محمود حامد مثل خبيئة تجمع بين ملوحة البحر وعذوبة النهر، الرابضة فى عمق الجنوب القوصى ترتوى من عبق الحضارات الفرعونية والبيزنطية واليونانية، تفيض ضحكتة مثل موج النيل «الصدبق مسمى لشخص معك فى كل الظروف وليس حسب الظروف».
مر من عمرى ٧٠ عامًا تمتد من طفولتى حتى شيخوختي، وصدق أو لا تصدق أن هناك صداقة قضيت فيها ٤٧ سنة أى ٦٧٪ من العمر، تلك رفقتى وصداقتى للأستاذ محمود حامد، أو كما يقول الشاعر محمود درويش: «لم يعد هنالك وقت لننسى الألم، كبرنا فجأة والعمر مرّ سريعًا».
الكاتب الصحفى والباحث الرصين محمود حامد زهرة من زهور العمر يفوح عبيرها الطيب فى ثنايا الوطن وتفاصيله، تاريخ من العطاء دون مقابل للوطن والتجمع والصحافة والبوابة والأصدقاء والتلاميذ، ليبقى الرصيد الزاخر بمحبة القلوب وتراث محمل بعوامل الرفعة والمهنية والموضوعية والتجرد، كل سنة وحضرتك طيب وبخير وعمر مديد ملؤه الصحة والسعادة والتألق.
فى الدور التاسع مقر الاتحاد الاشتراكى القديم على النيل كان اللقاء الأول أبريل ١٩٧٦، شاب طويل ونحيل يحمل جمجمة فرعونية ذات عينين واسعتين مثل وجوه الفيوم وسحنة وصرية تجمع ما بين أعالى البحر فى العريش وعمق النهر فى قوص، تعارفنا فى مقر منبر اليسار حينذاك، ساعات اكتشفت الخبيئة التى تجمع بين ملوحة البحر وعذوبة النهر، الرابضة فى عمق الجنوب القوصى ترتوى من عبق الحضارات الفرعونية والبيزنطية واليونانية، تفيض ضحكته مثل موج النيل، والشفتان شاطئان، والأسنان صخور تتوسطهما، تصطدم بهما ضحكاتة فتعود كلماته إلى شط الحديث، عيناه منيرتان واسعتان كقنديلين من قناديل مصر القبطية، ينيران حوارنا.. لن تصدقونى إن قلت إننى لا أتذكر من حوارنا الأول الذى امتد لساعات سوى ضحكات من القلب، ونقاء روحى، من شاب قادم إلى المنبر من مجلة صباح الخير وروز اليوسف، من هنا كانت البداية التى امتدت من المنبر ١٩٧٦ حتى البوابة ٢٠٢٣.
لم يكن هناك من محترفين فى مقر الحزب سوى أنا ومحمود، وكان الحزب هو المنبر الذى يعلن من فوقه صرخته الأولى نحو الحرية والاشتراكية والوحدة، ومن معركة لأخرى استقت رفاقتنا بطعم النضال مع الزعيم خالد محى الدين والمفكر رفعت السعيد، ولن أنسى أول رفقتى الصحفية مع الزميل محمود حامد.
حيث كتبنا أول أخبار صحفية فى نشرة «التقدم» التى كانت لسان حال منبر اليسار، والتى كان يرأس تحريرها نقيب النقباء حسين فهمي، وأذكر محمود حامد فى يونيو ١٩٧٦ وهو يحمل مع البطل كمال رفعت أول عدد من التقدم نحو مقر المنبر، وكيف امتد علينا قهر السادات ولم يبق سوانا أنا ومحمود، وينتقل المقر إلى المقر الحالى فى طلعت حرب ويلقى السادات القبض على الآلاف من زعضاء الحزب.
لذلك فى عيد ميلاده الذى يتزامن مع الذكرى ٤٧ لتأسيس «التجمع» والعاشرة من تأسيس «البوابة نيوز» لابد أن نتوقف أمام أحد أعمدة الإدارة السياسية بدأ من المنبر وحتى الحزب كنت معه أول المتفرغين فى الدور التاسع بمقر الاتحاد الاشتراكى على الكورنيش.. دينامو وكاتم أسرار وأول سكرتير تحرير لنشرة التقدم لسان حال الحزب قبل صدور الأهالى والبديل عنها فترة مصادرتها وبعد أن انتقلنا لمقر طلعت حرب أستطيع أن أشهد أن بصمات حامد فى كل مكان بالمقر وكان أول مسئول لشئون المقر والمشرف على المطبعة، وفى كل مرة هاجم الأمن المقر وأغلقة كان حامد يسرع لمكتب الأستاذ شحاتة هارون المحامى ويكتبان بيانًا ويوزعانه على كل الوكالات ويفتح المقر من جديد ويظل حامد هو الحارس الأمين والساهر الدائم.
