الأخبار والحقيقة ليست شيئًا واحدًا
وصف الكاتب الأمريكي والتر ليبمان "Walter Lippman" في كتابه الرأي العام طريقة تكوين المفاهيم التي يمتلكها معظم الناس حول الوقائع والأحداث سواء في مجتمعهم أو في خارجه، فيقول: (كل واحد منا يعيش ويعمل في جزء صغير من سطح الأرض، ويتحرك ضمن دائرة صغيرة.. أما أفكارنا فهي تغطي حتمًا مساحة أكبر، ومدة من الزمن أطول، وعددًا من الأشياء أكبر، وهو أكبر مما نستطيع ملاحظته مباشرة)، وغالبًا ما نلجأ إلى آخرين من مجموعتنا يفترض أنهم يعلمون ما يحدث من الأمور والأحداث، والمصدر الأساسي الذي يعطينا هؤلاء "الخبراء" - من موظفين حكوميين، وسياسيين، وحكماء، وأكاديميين، وأحيانًا مسؤولين دينيين – هو وسائل الإعلام بأنواعها المختلفة، ومع ذلك – كما قال لنا ليبمان – (الأخبار والحقيقة ليست شيئًا واحدًا)، وأحد أسباب الاختلاف بينهما هو أن الأخبار تُصفى من خلال عقول هؤلاء "الخبراء الذين يملكون المعرفة" وموجهيهم الإعلاميين، وهؤلاء الخبراء كما يقول المنظر القانوني ريتشارد بوسنر "Richard Posner" (يمثّلون طبقة متميزة في المجتمع، تتمتع بقيم وآراء تختلف منهجيًا عن تلك التي لدى الناس العاديين)، وغالبًا ما يكون الإرشاد الذي يقدمه هؤلاء "الخبراء" مبنيًا على إلحاح مصالحهم، بعبارة أخرى فإن أولئك المرشدين المعتمدين سوف تكون لديهم "صور في رؤوسهم" متأثرة بمصالحهم المكتسبة، وغالبًا ما تتكون هذه المصالح بفضل انتماءاتهم الأيديولوجية والدينية والسياسية الشخصية، وأيضًا بفضل المنافذ الإعلامية التي تساعدهم على نشر رسالتهم، وهذا يقودهم حتمًا إلى تقديم صور متحيزة أو متماثلة للأحداث، ولا فرق بين كون بعضهم أو معظمهم يؤمنون حقًا بأن مواقفهم وآرائهم تعكس الحقيقة.
ويتلاءم ذلك مع ما ذكره كل من نعوم تشومسكي "Noam Chomsky" وإدوارد هيرمان "Edward Herman" في كتابهما صناعة الإجماع "Manufacturing Consent" الذي طرحا فيه مسألة "نموذج دعاية" لوصف وسائل الإعلام التي "تصفي" الأخبار، وتعتمد على المعلومات التي تزودها بها الحكومة، ورجال الأعمال، والخبراء الممولون والمعتمدون من قبل هذه المصادر، ومن قبل ممثلي السلطة، إن مثل هذه الحالات هي التي تسفر عن إجماع في الرأي على جميع القضايا تقريبًا، بالإضافة إلى ميل وسائل الإعلام إلى تناول الأخبار بطريقة ميَّالة إلى دعم النخبة القوية سواء سياسيًا أو اقتصاديًا.
كذلك لا يمكن إغفال استغلال العواطف الثابتة في تكوين الأفكار وما يترتب عليها من مواقف، فعلى الرغم من أننا "نحن البشر" نفتخر بكوننا ذوي "إرادة حرة"، فإننا في الحقيقة ناقلون لمجموعة من العواطف التي تكوَّنت خلال الأجيال، ووفقًا لعالمة النفس المعرفي كيت أوتلي فإن إحدى نتائج هذه الحقيقة الأزلية هي أنه: (يمكن للعواطف أن تقود الأفكار بطريقة لا إرادية، وأن تكون حافزًا للسلوك). إن العواطف التي تعكس الحاجات والغرائز البدائية يمكن تسخيرها إراديًا من خلال استخدام المثيرات العاطفية لإنتاج الفكر الجماعي "Thought Collective" أو الجماعية الفكرية، التي تكتسب قوة إضافية من حقيقة أن معظم الناس يكونون آراءهم بما يتوافق مع من حولهم، ويرغب معظم الناس بالتوافق مع المجتمع، وبالتأكيد فإن هذا يقتل ما يسمى "بالتفكير الناقد" في المجتمع ويخلق أحادية فكرية.
يقول أستاذ علم النفس دانييل ويلنغهام "Daniel T-Willingham" للإجابة عن سؤال كيف يمكن أن تخلق في المجتمع تفكيرًا ناقدًا باعتباره أحد أم آليات العلم والتقدم؟: إن التفكير الناقد ليس مهارة يمكن تعليمها مثل ركوب الدراجة، إن عمليات التفكير متداخلة مع مضمون الفكر أي أنها متداخلة مع ما يسمى مجال المعرفة، وهكذا فإنك إذا طلبت من متعلم أن ينظر إلى مسألة ما من خلال وجهات متعددة كافية، فإنه سيتعلم أن عليه ممارسة التفكير الناقد لتقييم وجهات النظر المختلفة، إن التفكير والخطابات الناقدة تعتمد على مجال المعرفة ومدى وجود التنوع والتعددية الفكرية.
