالم تشترطه المدارس في العصر الإسلامي ولا في العصر الحديث، وذلك لارتفاع تكاليف دراسة ذلك العلم فالطب هي مهنة المهن وسيدتها وتعني بجسد الإنسان وحياته. 
ونجد أن الأطباء دائمًا درجات، فمثلًا في مصر القديمة نجد درجة الطبيب وكل مجموعة من الأطباء يعلوها كبير أطباء، ثم هناك المفتش وهو طبيب ذو خبرة يفتش على الجميع، ثم مدير الأطباء، وهو منصب قد يوازي نقيب الأطباء حاليًا، ووجدت نفس هذه الوظائف في البيمارستانات، المستشفيات، في العصر الإسلامي ولعل أبرزها بيمارستان السلطان قلاوون، والذي لم يقف عند تدريس الطب وفقط بل درس الصيدلة أيضًا.

التأمين الصحي


صنع السلطان الناصر قلاوون ما يشبه نظام التأمين الصحي الشامل في مستشفاه الذي أسسه والتي لا زالت بقاياه موجودة في شارع المعز لدين الله الفاطمي، أمام قبة الصالح نجم الدين أيوب وضمن مجموعة السلطان قلاوون الشهيرة، حيث خُصص هذا البيمارستان وثيقة الإنشاء التي أمر بكتابتها السلطان، لعلاج «الملك والمملوك والجندي والأمير والصغير والكبير والحر والعبد والذكر والأنثى والأغنياء والفقراء والمحتاجين بالقاهرة ومصر وضواحيها من المقيمين بها والواردين إليهما من البلاد والأعمال على اختلاف أجناسهم وأوضاعهم وتباين أمراضهم سواء قلت أو كثرت وأمراض الحواس خفيت  أو ظهرت واختلال العقول التي حفظها من أعظم المقاصد. 
الحقيقة أن النص السابق وهو ما نقله لنا المقريزي عن وثيقة إنشاء بيمارستان السلطان قلاوون تدلنا على مدى العناية التي أولاها سلاطين مصر في هذا العصر للناحية الطبية، وكان كل ذلك يقدم بالمجان، مع توفير الدواء اللازم لكل حالة والملبس والمأكل والمشرب، بل كان المريض بعد أن يتعافى يحصل على قدر معين من المال يكفيه عدة أيام وهي فترة النقاهة لكيلا ينزل إلى عمله مباشرة، وفي هذا قمة الكفالة الاجتماعية من ناحية وتأمين حياة البشر من ناحية أخرى وهي تماثل الأنظمة الحديثة في التأمين على صحة البشر.

تصدير الطب

صدرت مصر علم الطب إلى العالم كله، بل وسجل العديد من الرحالة وأبرزهم أوليا جلبي، وجومار وغيرهم تفاصيل المستشفيات العامة التي أنشأها المصريون، وانتقلت تلك المستشفيات بنفس أقسامها إلى الغرب، حيث كانت تشتمل على قسم للرجال وآخر للنساء، وبها تخصصات الرمد والكسور والباطنة الجراحة والنفسية والعصبية، بل كان علاج النفسية والعصبية فيها بالموسيقى، ثم نقلوها إلى بلادهم.
وقعت مصر بعد ذلك رهنًا للاحتلال العثماني، فترة امتدت لما يقرب من 400 عام أو يقل قليلًا، ووقعت في هوة ثقافية أيضًا وتدهورت الحالة التعليمية في شدة حتى جاء محمد علي باشا والذي أنشأ أول مدرسة للطب في منطقة أبو زعبل عام 1827، والتي تعد أول مدرسة للطب الحديث في المنطقة العربية، وقد بنيت على مساحة أرض كبيرة وأحيطت بسور سميك وكان مكانها في الأصل قوات الخيالة، وكان أول ناظر لها هو الطبيب الفرنسي "أنطوان كلوت" والمشهور بـ "كلوت بك"، وضمت المدرسة العديد من الأقسام العلمية الطبية، مثل الفيزياء والكيمياء والنبات والتشريح والفسيولوجيا وعلم الصحة وعلم السموم والمفردات الطبية والتشخيص المرضي الداخلي والخارجي، كما ضمت المدرسة بعد ذلك قسمًا للصيدلة عام 1830، ومدرسة للقابلات عام 1831م.