منظم ومفكر متواضع.. لا يتنازل عن الحق حتى لو على حساب نفسه.. عشنا أجيالا وراء أجيال من رجال المقر أنا وغبريال زكى ومحمد سعيد وعادل إبراهيم ومها عفت وبقى محمود حامد عمود الخيمة.
كان صاحب فكرة المؤتمر العلمى للحريات التى أثنى عليها خالد محيى الدين ووافقت على الفكرة الأمانة المركزية القيادة اليومية للحزب آنذاك. واختير الدكتور محمد نور فرحات رئيسًا للمؤتمر ومحمود حامد أمينًا للمؤتمر وكان لانعقاده صدى كبير وشاركت فيه نخبة من أساتذة القانون والعلوم السياسية بالجامعات المصرية وقيادات الأحزاب السياسية على اختلاف ألوانها.. وتقدموا بأبحاث دارت حولها المناقشات وقد انعقد المؤتمر مرتين، ناقش فى إحداهما قضية دستور جديد للبلاد، وناقش فى المؤتمر الثانى قضية ضرورة إنهاء حالة الطوارىء التى كانت دائمة فى البلاد.
وقد لا يعرف كثيرون أن كتاب الأهالى صدر بناء على اقتراح تقدم به محمود حامد ووافق عليه مجلس إدارة الأهالى، وهو ما ورد فى وثائق المؤتمر العام الثانى للحزب
كما كان مهتمًا بقضايا الثقافة والفن ونظم بالاشتراك مع زميلته أمينة النقاش ندوة كل أسبوعين لمناقشة كتاب يعرض قضية مهمة.
بدأ عشقه للصحافة منذ بدايات دخوله المدرسة الابتدائية فانضم لجماعة الإذاعة المدرسية والصحافة المدرسية، وفى المرحلة الإعدادية حصل على جائزة أفضل موضوع تعبير وقد كتبه عن زيارة صحفى لمعسكر اللاجئين الفلسطينيين فى مدينة رفح المصرية «كانت مرحلة تعليمة الإبتدائية وحتى الثانوية فى محافظة سيناء بقرية مزار القريبة من العريش وفى مدينة القنطرة شرق التى كانت تابعة لسيناء قبل انتقال تبعيتها للإسماعيلية، حيث كان والده يعمل رئيسًا لهندسة السكة الحديد بسيناء وقطاع غزة».
فى المرحلة الجامعية، وكانت فى جامعة الإسكندرية، تدرب فى مكتب روز اليوسف، وكان يحضر كل أسبوعين بشكل منظتم ليلتقى بالطلبة المتدربين الكاتب الصحفى عبد الستار الطويلة الذى اختاره ليتولى إدارة مكتب المجلة «حيث لم يكن يتواحد بالمكتب آنذاك فى الستينيات أى صخفى من روزا». كما اختاره لتغطية زيارة رئيس وزراء الاتحاد السوفيتى للمدينة.
وبعد انتهاء فترة التجنيد، عاد للتدريب فى روز اليوسف بشارع قصر العينى، وشجعه الكاتب الكبير على تقديم أخبار لباب «أسرار الأسبوع» وعمل تحت إشراف عبدالستار الطويلة بمجلة صباح الخير وأرسله لإعداد تحقيق صحفى عن التعمير فى مصر وقد نشر فى مجلة روزا على ٤ صفحات واستمر فى العمل حتى أحداث ١٨ و١٩ يناير ١٩٧٧ وجاء السادات بالكاتب مرسى الشافعى ليتولى مسئولية روزا، وكان أول قراراته الاستغناء تمامًا عن المتدربين اليساريين.
انضم منذ البداية لحزب التجمع، وعمل ضمن أمانة التنظيم بمقر الاتحاد الاشتراكى على الكورنيش وعاصر فترة عصيبة عندما منع مصطفى خليل الكهرباء عن الحزب حتى لا يتمكن من طباعة البيانات ومع ذلك صدرت التقدم وتمكن الحزب من طباعتها بمعاونة كمال الدين رفعت المتحدث الرسمى باسم الحزب.
