فيلم "الدكتور" محاولة مبكرة ناضجة للكشف عن تردى الخدمات الطبية فى الريف المصرى قبل ثورة 23 يوليو
يعود تاريخ إنتاج فيلم "الدكتور" إلى سنة ١٩٣٩، ومخرجه هو نيازى مصطفى، ورغم ظهور الفيلم فى فترة تاريخية مبكرة، ورغم اقتران اسم المخرج بنوعية معينة من الأفلام التى لا تهتم كثيرا بالقضايا الاجتماعية والسياسية الجادة، فإن الفيلم يمثل أهمية كبيرة فى تاريخ مخرجه، وفى تاريخ السينما المصرية بوجه عام، وفى قائمة الأفلام التى تهتم بالفلاح وهمومه على وجه الخصوص.
ينتمى بطل الفيلم، حلمي، إلى أسرة ريفية متوسطة توفر له فرصة دراسة الطب فى المملكة المتحدة، ويعود طبيبا مرموقا يحصل بفضل نبوغه وتفوقه على درجة البكوية، وينفتح الباب أمامه واسعا لصعود طبقى لا تحده حدود.
هذا النجاح اللافت لا يفضى إلى الانفصال والقطيعة بين الطبيب وواقع الحياة الريفية التى يدرك بحكم نشأته وتخصصه مدى ما تعانيه من ظلم وغبن وقصور حاد فى الخدمات الطبية، أو كما يقول مجسدا إحساسه بالمشكلة ووعيه بأبعادها:"الجهل مضيعهم.. دول أهلى وعشيرتي.. اللى ما لوش خير فى أهله مالوش خير فى حد".
محاولة الدكتور حلمى للزواج من إحسان، ابنة الطبقة الأرستقراطية، بعد نجاحه فى علاج أبيها الباشا، وارتباطهما العاطفى خلال فترة العلاج، تصطدم بتأفف هذه الطبقة الراقية من الفلاحين وعالمهم القذر الذى يثير الغثيان من منظور طبقى متطرف فى الغطرسة والتعالي.
فى زيارة الأسرة الأرستقراطية لعزبة الدكتور، يحدث ما يؤكد التباين الكبير بين زوجة الباشا المتسلطة التى تعلن فى صراحة جارحة:"أنا ما بحبش الريف"، وبين الطبيب المنتمى الذى يظهر اهتماما حانيا بطفلة ريفية يتجمع الذباب حول عينيها، ويمنح أمها بطاقة توصية لعلاج الابنة المريضة فى المستشفى.
فشل الزواج يدفع الدكتور حلمى إلى مزيد من التمسك بالقرية والفلاحين التعساء المرضى، بل إنه يقرر الانتقال من العاصمة التى يحقق فيها النجاح والشهرة، ليمارس العمل فى المستشفى التى يبنيها فى قريته لعلاج الفلاحين المسكونين بشتى الأمراض، وهى مستشفى مجهزة بأحدث الآلات والأجهزة المتقدمة.
بعيدًا عن النهاية السعيدة للفيلم، وهى نهاية تصل ما انقطع من علاقة عاطفية، فإن القراءة التحليلية لأحداث الفيلم ورؤيته تقود إلى عدة ملاحظات مهمة:
أولا: فيلم "الدكتور" محاولة مبكرة ناضجة للكشف عن تردى الخدمات الطبية فى الريف المصرى قبل ثورة ٢٣ يوليو، وهى محاولة تؤكد على احتياج الفلاحين قليلى الوعى وكثيرى الأمراض إلى خدمة طبية أفضل.
ثانيا: يقدم الفيلم نموذجا فريدا لطبيب مثالى ينتمى إلى أعيان الريف، ويتمسك بأصوله القروية، ويتفانى فى خدمة الفلاحين الفقراء عن وعى يمتزج فيه التعاطف الإنسانى ذى النزعة الأخلاقية بالرؤية العلمية الموضوعية.
ثالثا: يكشف الفيلم عن الغياب شبه الكامل للمؤسسة الطبية الرسمية عن عالم القرية فى المرحلة التاريخية التى تدور فيها الأحداث، ثلاثينيات القرن العشرين، كما يؤكد سيادة الخدمة الطبية الخاصة.
رابعا: رغم الدفاع المخلص الصادق عن الفلاح طوال أحداث الفيلم، والإدراك الواعى لما يعانيه من تدهور صحي، فإن البطولة الحقيقية تبتعد عن جماهير الفلاحين الذين يقفون بعيدا عن ساحة الصراع الأساس الذى يدور فوقيا بين الأرستقراطية المتعالية وقطاع من ملاك الريف الأكثر تعاطفا وتفهما.
خامسا: إذا كان الدكتور حلمى المنتمى المتعاطف الناجح علميا من حيث مستوى الأداء المهني، فإن طلب الطب ابن الطبقة الأرستقراطية يبدو فاشلا فى علمه، مدانا بالدرجة نفسها التى يدين بها الفيلم طبقته، وليس أدل على جهله الذى يستحق السخرية من الطريقة الهزلية التى يشخص بها مرض خاله الباشا:"متهيئ لى إن عنده سيكا سيمبا سيتكوس!".
الطبقة كلها، من منظور الفيلم، فاشلة مدانة، فى الوطنية والكفاءة المهنية معا.
الفيلم محاولة سينمائية رائدة فى الرؤية والوعي، أما المعالجة الأنضج والأشمل والأعمق فنجدها فى فيلم "صراع الأبطال"، الذى يقدمه توفيق صالح سنة ١٩٦٢.
*صراع الأبطال*
المرحلة التاريخية التى تدور فيها أحداث الفيلم هى نهاية الأربعينيات، ويختار شكرى أن يمارس مهنة الطب فى القرية مديرا ظهره للمدينة، وهو اختيار نابع من وعى موضوعى وليس تعبيرا عن نزعة ذاتية مزاجية.
فى القرية التى يختارها للعمل، يسود الإقطاع ويتحكم فى مواجهة جماهير الفلاحين الكادحين الذين يعانون من الفقر والجهل والمرض. من المنطقى أن تنحاز مؤسسات السلطة جميعا إلى الطبقة الاجتماعية المهيمنة، والطبيب العجوز مفتش الصحة، مازن، خادم مطيع منفذ لرغبات ساكنى القصر، ومن هنا اصطدامه بالطبيب الثورى المتحمس، وفى المواجهة أيضا داية القرية أم هلال التى تمثل الطب الشعبى المتسم بالجهل والشعوذة والاستغلال الجشع.
يعتمد فلاحو القرية فى غذائهم على فضلات وبقايا المعسكر الإنجليزى الذى يقع قريبا من القرية، ومن هذا الطعام الملوث يتولد وباء الكوليرا الذى يحذر منه شكرى ويسفهه الجميع، حتى تثبت التحاليل التى تتم فى العاصمة صدق الطبيب المخلص وتعلن القرية منطقة وباء، ليبدأ الصراع الإنسانى ضد المرض؛ الصراع الذى لا يحول دون رغبة الإقطاع فى امتصاص القليل الذى يتبقى من دماء الفلاحين المحاصرين بالموت.
ثمة ملاحظات ينبغى أن تُقال حول درجة نجاح الفيلم فى التعبير عن علاقة الفلاح المصرى بالمؤسسة الطبية فى مرحلة الأربعينيات.
أول هذه الملاحظات يتعلق باستمرار العلاج، أو اللاعلاج، الشعبى الذى يعتمد على الجهلاء من الدايات والحلاقين، و"أم هلال" كما يقدمها الفيلم هى نموذج الطب التقليدى الجاهل الذى يمتلك سطوة ونفوذا، ويمارس دورا خطيرا فى الحد من انتشار الطب العصرى فى بيئة متخلفة. تعى أم هلال أن الطبيب الشاب يهدد قواعدها الاقتصادية والاجتماعية الراسخة بخلاف الطبيب مازن الذى لا يندمج فى مجتمع الفلاحين ولا يتحمس لخدمتهم، ومن هنا تشن حربا دعائية شعواء ضد شكري، بل إنها لا تتورع عن التهديد السافر الذى ينم عن إحساسها بالقوة:"وحق مين رماك فى سكتى يا دكتور الغبرا.. لأوحل السكك تحت رجليك".
لكن هذه الدجالة الخبيثة المدعية لا تلبث أن تقر بعلم الدكتور شكرى وتستنجد به عندما يُصاب ابنها هلال وتعجز بطبيعة الحال عن علاجه، وبهذا الاستسلام ينتصر الفيلم للعلم الطبى الصحيح ويدين الدجل والخرافة والشعوذة.
تتعلق الملاحظة الثانية بالطبيب التقليدى مازن، وهو نموذج يجسد الضد تماما لما يعبر عنه شكرى من وعى برسالة الطب ودور الطبيب فى خدمة الفلاحين. لا يجد مازن حرجا فى توصيف حالة الفلاح سويلم بالجنون، رغم إدراكه أن تهمته الحقيقية اجتماعية سياسية تتمثل فى معارضة الهيمنة الإقطاعية، وليس فيه من أمراض إلا سوء التغذية، ولا يتورع مازن أيضا عن تسفيه شكرى والتهوين من شأنه إلى الدرجة التى يقول فيها ساخرا:"ما حدش بيموت من الجوع.. الناس بتموت من جهل الدكاترة".
مثلما تتعرض أم هلال للهزيمة الساحقة فتلجأ إلى شكرى مقرة بعلمه، يتراجع الدكتور مازن هو الآخر معترفا بتفوق من كان يهاجمه، معتذرا عن آرائه السلبية السابقة:"متأسف يا ابني.. يظهر إنى عجزت".
الملاحظة الثالثة حول الدكتور شكرى نفسه، ذلك أن الفيلم يقدمه كبطل إنسانى بلا مثالب أو عيوب، وهو فى ذلك لا يختلف كثيرا عن حلمى فى فيلم "الدكتور"، مع تباين فى درجة الوعى لصالح شكرى الذى لا يؤدى رسالة طبية إنسانية فحسب، لكنه أيضا يقوم بواجب ثوري، ومثل هذا الوعى يتناسب مع شراسة المواجهة الطبقية التى يقدمها توفيق صالح. إذا كان فيلم "الدكتور" يقدم الأرستقراطية "الخائبة" المتعالية، فإن "صراع الأبطال" يقدم إقطاعا شرها لا يستحق السخرية والإدانة الرومانسية الأخلاقية بقدر ما يستدعى المقاومة الواعية، ذلك أن أمراض الفلاحين تمثل مكسبا ماديا لا يعبأ بحياة البشر ويستهين بعللهم، فالسر فى الوباء يكمن فى "الرابش" الذى تجلبه المالكة الإقطاعية من معسكرات الإنجليز ويمثل بديلا لأجر يومين فى الأسبوع، فهى لا تمنح الفلاحين العاملين فى أرضها إلا أجر خمسة أيام، وتعتبر الطعام الملوث الذى تحصل عليه مجانا أجرا ليومى عمل.
هؤلاء الإقطاعيون الشرسون لا تروعهم الكوليرا ولا يفزعهم الموت، وجيهان هانم لا تنشغل إلا بالمحصول الذى يحتاج إلى قوة عمل الفلاحين، وفى سبيل قوة العمل هذه لا تبالى بالعاملين أنفسهم، ولا تتورع عن التشكيك فى جدوى وفائدة التطعيم ضد الوباء:"ها تموتوا من الإبر اللى بتاخدوها.. عايزين يدفنوكوا بالحيا".
المصلحة الاقتصادية هى الأهم، وفى سبيلها تُداس أرواح الفلاحين ولا توضع فى الاعتبار.
الملاحظة الأخيرة تتعلق بجماهير الفلاحين أنفسهم. يدرك توفيق صالح أن الانحياز الموضوعى للفلاحين لا يعنى الرومانسية الساذجة التى تعلى من شأن الرؤية العاطفية، لذلك ينطلق الفيلم من فكرة التسليم بسيادة الجهل والمرض والفقر، والفلاح هو الذى يدفع ثمن سيطرة هذا الثالوث على حياته. من المبرر إذن أن يكون الفلاحون قليلى الوعى ضعيفى الاستجابة للفكر الجديد، وأكثر تأثرا بما يردده الأعداء الطبقيون أصحاب المصلحة فى إبقاء الأوضاع دون تغيير. الدكتور شكرى فى تعاطفه وانتمائه لا يغفل واقع من يتعاطف معهم وينتمى إليهم:"أنا منهم.. اتعلمت بدالهم علشان كده قلبى عليهم".
إنه طليعتهم إذن، ومن صفات الطليعى الثورى أن يتعاطف بوعى دون إغراق فى العاطفية الإنشائية، ولا يتأثر التعاطف بممارسات الفلاحين التى تعكس جهلهم. قد ينساقون وراء أم هلال ودعايتها المغرضة، وقد يلقون بآذانهم إلى الطبيب المغرض المتواطىء مع السلطة الاجتماعية الحاكمة، وقد يثورون ضد انتهاك شكرى لحرمة الموتى كما يصورون لهم بحثه عن دليل مادى يبرهن على وجود الوباء؛ لكن هذا كله لا يغير من صلابة شكرى ولا يخدش انتماءه الراسخ الأصيل.