وتنزع الأنظمة الرجعية إلى آلية الجماعية الفكرية فهي تسعى إلى محو الفوارق بين الأفراد، وإلى صب المواطنين جميعًا في قالب واحد، وتوحيد الفكر والعلم بل والعواطف والمشاعر، وذلك لأن الأفراد الذين يفكرون على نمط واحد ويسلكون مسلكًا واحدًا أسلس من غيرهم قيادًا، وما أيسر أن تتحكم في قطيع من الغنم أو تتأمر على شعب كالآلات التي لا تملك لنفسها إرادة، وما أشق أن تتزعم ناسًا يختلفون فكرًا ومنازع وميولًا، ولذلك تعمل الرجعية على توحيد الفكر لأنها لا تنجح إلا إذا كانت تلبية الأفراد جميعًا واحدة للمطلب الواحد، والمعروف أن الإنسان الساذج لا يستطيع أن يشذ عن جمهرة الشعب في رأي أو عاطفة، وإنما جل همه أن يفعل ما يفعله الكثرة الكاثرة من الناس، ولذلك تعمل الرجعية على بقاء الأفراد في مستوى علمي وفكري وضيع وعلى احتفاظهم بغريزة القطيع، وتقتل ملكة النقد عندهم، ومن ثم تؤثر فيهم عن طريق الدعاية والإعلام لأن الجمهور إذا فقد ملكة النقد لا يستطيع أن يميز بين الحق والباطل، ولا تأبه هذه الرجعية بهذا الهبوط في رأي وفكر الجماهير لأنها تعتقد أن الفرد ينبغي أن لا يفكر لنفسه، وإنما ذلك واجب النظام الذي يدبر له كل شيء.
وهذه النزعة الرجعية لا تبني حضارة ولا تساعد على تقدم الأمم، لأن الناس كلما صعدوا في سلم التقدم والحضارة ظهر بينهم التنوع والاختلاف، فلا فرق بين الحضري والوحشي في رغبته في الطعام أو حبه للشهوة، أو الميل إلى العنف والشدة عند الغضب، وإنما يظهر الفرق بينهما في تلبيتهما للموسيقى والشعر أو الجدل الفلسفي، فبينا ترى أحدهما يستمتع بها ويستمرئها، إذا بالآخر لا يكاد يحسها أو يدركها، الإنسان المتحضر لا يختلف عن ملايين البشر في رغباته وميوله التي تنبعث عن معدته أو غدده أو قلبه، وإنما يشتد الخلاف بينه وبين غيره في كل ما يصدر عن التشوف والتطلع العقلي.
وكما تقتل الرجعية الفكر، فهي تقتل الفنون والآداب أيضًا، إن الفنون والآداب لا تزهر إلا في جو الحرية الطليق لأنها تعبر عن الفكر المجرد، وهي لا تخضع لقانون، ولا تسير على قاعدة، بينما تريد الرجعية أن تخضعها لها ولمصلحتها، يقول نابليون: (لقد نمى إليّ أن فرنسا اليوم ليس فيها أدب أو فن، وسأتحدث إلى وزير الداخلية في هذا الأمر) كأن الفنون والآداب شأن من شؤون الدولة تخلقها حينما تريد، وتخنقها حينما تشاء، إن الرجعية لا تخلق الروح الإنسانية، والاضطهاد لا يميتها. تستطيع أن تطلب إلى الشاعر أن يخرج لك كل يوم أو كل أسبوع قصيدة، وسيكون لك ما تريد، ولكنك لن تظفر منه بالشعر الحي والفن الرفيع، وذلك لأن الرجعية تحد الروح الإنساني بحدود السياسة، وتبعد من النابهين كل من لا يطفو على تيارها، ولا تقرب إليها إلا من يؤيدها ويشد أزرها، فهي دائمًا عدوة للعبقرية، لأن العبقري يسير كما يرسم له نبوغه وهواه، لا كما ترسم له الدولة والولاة.
إن الأنظمة الديمقراطية الحديثة التي تحكم بإرادة الشعب لا تخشى تثقيف العامة وتعويدهما حرية الفكر، بل إنها ليشتد أزرها ويقوي جانبها كلما تهذب أفراد الشعب وزادت كفاءتهم، ومن ثم كانت الديموقراطية والتربية الصحيحة متلازمتين، لأن التعليم القويم دعامة الديمقراطية التي ترتكز عليها، فبينما لا تزدهر الرجعية إلا إذا انحط مستوى الجماعة لا تترعرع الديمقراطية إلا إذا ارتفع مستوى الفكر.