وتولى مسئولية إدارة مقر الحزب فى شارع كريم الدولة بوسط البلد بعد أن اختاره خالد نحيى الدين ود.رفعت السعيد مفوضًا باسم الحزب ليتسلم المقر الحالى وكان الحارس الأمين طوال عدة مرات اقتحم خلالها الأمن المقر وصادر مطبوعاته ومطابعه.
ثم تفرغ للأهالى وكان أشهر سكرتير تحرير للجريدة التى أعطاها وأعطته الكثير وتولى أيضا رئاسة قسمى الأخبار والتحقيقات، وكان الزملاء يطلقون عليه دينامو الأهالى وعاصر العمل مع معظم رؤساء التحرير بداية من حسين عبد الرازق حتى فريدة النقاش.. وعمل لفترة عامين سكرتيرًا للمجلس المصرى للسلام.
وفى الحزب، تولى أمانة لجنة الدفاع عن الحريات، وهو الذى تقدم باقتراح اعتبارها لجنة أساسية من لجان الحزب وقد وافق المؤتمر العام الثانى على اقتراحه بالإجماع، وكانت تلك اللجنة أول لجنة على مستوى مصر، وقبل أن تظهر لجان مماثلة لها فى نقابة المحامين ونقابة الصحفيين وقبل منظمات مجتمع مدنى عديدة ظهرت بعد ذلك فى المجتمع، كما أنتخب أمينًا عامًا للعمل الجماهيرى وأسس أشكالًا متعددة للعمل فى هذا الإطار.
كما اختاره خالد محيى الدين ممثلًا شخصيًا له كنائب رئيس مجلس السلام العالمى، لحضور تفجير أول رأس نووى بناء على اتفاق ريجان جورباتشوف، وكان العربى الوحيد الذى حضر التفجير فى جمهورية كازاخستان التابعة للاتحاد السوفيتى آنذاك.
كانت الصحافة حينذاك صناعة ضمير وليست صناعة رأى عام فقط، ترأس مجلس إدارة الأهالى فرسان من أعضاء الضباط الأحرار «خالد محيى الدين ولطفى واكد» ومن أبرز مؤسسيها: الشاعر الكبير عبدالرحمن الشرقاوى، وصلاح حافظ، حسن فؤاد، محمد عودة، عبدالغنى أبوالعينين، عبدالمنعم القصاص، سعد هجرس، حسين عبدالرازق، محمد سيد أحمد، صلاح عيسى، محمود المراغى، سعد الدين وهبة، فريدة النقاش، أمينة شفيق نجاح عمر، يوسف القعيد، جمال الغيطانى، من كل هؤلاء رضع محمود حامد المهنية والوطنية.
كتبنا ودفعنا الثمن سجن وفقر وتشرد ومنافى، لم يبع أحدنا قلمه لإعلان أو لسلطان أو رجل أعمال.. والآن سلمنا الراية لمن يستحق، لأن صاحبة الجلالة كالبحر يلفظ نفايته تطفو على السطح، أما اللؤلؤ فيظل فى القاع، ومن اللؤلؤ يتجلى لنا محمود حامد.
صداقته بالدكتور عبدالرحيم على ممتدة منذ زمن طويل، ولا أنسى له فى إحدى دورات اللجنة المركزية لحزب التجمع، جاء خصيصًا عبد الرحيم على وأعلن بصوتٍ جهورى: «جئت أدعم صديقى وزميلى محمود حامد مرشحًا لأمانة لجنة الحريات»، وكثيرة هى المواقف التى وقف فيها بجانبه، ودائمًا يثبت علاقة عبد الرحيم على معنا وخاصة محمود حامد أنه يحمل قلب إنسان وعقل حكيم وإرادة مناضل لا يلين.
ومن التجمع الى طوال سنوات عمله بـ«البوابة»، اكتسب صداقة ومعرفة زملاء أعزاء، على مدى سنوات طويلة مضت من العمر، دون كللٍ أو ملل.. كنا وما زلنا نحفر من سنى العمر محبة وعملا مشتركا.
آراء حرة
محمود حامد.. خبيئة تجمع بين ملوحة البحر وعذوبة النهر
تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق