مع وفرة الأطباء الذين يتسع لهم عالم نجيب محفوظ الروائى والقصصي، يمكن القول إن سرور عبد الباقي، فى "المرايا"، هو الأهم والأكثر حضورا وتأثيرا، ذلك أنه يقدم شهادة عميقة متكاملة الأبعاد عن الدور الذى يلعبه الطبيب فى الحياة المصرية من ناحية ويكشف عن مواقف ورؤى سياسية واجتماعية تتجاوز الانتماء المهنى من ناحية أخرى.
عندما ينتقل الراوى الطفل من حيه الشعبى العتيق إلى العباسية، تبدأ علاقات الصداقة الوثيقة مع مجموعة من الرفاق الذين يصاحبونه طيلة رحلة العمر، وعند أول سؤال يطرحه سرور على الوافد الجديد، يلاحظ الراوى أنه يختص بأدب رفيع يتميز به عن الآخرين، ومن بداية التعارف إلى نهاية الرحلة الروائية، يتشبث سرور بالمثالية التى لا تفارقه على الصعيدين النظرى والسلوكي.
فى طفولة سرور وصباه ما يكشف عن تدينه والتزامه الأخلاقى الصارم، فهو لا يجد ما يفسر به توتر العلاقة بين خليل زكى وأبيه إلا أن يقول:"إن الله سلط عليه أباه كما سلط الطوفان على آل نوح!".
ويأبى سرور إلا أن يؤكد على الانتقام الإلهى من قاتل الطلبة عشماوى جلال، فيزعم أنه فقد البصر وعجز عن الحركة:"وأنه يتكتم ذلك حتى لا يشمت الناس به".
إذ يغرق الراوى فى قصة حب جنونية مع صفاء الكاتب، ينصحه سرور بما يبرهن مجددا على طبيعة تكوينه العاقل الرزين:"لا تستسلم وإلا جننت كمجنون ليلى!".
هذا التطهر الأخلاقى المسرف فى المثالية لا ينسجم مع أفراد الشلة الأكثر تحررا، ويتجسد الخلاف فى صورة مشاجرة بين سرور و"الوقح" خليل زكى الذى لا يبدى اهتماما بالغناء، لكنه يرفض ما يذهب إليه سرور من أن صوت المطربة "الجديدة" أم كلثوم أحلى من صوت منيرة المهدية، وينتهره بوقاحته المعهودة:
"- لا تردد آراء أمك بيننا!
وغضب سرور عبدالباقى وصاح به:
- لا شأن لك بأمى يا قليل الأدب.
وجاء الرد فى صورة لطمة، ثم اشتبكا فى معركة حتى فصلنا بينهما".
بسبب تطرف سرور فى المثالية الأخلاقية المتزمتة، توشك شلة الأصدقاء على القطيعة والانقسام المبكر، فهو يطالب بالتزام الأدب فى السلوك والكلام:
"- يا جماعة.. يجب ألا تتردد بيننا كلمة بذيئة وأن نتعامل باحترام.
وفى الحال شخر خليل زكى وسيد شعير فى وقت واحد تقريبا، فعاد سرور يقول:
- وإلا سأضطر مقاطعتكم!".
يتدخل الراوى بجزع يكشف عن حبه لسرور وتمسكه ببقائه معهم:
"- اقترح ما تشاء ولكن لا تفكر فى المقاطعة..
وقال رضا حمادة:
- كلامه يستحق التقدير!
فقال جعفر خليل:
- البذاءة فى الكلام كالملح فى الطعام.
وقال عيد منصور:
- يا جماعة أنا لا أستطيع أن أذكر والد أحدكم أو أمه إلا إذا قرنته بالسب المناسب.
وقال شعراوى الفحام محذرا:
- يا جماعة إذا خلت اجتماعاتنا من قلة الأدب فقل عليها السلام!
وتداولنا فى الأمر باهتمام جدى ثم تم الاتفاق على مواصلة المعاملة الحرة فيما بيننا مع استثناء سرور عبدالباقى فيُعامل معاملة مؤدبة خاصة".
