الإثنين 04 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

مصريات

أطباء مصر.. من "سنو" إلى "البيمارستان" وحتى "الباش حكيم"

طرف صناعي مصنوع في
طرف صناعي مصنوع في مصر القديمة
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

عرف التاريخ طبيب الأسنان المصري "حسي رع" كأبرز وأول الأطباء المعروفين في العالم القديم، والذي كان -على الأرجح- أحد أطباء "زوسر"، وهو أحد أهم ملوك الأسرة القديمة. كما عُرف أطباء الإمبراطورية المصرية القديمة بأنهم يتمتعون بمستوى عال من الكفاءة وعلى درجة عالية من العلم؛ وفي النصوص المصرية القديمة كانت كلمة "سنو/swnw" تعني "طبيب"، والأعلى منه مركزاً يُسمى "imy-r swnw"، ورئيس الأطباء "wr-swnw"، ومفتش الأطباء "shd-swnw". 
وكان بعض هؤلاء الأطباء المصريون من الكتبة، ولديهم القدرة على كتابة وقراءة المراجع الطبية. وهو ما استرشد به فيما بعد أطباء الإسكندرية في العصور اليونانية والرومانية، والتي شهدت بروز عدد كبير من أشهر أطباء العالم القديم، بينهم "أبو الطب"؛ حتى أن الشاعر الأشهر هوميروس قد تحدث عن براعة الأطباء المصريين في ملحمته الخالدة "الأوديسا".
وبعدما أنار الإسلام ربوع مصر، شهدت الحضارة العربية والإسلامية تقدما طبيا كبيرا، واهتم كل حاكم أنشأ دولته بالجانب الطبي، هكذا انتشر في جوانب البلاد أكثر من "بيمارستان" في مواضع محددة تسهم أجوائها في الشفاء، على رأسها عدد من الأطباء المهرة.
وخلال نهضتها الحديثة، اهتم محمد علي باشا، وعدد من أفراد أسرته فيما بعد، كثيرا بتطور الطب في البلاد، فأوفد البعثات إلى أوروبا لتعلم فنون الطب، كما استقدم الكثير من كبار الأطباء الأجانب لتدريب الأطباء المصريين وصقل مهاراتهم، ما أسهم في بروز أجيال من العباقرة، حتى وإن شهدت المنظومة نفسها تطورا فيما بعد.


الطب في مصر القديمة.. وصفات وتشخيص وعلاج

تمتع الأطباء بمكانة مرموقة في المجتمع المصري القديم، وكان ينظر إليهم نظرة احترام وتقدير، وقد مثلوا جزءا من النخبة، وكانوا في نفس رتبة القادة العسكريين والكهنة، ومسئولي المناجم والزراعة ومخازن الحبوب العامة، وكانوا يتواجدون في أماكن العمل -كالمناجم والمحاجر- إلى جانب المنشآت الكبيرة مثل المعابد والمقابر والقصور.
ويعتبر التحنيط أحد المجالات التي ساعدت الطبيب المصري القديم على فهم الجسد الآدمي؛ والحيواني بل والطيور أيضا، هذا الفهم أدى دون شك إلى تقدم علوم الطب عند قدماء المصريين سواء الطب البشري أو البيطري. 
ويؤكد عالم المصريات الدكتور علي رضوان في مقدمة كتاب الطبيب كريستيانو داليو "الطب عند الفراعنة.. أمراض.. وصفات طبية.. خرافات ومعتقدات" أن مصر القديمة بالنسبة لأهل المعرفة والعلم في بلاد الإغريق كانت هي مهد الحضارة وأرض العلوم مثل الفلك، الهندسة، الرياضيات والجغرافيا وغيرها، وعلى وجه الخصوص في مجالات تشخيص الداء ووصف الدواء اي علم الطب. 
وكان أعظم شعراء الاغريق" هوميروس" قد اشاد في رائعته "الأوديسة" في القرن الثامن ق.م، بمقدرة المصريين القدماء أكثر من الآخرين في معالجة كل نوع من المرض، ومن بعد ذلك يزور المؤرخ الإغريقي "هيرودوت" مصر في منتصف القرن الخامس ق.م، ويسجل اعجابا شديدا بتنوع التخصصات الطبية في مصر آنذاك قائلا" هناك العديد من الأطباء في كل مكان بعضهم تخصص في طب العيون وآخرون يقومون بعلاج اوجاع الرأس وغيرهم للأسنان أو الأمراض الباطنية الى جانب من يتعاملون مع العلل الخفية".
وما تحدث به "هيرودوت" من تنوع وتشعب التخصصات الطبية في مصر القديمة كان صائبا الى حد بعيد، ذلك أن القاب الأطباء منذ الدولة القديمة من حوالي 2640 الى حوالي 2155 ق.م، وعلى مدى العصور من بعد ذلك ثتبت صدق هذا القول، وكان عالم الآثار الألماني" هيرمان يونكر" قد نشر دراسة عن لوحة لطبيب البلاط الملكي "إيرى" الذي عاش في نهاية الاسرة الخامسة، ومنها تم التعرف على العديد من هذه التخصصات.

