الوحيد فى الليل .. سامى الغباشى «نحات بدرجة شاعر»
نحت اعماله التشكيلية داخل المنازل والبيوت كقصيدة شعرية
الشاعر الراحل : نعانى الفوضى وغياب الفرز الحقيقى للتجربة الشعرية
الأعلى صوتاً والأشرس في المقاهي والندوات والصحافة هم «الأكثر حضورًا» بغض النظر عن منجزهم الحقيقى
«تتباطأ فى الليل.. رهبتها ليست من عتمة هذا الشارع.. ليست من خطوات الأبطأ من خطوتها خطوة.. رهبتها من شىء يسعى فى ظلمتها.. رهبتها تفرز رائحةً تعبث فى جسدى.. كأصابع أعمى. تتحسس وجه عزيز عاد.. كيف التفَّ الشارع.. كيف تلعثمت قليلاً.. ونظرت إلى الساعة حين تقابلنا.. عند رصيف يصلح لقضاء الليل ..كيف تخففنا من رهبتنا.. حين انطفأ المصباح الأوحد في الشارع.. واشتعلت أعمدة الرغبة فينا.. بل كيف استسلم كلٌ منا للآخر.. لأغيب سنيناً فى ظلمتها.. وتغيب سويعاتٍ فى ظلماتى» وحيد في الليل..
هذه بعض من أبيات الشاعر الراحل سامي الغباشي؛ والذي غيبه الموت عن عالمنا يوم الأحد 23 يوليو 2023، والحديث قد يطول حول هذا الشاعر النحات الذي فضل أن تكون أعماله النحتية والإبداعية داخل المنازل والبيوت، كقصيدة شعرية تحمل جزء من ذاته، ربما كان مقلا في الشعر، إلا أنه فضل أن تتجسد قصائده في شكل آخر، وهو ما ظهر جليًّا في أعماله النحتية الخشبية، التي تزين المنازل والبيوت.
كان يتمنى أن يقوم بنحت الشجر ويرى فيه ضالته ونشر في وقت سابق حكايته مع شجرة الزمالك التي قام بنحتها ثم تم القبض عليه بعدها، قال « أتمنى النحت على الشجر، أتمنى أروح أعيش مع الشجر، وأنحت كل يوم حكايه أو قصيدة، بالأزميل على شجرة مختلفة ..وحققت حلمى ده وعملت كده مرة.. زمان فى الزمالك على النيل بس اتقبض عليّ، تقريبا سنة ٩٤».
هكذا كان يرى أن الشجر عبارة عن قصائد تحتاج إلى نظمها بشكل نحتى لتخرج منها الروح وتتحدث معلنة عن رغباتها وأحلامها وطموحاتها، وقد كان يرى ضرورة العمل على توثيق حرفة الحفر على الخشب وأعمال الأويما، وهي إحدى الحرف التراثية، وأنها من الحرف والمهن التي تحتاج إلى الكثير من التوثيق؛ لأنها مبنية على تراكم الخبرات الخاصة بالحرفي أو الفنان الذي يقوم بالحفر على الخشب، ولأن سامي الغباشي كان شاعرًا ونحاتًا فكانت تخرج من تحت يديه قطع فنية تشكيلية بارعة، وكأنه يرسم صورًا شعرية متجانسة في نسيج واحد كقطعة فنية تزين الروح والوجدان.
الشعر والحق في الحرية
في شهادته حول حق الحرية لشعراء جيل التسعينيات وقصيدة النثر في مصر قال سامي الغباشي: «للشاعر الحق كل الحق في أن يغير قناعاته وانحيازه الجمالي وللآخرين الحق في قبول تجربته أو رفضها وسيظل الشاعر الحقيقى عصياً مجرباً فى كل المتاح الجمالى وخارج السرب.
متابعًا: «أنتمى شعرياً إلى (جيل التسعينيات)، كما يحب بعض النقاد أن يصنفوا أجيال الشعراء زمنياً.. وهذا الجيل يميل- يحكم اللحظة المفصلية التي تفتح وعيه عليها اجتماعياً وسياسياً- إلى الفوضى وإلى تحطيم المستقر في الوجدان الجمعى وتميزت تجربته بالجرأة فى تناول بعض المسكوت عنه واجتراحه وساعدت أوائل التسعينيات وفوران التنوير الجميع على هذه الجرأة فاستثمروها واستفادوا من هذا الظرف التاريخي وازدحمت الساحة الأدبية بشعراء حقيقيين وأدعياء لا رهان لقصيدتهم سوى أنها اجترأت على الله (الغيبي)، رغم أن معركتهم الشعرية والإنسانية الحقيقية في (قصيدة النثر) كما أعلنوا عن أهدافهم في بداية التسعينيات تدور وتشتبك مع اليومى والمعيش والإنساني.»
انشغلنا كثيراً بتأمين مصدات نقدية كافية لقصيدتنا حتى تحقق لها في أقل من عشر سنوات ترجمات ورسائل جامعية ناقشتها ، ونقاد حرصوا على التواجد في دائرة الضوء المشاكس ... ولكن وبعد أكثر من عشرين سنة الآن ما زالت «الفوضى» وغياب الفرز الحقيقى للتجربة وما زال الأعلى صوتاً والأشرس فى المقاهي والندوات والصحافة هم «الأكثر حضوراً» بغض النظر عن جدية مشروعهم الشعرى وما أنجزته قصيدتهم.
من قصائد الشاعر
(١)
من قصيدته «عُرف» من ديوان «رصيف يصلح لقضاء الليل»..
بلا ذاكرةٍ / يبدأ يومه .. لا يفكر في شيء.. وجهه لا يدل على صباح ٍ حقيقي.
خطوته تائهة في الفراغ/ ذاهب إلى حيث يثقل ظله.
إذا تكلَّم ..وإذا صمت .. وإذا همَّ بالمغادرة.
(٢)
كمشاهد
يقتل الوقت بالوقت
يتجول بين القنوات الفضائية
وحين تعلن الموسيقي بداية الأخبار..
يجلس بجديةٍ
لا تليق بنشرة الأخبار
ولا بلون الدماء
ولا بذلة الزعماء الأسرى
ولعل هذين المقطعين من القصيدة هما أكبر معبر عن المعاناة التي عايشها الشاعر سامي الغباشي، والتي فيها فضل أن يعيش بعيدًا عن صخب المقاهي والصحف والضجيج بلا طحين، كما أنه فى ديوانه الأخير اعتمد الشاعر غالبًا على قصيدة مكثفة قصيرة مشحونة بالكثير من الدلالات والمفارقة.
كما أن شعر «الغباشي» يتميز بالسلاسة والبساطة في طرح مفارقات من مشاهد الحياة اليومية بطريقة شعرية، تحمل الكثير من الصور والتخييلات والعناصر الجمالية في بناء الصورة الشعرية.
الديوان الخامس للشاعر «سامى الغباشى» بعنوان «عند حافة الكراهية». ويحتوى الديوان على ٢٧ قصيدة جديدة للشاعر داخل تجربة قصيدة النثر المصرية، ويعتبر الشاعر أحد المساهمين المتميزين في مشهد قصيدة النثر منذ التسعينيات.
فخاخ أشباه النقاد
في حوار سابق لغباشي كان له تصور حول الوضع الثقافي الراهن لاسيما فيما يتعلق بالحركة النقدية التي تواكب الأعمال الإبداعية من شعر ورواية، ليتصدر عنوان هذا الحوار «تخلصنا أخيرًا من أدعياء الحداثة».
كان «الغباشي» منحازًا لقصيدة النثر والتي كان يرى في ذاته بشكل أفضل لأنها هي الأكثثر تعبيرًا عن حياته اليومية ومعايشته للواقع التي يعيش فيه ، كما كان يرى أن المعركة الدائرة بين قصيدة النثر والتفعيلة هي معركة مفتعلة، وكان يرى أن من يستطيع كتابة القصيدة فليكتبها في أي إطار يناسبه ويتماشى معه والمهم بان تكون معبرة عنه وأن يكتبها بأي نسق كيفما يشاء، باي شكل وبأي نسق إيقاعي يرغب به ولكن من المهم أن يصدق نفسه فيما يكتب.
النحت في حياته
يقول غباشي في حوار سابق معه: «دخلت إلي مجال النحت والحفر علي الخشب في صباي بحثا عن إمكانية التشكيل والخلق، وساعدني علي ذلك طبيعة المجتمع المهني الذي نشأت فيه، لكنني فيما بعد اكتشفت أن طاقتي الحقيقية تكمن في التشكيل والخلق باللغة وفيها، فكان الشعر ولقد استفدت كثيرا من ثقافتي التشكيلية ودراستي الحرة للنحت، لكنني وظفت هذه الإمكانية النحتية في الجانب المهني فقط الديكور لأتفرغ للشعر، فعلي كل إنسان أن يكتشف حقيقته/ إمكانياته».
مجلة تكوين
يقول غباشي عن نشأة مجلة تكوين: «أقدمت علي هذه التجربة بدافع واهتمام وحب للقصيدة الجديدة، وما يثار حولها و كانت تجربة جميلة لاقت قبولا داخل مصر وخارجها رغم قلة الإمكانيات، فقد كنت أجهزها في منزلي، أي لم يكن لنا مقر مثل بعض الشرفاء الذين قاموا بتجارب شبيهة من علي المقهى، الكتابة الأخرى مثلا، لكنني بعد إصدار العدد الأول الناجح جدا بالنسبة للإمكانات المتاحة، توقفت بسبب تقاعس بعض الزملاء عن القيام بواجبهم تجاه هذه التجربة، حيث كانوا قد تعودوا علي التعامل مع المؤسسات المريحة التي سرعان ما تخلت عنهم، وتوقفت كل المجلات الأدبية التي عولوا عليها، وأري أن علي الجميع الآن إعادة إنتاج مثل هذه التجارب الخاصة بعد غياب دور المؤسسة الثقافية وتخبطها في مجلات عشوائية.
كلمات الرحيل
كان آخر ما كتبه غباشي عبر صفحته بموقع التواصل الاجتماعي فيسبوك وكأنه كان يعلم أن خاتمته قد اقتربت، بعد الصراع الإنساني الذي وجدته في حياته : «من كتر ما الشرفاء بيقابلوا عثرات وإخفاقات ومكائد من (شياطين الإنس ) قبل الجن، يوشك الشخص الشريف.. أن يفقد إيمانه بأن الخير سينتصر فى آخر الفيلم/ الحياة.. ووقتها.. الشيطان الحقيقى.. بيعلن انتصاره.. وبيتوج أعوانه من الإنس.. كرعاة رسميين للمأسوف على ما وصلت إليه ( الحياة )».
وكان يرى في النحت على الخشب حياة أخرى، لم يكن يتعامل مع عالم النحت على انها مجرد مواد صماء لكنه كان يرى انها تتحدث وتشعر فتخرج أعمال نحتية إبداعية لها روح وبصمة ووجدان.
الشاعر في سطور
مواليد 1968
نحات له:
■ فوق ذاكرة الرصيف١٩٩١ طبعة خاصة.
■ فضاء لها ومسافة لي١٩٩٥ طبعة خاصة.
■ هزيمة الشوارع١٩٩٨ طبعة خاصة.
■ وتسميهم أصدقاء٢٠٠٢ هيئة الكتاب.
■ وتسميهم أصدقاء٢٠٠٣ مكتبة الأسرة.
■ كل هذا الوقت - تحت الطبع.
■ أسس مجلة تكوين ٢٠٠٠ الثقافية والتي كانت تعنى بالكتابة الجديدة
ياسر خليل: سر التقارب بينى وبين الغباشى قصيدة «وصية لأجل أمى»
نعى ياسر خليل أمين مؤتمر الأدباء رحيل الشاعر سامي الغباشي قائلاً: «وآخر ينضم إلى من كان لهم علي فضل دون أن يعلموا أو لربما لم يمهلنا القدر لنقص عليهم دورهم الخفي في نجاحاتنا محمود مغربي، مأمون الحجاجي، وسام الدويك، عبدالجواد خفاجي، محمد المخزنجي، واليوم سامي الغباشي».
وتابع خليل في تصريحات خاصة لـ«البوابة نيوز»: «لا أدري لماذا أصر أن يأخذني من يدي لنجلس على مقهى البستان بعد انقضاء الليلة الثانية من مؤتمر قصيدة النثر الذي كان ينظمه الصديق عادل جلال والصديق إبراهيم جمال، تعارفنا بسرعة رهيبة ولا أدري هل كان السر في قصيدتي وصية لأجل أمي، والتي كانت سبب بدء حديثنا».