رد الفعل الفورى من خليل وسيد على اقترح سرور ينم عن الاختلاف والتفاوت بين أفراد المجموعة، وجزع الراوى يكشف عن التمسك بصداقة سرور، والاستثناء الذى يحظى به يعبر عن خصوصيته التى لا يملك الآخرون إهدارها وتجاوزها.
منذ البدء تتميز شخصيته بالنزعة الأخلاقية المتطهرة، والبحث عن مكونات الشخصية يقود بالضرورة إلى أسرته وأسلوب تربيته:"كان أبوه محاميا ذا شهرة ومال، وكانت أمه قوية الشخصية تحكم بيتها بسيطرة لا تُقاوم يخضع لها الأب والابن والبنتان. وكانت بخيلة فيما بدا. تساوم الباعة المتجولين بلا رحمة، ومن أجل مليم واحد تلغى صفقة، وتزن مشترياتها فى ميزان خاص ابتاعته لذلك. وظهر أثر ذلك كله فى سلوك سرور بيننا بالتهذيب والأدب والاقتصاد. وكانت علاقته بنا ذات نوع خاص، فهو لا يفارقنا، وهو لا يندمج فينا، ويتجنب مشاركتنا فى مزاحنا الطليق ونكاتنا اللاأخلاقية".
الأم الصارمة قوية الشخصية هى صاحبة الدور الأكبر فى تشكيل ملامح شخصية سرور، وهى المسئولة عن سلوكه المختلف مقارنة بأبناء جيله من شلة الأصدقاء الذين يحتاجونه بقدر ما يختلفون عنه.
رغم اجتهاد سرور وجديته فى الدراسة، فإن ذكاءه يبدو موضع شك عند أقرانه:"كان تلميذا مجتهدا، ولكن نجاحه كان دائما دون اجتهاده، والحق لم نكن نؤمن بذكائه!".
يختلف عنهم أيضا فى الانصراف الكامل عن الاهتمام بالسياسة والزهد فى الثقافة:"والأوقات التى كنا نخصصها للقراءة كان يقضيها فى حديقة بيته ممارسا هوايته فى رعاية الزهور أو رفع الأثقال".
دراسة الطب هى طموح سرور منذ البدء، لكنه لا يحصل على مجموع يؤهله للالتحاق بكلية الطب:"ولذلك أقنع والديه بوجوب الالتحاق بكلية الطب فى لندن، وكان المتبع أن تقبل الكلية المصرية الطالب إذا نجح عامين فى إنجلترا، وسافر إلى إنجلترا فدرس الطب عامين بنجاح ثم رجع إلى مصر فالتحق بكلية الطب".
مثلما يفرض سرور على أصدقائه معاملته بشكل مختلف، فإنه يفرض على أسرته أن تحقق حلمه. الإصرار إذن مفتاح مهم فى شخصية سرور الذى يفرض بدأبه وإرادته القوية ما يريد، وهو الإصرار نفسه الذى يتيح له أن ينجح فى إنجلترا بعد الفشل فى مصر، ويثير هذا النجاح مناقشة دالة بين أفراد الشلة، تلقى مزيدا من الضوء على شخصية سرور من ناحية وعلى النظام التعليمى فى مصر من ناحية أخرى. يقول رضا حمادة:
"- ليس سرور غبيا كما توهمنا وإلا ما نجح فى إنجلترا!
ويضيف عيد منصور:
- وليس نظام القبول بكلية الطب المصرية سليما كما يُظن.
ويقول جعفر خليل:
- وليست الفرص متكافئة بين الأغنياء والفقراء!".
الشكوك تتبدد حول ذكاء سرور، لكن الهواجس تتجلى بوضح حول نظم القبول بالجامعة المصرية ومدى العدالة المتوفرة فيها!.
يتخرج سرور عبدالباقى فى الكلية عام ١٩٣٦، ويتزوج بعد أربعة أعوام من فتاة تنتمى إلى أسرة كبيرة، ويتقدم فى عمله عاما بعد عام حتى يُعد من كبار الجراحين فى مصر. يربح أموالا طائلة فيشيد عمارة كبيرة فى وسط البلد، ويبنى فيلا بالمعادى:"ولم يتخل يوما عن مبادئه الأخلاقية وإنسانيته كما عُرف ببراعته. وهو طبيب مثالي، مهارة فى العمل، وغزارة فى العلم، ورحمة بالمرضى، وبعدا عن الجشع والاستغلال. وهو محبوب جدا من طلابه، وكثيرا ما خاض معارك حادة فى مجلس الكلية بسبب مثليته التى لا تعرف المهادنة".