مدارس الطب
كان على من أراد أن يكون طبيبا في مصر القديمة كان عليه أن يلتحق ببيت الحياة أو "بر عنخ"، وهو عبارة عن دار أهل العلم والمعرفة وعادة ما كان من ملحقات المعابد الكبرى في الأرض المصرية، حيث لم يكن هناك مؤسسات محددة لتعليم الطب في مصر. 
ووجدت مدارس الطب في المعابد والمدن الكبرى مثل "تل بسطة" بالشرقية، و"سايس" -صا الحجر- بالغربية، و"أبيدوس" بسوهاج و "هليوبوليس" -عين شمس- بالقاهرة، ومن أهمها مدرسة "منف" -ميت رهينة بالجيزة حاليا- التي كان من أبنائها وأساتذتها "إيمحتب" مهندس الملك زوسر؛ وقد أصبح معبده مدرسة للطب أخرجت لمصر القديمة الكثير من الأخصائيين وزادتها شهرة مكتبتها التي كان يتردد إليها العديد من الأطباء حتى القرن الثاني الميلادي.
ويذكر عالم الآثار الألماني "هيرمان جرابو" وجود وحدات علاجية ملحقة ببيوت الحياة لتكون بمثابة المستشفى التعليمي في عصرنا الحالي. 
ويعد النقش الموجود على قاعدة تمثال "ودجاحور اسنت" الذي كان رئيسا لكهنة الإلهة "نيت" في مدينة "سايس" أيام الملك "داريوس" الفارسي في أوائل حكم الفرس في مصر، والمعروض بمتحف الفاتيكان، أول مستند صريح واضح رسمي يدل على تاريخ المدارس الطبية منذ 525 ق.م، كما يدل على أن هذه المدارس كانت قائمة قبل ذلك العصر بكثير، وأنها تهدمت تحت ظروف خاصة، وأن هذه المدرسة الطبية في" سايس" لم تنشأ في عهد الملك "داريوس"، بل جددها وأقامها على أنقاض المدرسة المصرية القديمة، وأعادها إلى مكانها وما كانت عليه.

الأطباء في مصر القديمة 
كلمة "سنو" في اللغة المصرية القديمة تعني طبيب بوجه عام سواء كان ممارسا ام جراحا ام طبيب اسنان ام بيطريا ام صيدليا؛ وطبقا لنصوص مصرية قديمة فان من يحمل هذا اللقب ويشغل هذه الوظيفة كان يجب أن يكون مؤهلا وموهوبا إلى حد كبير، وكان الطبيب في مصر القديمة إلى جانب خبرته العملية في القضاء على الداء وإعطاء الدواء عليما بالحالة النفسية للمريض الذي يراد له الشفاء التام.
وكشفت الأدلة الأثرية أن الطبيب في مصر القديمة توصل إلى معرفة أقل ما توصف بأنها غاية في الدقة لوظائف الأعضاء وطبيعة عملها مثل القلب والرئتين والمعدة والكي والكبد والبنكرياس وغيرها من الأعضاء، كما أن الممارسات الطبية جعلته يعرف من أي جزء تحديدًا يمكنه فتح الجسم البشري والوصول إلى الأعضاء والأحشاء الداخلية دون تدميرها، فمن خلال فتحة صغيرة يصل طولها إلى بضعة سنتيمترات في الجانب الأيسر من البطن تمكن المحنط المصري القديم من الوصول واستخراج كل أعضاء الجسد الآدمي وتحنيطه على حدة.  
وكان يتم تصنيف الأطباء الى مجموعة من التخصصات وهم "الكهنة" ويمثلون الطب الروحي والنفسي والذي يعتمد على السحر والدين في العلاج، وكانوا بمثابة الوسطاء بين المرضى والآلهة الشافية، ولهم مكانة مهمة بين الناس وفي مجال الشفاء وفي عام 2013، اكتشفت البعثة الأثرية التشيكية العاملة في ابوصير بالجيزة مقبرة كبيرة تعود إلى عصر الأسرة الخامسة يدعى صاحبها "شيب عنخ"، الذي كان يعمل في درجة كبير الأطباء في مصر العليا والسفلى، ولهذه المقبرة باب مكتوب عليه "كاهن من خنوم" وهذه تشير إلى أنه كاهن طبيب ساحر. 
وكان هناك "الاطباء العموميين" ونقصد بهم حاليا الطبيب العام الذي يعالج عامة الناس من جنود وعمال وغيرهم ومنهم الطبيب "عنخ رع الثاني "خلال أواخر عصر الاسرة الخامسة، و"عكمو" طبيب الجنود ويعود للأسرة الـ 12 .
كما كان يوجد في مصر القديمة "الأطباء المختصين" الذين اختصوا في علاج أحد الأمراض فقط ومنهم الطبيب "واج دواو" من الدولة القديمة وكان رئيس أطباء العيون بالقصر الملكي والطبيب "مر كاورع" طبيب اسنان من الأسرة الخامسة، فيما تختص الفئة الثالثة ب"رؤساء الأطباء" ومنهم الطبيب "حسي رع" كبير أطباء الأسنان والطبيب "امنحوتب" رئيس الأطباء من عهد الأسرة الـ 18 و 19.
وإلى جانب هؤلاء الأطباء كان هناك "أطباء القصر"، وكانوا مكلفين برعاية الملك والأسرة المالكة ومنهم الطبيب "ني عنخ سخمت" من الأسرة الخامسة، والطبيب" ايري" تاريخه ل 1500 عام ق.م عمل كرئيس لأطباء القصر وكان تحت إشرافه العديد من الأطباء وورد في النص الجنائزي الخاص به "أنه كان طبيب العيون وطبيب البطن وطبيب الدبر".

مكافآت وبعثات خارجية 
كان الطبيب في مصر القديمة يتقاضى اجره "مكافأة " عن طريق كادر حكومي مثل مختلف اطباء البلاط الملكي، أو عن طريق "العطايا" مثل قلائد الذهب التي يمنحها له الحاكم. 
وتذكر النصوص المصرية القديمة ان بعض ملوك مصر كانوا يوفدون الى حكام سوريا وبلاد النهرين اطباء مصريين لعلاجهم بناء على طلبهم.
وكان الأطباء المصريون يمضون في الخارج فترات قصيرة أو طويلة في بعض الأحيان حسب عدد المرضى وطبيعة مرضهم وكانوا ينالون الهدايا مقابل عملهم، خاصة وأن الطب المصري القديم نال شهرة كبيرة لدى دول الجوار مثل "سوريا وبلاد النهرين وفارس وخيتا وفينيقيا" وهي الدول التي لجأت إلى مصر لكي تمدها بالمتخصصين في بعض الأمراض لعلاج حالات لديهم، كما أنه من المعروف أن اليونانيين تعلموا كثيرا من المصريين في مجالات التشخيص الطبي والجراحة والعلاج والعقاقير.
ومن أبرز القصص التي تؤكد شهرة الاطباء المصريين القدماء في الخارج عندما تلقى الملك رمسيس الثاني من ملك" الحثيين" تتعلق بأخته التي لا تستطيع ان تنجب، ورد عليه الملك رمسيس بان اخته بلغت من العمر 60 عاما، ولهذا لا تستطيع ان تنجب، ورغم ذلك سوف يبعث له بأمهر اطبائه وأفضل أدويته.

آلهة الطب
لم تعرف الحضارة المصرية القديمة إلهًا محددًا للطب، وإنما ارتبط الامر بعدد من الآلهة، من بينهم "جحوتي" اله الحكمة والمعرفة، "بتاح" إله الفنون والحرف،و "حور" اله السماء، و"آمون" اله الشمس ، "خونسو" اله القمر،" إيزيس" الالهة الكاملة،"حتحور" الالهة الام و"ايمحتب" مهندس الملك زوسر.

البرديات
كان من المتوقع العثور على مئات البرديات التي تتعلق بالطب لكن ورق البردي لا يحتمل كثيرا عوامل الزمن وعبث الإنسان ولهذا فان ما احتفظ لنا به الزمن من برديات طبية قليل واهمهم برديات " الكاهون ،هرست ،ايبرس،برلين، ادوين سميث، لندن، ليدن،كارلسبرج،وشستر بيتي"، وهي برديات تتضمن  معلومات عن امراض مختلفة ووصفات طبية واعشاب وتعاويذ سحرية وتمائم ضد الارواح الشريرة.
ولم يتم ذكر اي مؤلف لأي من تلك البرديات فهي ليست اصلية ولكنها نسخ من النسخ التي تحتوي على جميع الاخطاء والتغييرات والاضافات التي ينطوي عليها عادة تقليد على مدى عدة قرون، ومع ذلك توفر وصفا كبيرا لمجموعة من الاعراض والامراض، وكتبت نصوصها باللغة الهيراطيقية بدلا من الهيروغليفية هذا ما جعل محتواها سهل التداول.
وأطلق على تلك البرديات اسماء مكتشفيها أو ناشريها أو اصحابها أو المدن التي تحفظ فيها أو القرى التي وجدت فيها.
وتضمنت تلك البرديات العديد من الامراض التي أمكن الاطباء تشخيصها والتعامل معها وهي امراض الرأس، والأنف والاذن والحنجرة والاسنان والعيون والباطنية والشرج والاورام والنساء والقلب والعصبية والجلد والمسالك البولية والصدر والعظام وسوء التغذية والاطفال.

الأمراض في مصر القديمة 
لعبت المومياوات المصرية القديمة الى جانب البرديات الطبية لعبت دورا في الكشف عن الأمراض في مصر القديمة من خلال فحصها بكل مستويات اصحابها الاجتماعية والاقتصادية، وتم التعرف على بعض الامراض مما ادى الى توافر معلومات كثيرة عن التشريح والجراحات والعلاج في تلك الفترات.

الأورام
فحوصات ودراسة المومياوات القديمة نتج عنها العديد من المعلومات الطبية عن الامراض والعلاج، ففي عام 2015 قامت البعثة الاسبانية العاملة في اسوان بدراسة هيكل عظمي لامرأة مصرية يرجع إلى عصر الأسرة السادسة (2345-2181 ق.م)، أثبتت إصابتها بسرطان الثدي، وهي تعد أقدم حالات الإصابة بسرطان الثدي الأمر الذي يدلل على ظهور هذا المرض الخبيث منذ أقدم العصور المصرية.

ختان الذكور
حرص المصريون القدماء على تسجيل كل ما يرتبط بحياتهم على جدران المعابد والمقابر مثل منظر ختان الذكور في مقبرة"عنخ ماحور" من الاسرة السادسة بمنطقة سقارة بالجيزة والتي تؤكد ان المصريين القدماء هم اول من مارس "ختان الذكور"، بالإضافة إلى المقابر التي تخص اطباء ورد فيا ذكر لوظائفهم ودورهم في هذا المجال.

الأطراف الصناعية 
في احدى المقابر بمنطقة العساسيف بغرب الأقصر في التسعينات من القرن الماضي، عثرت البعثة السويسرية على مومياء وطرف صناعي خاص بقدم سيدة تدعي" تا باكت موت" ابنة كاهن" آمون" الذي يدعى "باك ان آمون"، ويرجع لعصر الأسرة ال 21 أي حوالي القرن الحادي عشر قبل الميلاد. 
وفي عام 2017 أجرى علماء المصريات في جامعة بازل السويسرية دراسات علمية على القدم بالاشتراك مع المتحف المصري بالقاهرة، والذي كان يعرض الطرف الصناعي قبل نقله للمتحف القومي للحضارة، باستخدام الأدوات المجهرية الحديثة، وتقنية الأشعة السينية، والتصوير المقطعي بالكمبيوتر.
ومنح العلماء الحرفي الذي ابتكر الطرف التعويضي للجزء المقطوع من القدم أعلى تقييم في براعة التصنيع، حيث كان خبيرا على أكمل وجه في تركيب جسم الإنسان، فكان الإصبع الخشبي مثبتا بشريط منسوج في قدم ابنة الكاهن، وقد صنع لمساعدة صاحبته على المشي بشكل طبيعي لتعويضها عن الإصبع الأكبر من ساقها اليمنى المبتور، وخضع للتعديل أكثر من مرة، وصنع على هيئة صندل مصنوع من الخشب والجلد.

أمراض النساء والولادة
برع المصريون في علاج امراض النساء مثل الاجهاض كما كانوا يجرون تجربة اكتشاف نوع الجنين عن طريق فحص البول، وفي بردية "وستكار" هناك وصف دقيق لكيفية العناية بالمرأة الحامل وما يجب القيام به عند الولادة وكيفية التعامل مع الطفل فور ولادته، كذلك عرفت مصر اسلوب "كرسي الولادة" والذي لايزال معمول به حيث يسهل عملية الولادة، ويبدو ذلك واضحا من نقش بالمتحف القومي للحضارة المصرية بالفسطاط، وقد نقش هذا الكرسي بمناظر عدة على جدران المعابد. 
كما عرف المصري القديم وصفات لمنع الحمل حيث ذكرت وصفات بردية "إيبرس" الطبية وصفة باستخدام نبات السنط وحملت اسم "الوصفة 783".
 

 

"هيروفيلوس الخلقدوني" جراح يوناني حمل لقب "أبو التشريح"