جراح ناجح، وزوج سعيد، وأستاذ جامعى مرموق، ومبادىء أخلاقية سامية، وشعبية تنبع من مثاليته ومهارته ورحمته؛ لكن ذلك كله لا ينفى أنه يبقى بعيدا عن المجتمع، منعزلا عن الواقع، منصرفا عن الاهتمام بالثقافة والسياسة:"ورغم علمه الواسع وتجربته الفذة ظل طفلا ساذجا بالنسبة للثقافة والعقائد السياسية ولم ينعم بأى نظرة شمولية للمجتمع الذى يتألق فيه كنجم من نجومه".
مع ثورة يوليو يهتز الاستقرار ويدب القلق. تسلب الثورة من ملكية أسرة زوجته خمسمائة فدان بجرة قلم، ويسلب العهد الجديد حقه فى عمادة كلية الطب، وهو الأكفأ والأحق بالمنصب. تمتلئ نفسه بالمرارة، ويقول لصديقه الراوي:
"- فكرت طويلا فى الاستقالة للتفرغ لعيادتى الخاصة.
ثم يقول بإخلاص يقدره الراوى ويؤمن به:
- ولكنى لا أحب أن أتخلى عن واجبى العلمي!".
لا يستقيل سرور من عمله الجامعي، لكنه يتخلى عن عزلته ويراقب تطور المجتمع الذى لم يهتم به يوما. بعد صفقة السلاح مع تشيكوسلوفاكيا، يجزع سرور ويقول مسكونا بالرعب:"هذه هى الخطوة الأولى نحو الشيوعية!".
وبعد فشل العدوان الثلاثي، يصر الدكتور سرور أن ينسب الفضل كله إلى الولايات المتحدة الأمريكية دون الاتحاد السوفيتي، ويجاهر بالدعوة إلى مصادقة أمريكا والسير فى ركابها:"يحسن بنا ألا نفرط فى الصداقة الأمريكية بعد اليوم".
أما القوانين الاشتراكية فإنها تصيبه بالرعب، حتى أن زوجه تنصحه بالهجرة!، وثمة حوار دال بين سرور والراوى يكشف عن رؤيته المحافظة المعادية للاشتراكية وثورة يوليو معا، فهو يقول:"الاشتراكية تعبير عن الحقد على المتفوقين.. وقد استولى حكامنا على السلطة بقوة السلاح لا العلم".
وإذ يسأله الراوي:
"- وما رأيك فى مشكلة الفقر فى مصر؟
يجيب بسذاجة:
- كل يتقرر موضعه على قدر طاقته وتلك هى حكمة الله سبحانه!".
الانحياز للولايات المتحدة مبرر منطقى لأسباب اقتصادية واجتماعية وأيديولوجية، والعداء لثورة يوليو يتوافق مع رجل لا يرى إلا نفسه ويرفض الانفتاح على الآخرين والإحساس بهمومهم. لا تناقض بين مواقفه هذه وأخلاقياته السامية، فهو مخلص فيما يعتنقه من أفكار، وسذاجته -وفق تعبير الراوي- ليست إلا الترجمة الأمينة لمنظومة فكرية متكاملة.
لا يخفى الراوى جزعه لما يأنس فى صديقه المثالى من نبرة شماتة فى أعقاب هزيمة ١٩٦٧: "وشد ما جزعت عندما أنست فى نبرته شماتة عقب هزيمة ٥ يونيه ١٩٦٧.. عندما لم يحسن مدارة فرحته بما ظنه النجاة".
لا ينكر الراوى مثالية سرور على الصعيدين الإنسانى والمهني، هى مثالية جديرة بالاحترام والتقدير، لكن المصالح الاجتماعية والاقتصادية تلعب دورا مهما فى صناعة الوعى الطبقى الذى لا شأن له بالسلوك الفردى والالتزام الأخلاقي.