تميز الطب في العصر اليوناني ضمن المسار الزمني للحضارة المصرية القديمة بوجود كثير من العلماء الذين حققوا إنجازات كثيرة وكانوا أصحاب أسماء كبيرة في هذا المجال؛ ومن هؤلاء "هيروفيلوس الخلقدوني" اليوناني الذي كان عالما وطبيبا متميزاً في علم التشريح، وهو ما جعله يحمل لقب "أبو التشريح"، وكانت له آراءه التي كان يرفض من خلالها القواعد التقليدية في الطب.
وقد بلغ الخلقدوني مكانة كبيرة في الطب، وأصبحت كتبه ومؤلفاته في علم الطب عامة والتشريح كتخصص بمثابة الطريقة التي يجب أن يبدأ بها أي طبيب جديد حياته العملية، وإذا أراد النجاح في ممارسة المهنة يجب عليه أن يكون ملما بعلم وما كتبه الأطباء الكبار مثل هيروفيلوس الخلقدوني وأبوقراط وغيرهما.
وطبقاً لما جاء في كتاب "مختصر تاريخ الطب العربي"، فقد كان للجراح اليوناني هيروفيلوس الخلقدوني العديد من الإنجازات الطبية وخاصة في مجال التشريح؛ ومن هذه الإنجازات وصف تشريح العين وكتابته ورسمه بدقة عالية، واستكمل ذلك بوصف عملية النظر طبياً بكل أجزائها في الجسد خاصة الأعصاب والشبكية وغيرها.
وقد كان هيروفيلوس الخلقدوني -الذي عاش أغلب حياته في مدينة الإسكندرية- مشغولا بفكرة المركز الحقيقي الذي يقوم من خلاله الإنسان بالتفكير، وكان سبيله للتوصل إلى ذلك التشريح، وبعد بحث توصل الي فكرة تشريح جثامين عدد من الخارجين على القانون والذين صدرت بحقهم أحكام بالإعدام.
وقبل أن يجري تجربته حصل على تصريح من الحاكم حينها ليصبح الأمر قانونياً، وبعد تشريح الجثامين اكتشف أن مركز التفكير في الرأس ومخ الإنسان، يتحكمان في باقي الجسد ويرسلان لجميع الأطراف أوامر الحركة وغيرها عن طريق الأعصاب.
كما أنه صاحب فضل في ابتكار عدد من الأدوات الجراحية في القرن 3 ق.م والتي يستخدمها الجراحون حتى الآن، ومن هذه الأدوات الإبر التي تستخدم غي خياطة الجروح وخاصة الإبر ذات الطرف المنحني، والتي أصبحت فيما بعد من الأدوات الجراحية المهمة. وهو ما يعد امتداداً لعبقريته الطبية، والتي مكنته فيما بعد من وضع وصف دقيق ومفصل للجسم البشري، وذلك استنادا على عبقريته الكبيرة في مجال التشريح، مما أفاد تطور الطب وعلومه فيما بعد، كما كان هو أيضاً صاحب السبق في وصف الغدة الصنوبرية ووظيفتها في الجسم، وغيرها من الإنجازات التي حققها في مجال الطب والتشريح.
وقد بلغت مكانة هيروفيلوس الخلقدوني في علم التشريح أنه أنشأ في مدينة الإسكندرية ما يشبه المدرسة، وكانت لتعليم وتدريس علم التشريح لمن يلتحقون بالمدرسة، وقد حرص خلالها علي نقل كل خبراته وعلمه في هذا المجال لطلاب المدرسة.


التأمين الصحي.. منظومة "البيمارستان" التي ابتكرها المصريون

إن المتأمل في ذلك البناء العظيم والذي نعرفه جميعًا بجامع السلطان حسن، والذي يفع في مواجهة جامع الرفاعي في منطقة ميدان القلعة، سنجد أننا أمام مؤسسة علمية متكاملة، فحسب وقفية المبنى «وثيقة البناء» فإن المنشأة عبارة عن مدرسة، وليست جامعًا، والمدرسة في هذا العصر تساوي الكلية في عصرنا الحالي أو الجامعة. 
والسلطان الناصر حسن هو ابن السلطان الناصر محمد ابن السلطان المنصور قلاوون، فهو سلطان ابن سلطان ابن سلطان، وقرر في عام 757 هـ بناء هذه المدرسة وقفًا لأبناء مصر كي يتعلموا ويدرسوا فيها مختلف العلوم، وهي مكونة من 4 إيوانات كبرى، والإيوان هو المساحة المغلقة من 3 جوانب وتفتح في الجانب الرابع على صحن سماوي مكشوف، وملحق بكل إيوان مدرسة تخص أحد المذاهب الأربعة، وملحق بالمنشأة سبيل، وايضًا ملحق بها بيمارستان.

البيمارستان
هي كلمة من مقطعين، الأولى "بيمار" وتعني "مريض"، والثانية "ستان" وتعني "مكان"، أي مكان المرضى والتي نطلق عليها اليوم "المستشفى".
لماذا بنى السلطان مستشفى ملحقة بتلك المدرسة الضخمة؟ 
لكي نصل إلى هذا الجواب فمن الممكن أن نتأمل قليلًا في وقفية المنشأة والتي جاء فيها أن كل مدرسة من المدارس الأربعة كان بها 100 طالبًا، يقيمون فيها، أي أن إجمالي المنشأة تضم 400 طالبًا مقيمًا طوال الأيام الدراسية، إضافة إلى 30 طالبًا لعلوم القرآن الكريم، و30 طالبًا لعلوم الحديث، أي أن لدينا منشأة بها 460 طالبًا مقيمًا بشكل مستمر، إضافة للعاملين، حيث كان لكل مدرسة شيخًا، ومعيدين، وكان للمدرسة 32 مؤذنًا، ومداحًا، غير الفراشين والعمال، أي أن لدينا هيئة بكاملها تعمل على خدمة هؤلاء الطلاب، قد يقترب عددهم من مائة شخص آخر، بعضهم له أماكن إقامة، أي أننا نتحدث عن مؤسسة تضم بين جنباتها ما لا يقل عن 500 شخصًا مقيمًا، وهو ما يحتاج وبالتأكيد إلى خدمة طبية سواء طارئة أو دائمة.
ولهذا أنشأ السلطان أو ألحق بمدرسته بيمارستان «مستشفى»، وهذا البيمارستان قرر به السلطان حسن طبيبان وجراح، يمرون على الطلاب بشكل يومي، حيث يفحصون الطلاب في تخصصات الرمد والباطنة والجراحة، ومن يحتاج إلى إسعاف عاجل كان يتم إسعافه في غرفته أو في فصله الدراسي، ومن كانت حالته تستدعي الدخول إلى المستشفى كان يتم نقله إليها. 
إذًا فنحن أمام مستشفى تؤمن الرعاية الصحية والطبية للطلاب، وهي هنا على غرار المستشفيات الجامعية الحالية، ومن الممكن أن نتخيل أن تلك المستشفى كان لها دورًا في العملية التعليمية في مدرسة السلطان حسن، وهي كما قلنا جامعة كان فيها يتم تدريس المذاهب الأربعة المذهب الحنفي والشافعي والمالكي والحنبلي، وكذلك كان يتم تدريس علم التفسير وعلم الحديث وعلوم التاريخ والطب والهندسة والاجتماع والفلك، وبالتأكيد المستشفى تلك كان لها دورًا في تدريس الطب وعلومه المختلفة. 
والحقيقة أن مسألة التأمين الصحي أو الرعاية الطبية وتوفير تعليم مهنة الطب ليس جديدًا على المصريين فهم مبتكروا ذلك ومبتدعوه منذ عصور قدماء المصريين، فمثلًا يروي لنا الدكتور عبد الحليم نور الدين في كتابه آثار وحضارة مصر القديمة الجزء الثاني، أن المعابد المصرية القديمة كان ملحق بها مكان يقال له «بر عنخ» أي بيت الحياة، وكان هذا المكان يعتبر مؤسسة تعليمية، يتم فيها تدريس مجالات شتى وعلوم عديدة من بينها الطب، ووجدت مدارس الطب في معابد المدن الكبرى مثل تل بسطة في الشرقية وصا الحجر في الغربية وأبيدوس سوهاج وعين شمس القاهرة، وورد في بردية ايبرس أن كاهن الإلهة سخمت كان متمرسًا في الطب ووردت في هذه البردية مقولة تدلل أنها ما هي إلا نص دراسي ما حيث تقول البردية «إن الأصل في الطب هو القلب، وعندما تفحص «وهنا يعلم الطالب» أي عضو من أعضاء الجسد فإنك يجب أن تعلم عن القلب الكثير»
وفي سايس (صا الحجر) يقول كبير الأطباء «وجا حر سنب» أمرني جلالة الملك أن أعني بمدرسة الطب بكل فروعها وإننا يجب أن نختار أحسن الطلاب لدراسة هذا العلم وأن نمدهم بكافة احتياجاتهم. 
والحقيقة أن الالتحاق في مدارس الطب سواء عند قدماء المصريين أو في مدرسة السلطان حسن أو حاليًا في الجامعات المختلفة، يتطلب عدة شروط أولها، التفوق في مراحل التعليم السابقة، ثم غزارة معلوماته بشكل عام، وكان يشترط المصري القديم أن يكون الطالب من أسرة ميسورة الحال، وهو مالم تشترطه المدارس في العصر الإسلامي ولا في العصر الحديث، وذلك لارتفاع تكاليف دراسة ذلك العلم فالطب هي مهنة المهن وسيدتها وتعني بجسد الإنسان وحياته. 
ونجد أن الأطباء دائمًا درجات، فمثلًا في مصر القديمة نجد درجة الطبيب وكل مجموعة من الأطباء يعلوها كبير أطباء، ثم هناك المفتش وهو طبيب ذو خبرة يفتش على الجميع، ثم مدير الأطباء، وهو منصب قد يوازي نقيب الأطباء حاليًا، ووجدت نفس هذه الوظائف في البيمارستانات، المستشفيات، في العصر الإسلامي ولعل أبرزها بيمارستان السلطان قلاوون، والذي لم يقف عند تدريس الطب وفقط بل درس الصيدلة أيضًا.

التأمين الصحي
صنع السلطان الناصر قلاوون ما يشبه نظام التأمين الصحي الشامل في مستشفاه الذي أسسه والتي لازالت بقاياه موجودة في شارع المعز لدين الله الفاطمي، أمام قبة الصالح نجم الدين أيوب وضمن مجموعة السلطان قلاوون الشهيرة، حيث خُصص هذا البيمارستان وثيقة الإنشاء التي أمر بكتابتها السلطان، لعلاج «الملك والمملوك والجندي والأمير والصغير والكبير والحر والعبد والذكر والأنثى والأغنياء والفقراء والمحتاجين بالقاهرة ومصر وضواحيها من المقيمين بها والواردين إليهما من البلاد والأعمال على اختلاف أجناسهم وأوضاعهم وتباين أمراضهم سواء قلت أو كثرت وأمراض الحواس خفيت  أو ظهرت واختلال العقول التي حفظها من أعظم المقاصد. 
الحقيقة أن النص السابق وهو ما نقله لنا المقريزي عن وثيقة إنشاء بيمارستان السلطان قلاوون تدلنا على مدى العناية التي أولاها سلاطين مصر في هذا العصر للناحية الطبية، وكان كل ذلك يقدم بالمجان، مع توفير الدواء اللازم لكل حالة والملبس والمأكل والمشرب، بل كان المريض بعد أن يتعافى يحصل على قدر معين من المال يكفيه عدة أيام وهي فترة النقاهة لكيلا ينزل إلى عمله مباشرة، وفي هذا قمة الكفالة الاجتماعية من ناحية وتأمين حياة البشر من ناحية أخرى وهي تماثل الأنظمة الحديثة في التأمين على صحة البشر.

تصدير الطب
صدرت مصر علم الطب إلى العالم كله، بل وسجل العديد من الرحالة وأبرزهم أوليا جلبي، وجومار وغيرهم تفاصيل المستشفيات العامة التي أنشأها المصريون، وانتقلت تلك المستشفيات بنفس أقسامها إلى الغرب، حيث كانت تشتمل على قسم للرجال وآخر للنساء، وبها تخصصات الرمد والكسور والباطنة الجراحة والنفسية والعصبية، بل كان علاج النفسية والعصبية فيها بالموسيقى، ثم نقلوها إلى بلادهم.
وقعت مصر بعد ذلك رهنًا للاحتلال العثماني، فترة امتدت لما يقرب من 400 عامًا أو يقل قليلًا، ووقعت في هوة ثقافية أيضًا وتدهورت الحالة التعليمية في شدة حتى جاء محمد علي باشا والذي أنشأ أول مدرسة للطب في منطقة أبو زعبل عام 1827، والتي تعد أول مدرسة للطب الحديث في المنطقة العربية، وقد بنيت على مساحة أرض كبيرة وأحيطت بسور سميك وكان مكانها في الأصل  قوات الخيالة، وكان أول ناظر لها هو الطبيب الفرنسي "أنطوان كلوت" والمشهور بـ "كلوت بك"، وضمت المدرسة العديد من الأقسام العلمية الطبية، مثل الفيزياء والكيمياء والنبات والتشريح والفسيولوجيا وعلم الصحة وعلم السموم والمفردات الطبية والتشخيص المرضي الداخلي والخارجي، كما ضمت المدرسة بعد ذلك قسمًا للصيدلة عام 1830، ومدرسة للقابلات عام 1831م