وأضاف خليل عن بداية اللقاء وكيف اقترب كل منهما الى بعضهم البعض قائلاً: «جلسنا على المقهى ومعنا الصديقة الشاعرة حنان شافعي والشاعر محمد آدم والشاعر جعفر حمدي أنصت له جيدا حين تكلم عن ابن عربي مع محمد آدم وعن الدروز وطبائعهم مع حنان وعن المسابقات الثقافية وطرائق كسبها، لا أعرف ماذا شاهد في ليخصني بالحديث عن الوسط وشلله ومشاكله».
واختتم متسائلاً :«هل كان يرى ما لم أكن أره في ذلك الوقت أم عرف أنني بلا شلة مثله وكان عونا لي وسيأتي على دور في يوم من الأيام لأكون ناصرا له لكن كيف بعد رحيله، هذا ما يؤرقني وربما أجيب عليه قريبا».
عمارة إبراهيم: كان مهمومًا بالوضع الثقافى الراهن وفضل الانعزال
تحدث الشاعر والناقد عمارة إبراهيم عن بدايات علاقة الصداقة التي جمعته مع الشاعر سامي الغباشي، والتي بدأت منذ أكثر من ١٠ سنوات بعد أن اكتشف أنهم جيران بنفس المدينة، قال: «أن سامي الغباشي كان شاعرًا من جيل التسعينيات، التقيت به في الملتقيات الأدبية مثل ندوة محمد جبريل في جريدة المساء وغيرها من المنتديات الشعرية التي يقيمها بعض الأدباء بجريدة الجمهورية، وكانت العلاقة بيننا في البداية هامشية، مجرد شعراء يلتقى كل منا الآخر في تلك المتديات نتبادل القصائد الشعرية ونتحدث عنها، وكل يمنح نفسه، حتى من عشر سنوات فوجئت بأنه يقيم بجواري بمدينة حلوان وتوطدت العلاقة بيننا، واكتشفت أنه إنسان يحمل كل الجمال فهو خجول ولا يفرض نفسه بشكل أو بآخر على الوسط الثقافي».
وتابع «عمارة» قائلاً :«فقد كان مهووسا بالنحت وتوجد لديه أكثر من ورشة لإنتاج التماثيل من منحوتات الخشب، وقد زرته في معرضه بحلوان بعمارة التطبيقيين كما أن لديه مرسم آخر في وسط القاهرة وبالتحديد في حدائق القبة، وسامي كانت صدقاته قليلة، فقد كان صديق للشاعر على منصور، وكان مهموم بالوسط الثقافي وكانت مهتما بالقضايا الثقافية والحديث بينا كان يتناول بعض الإشكاليات التي تواجه الثقافة المصرية، لاسيما في الفترة الأخيرة، وكيف أصبح بعض الشخصيات التي ليست قيمة ثقافية أو إبداعية وكيف اعتلوا هذه المنابر الشعرية والثقافية، وأصبحوا يتصدرون المشهد الثقافي، بل ويعتلون مناصب من شأنها التحكم بمصائر المبدعين».
وتابع عمارة حول كيف فضل سامي غباشي الابتعاد عن الوسط الثقافي والانعزال عنه وسط الأشياء التي يحبها وهي النحت، إذا قال: «وكانت أسرته صغيرة مكونة من زوجته التي اعتزلت التواجد في الوسط الثقافي على الرغم من أنها قاصة، من لحظة زواجها لولاده ولد وبنت، يحملان إرث والدهما الذي كان مهمومًا جدًا بواقع الوسط الثقافي، والتدني الذي وصل إليه هذا الوسط، وهذا الواقع الذي أجبر الكثير من المبدعين الحقيقيين أن يبتعدوا بشكل ما أو بآخر عن هذا الوسط .. إلا من رحم ربي - وكان مهموما في آخر عام بهذا التدني، وأصبح ينشر على فترات متقطعة بعض من قصائده، وكانت تتلقفها المجلات الأدبية والثقافية التي كانت تعرف قيمته كشاعر، وفي السنوات الأخيرة قد منح نفسه لعمل النحت وكان عمله الذي يأكل منه العيش فقد كان يبحث عن لقمة العيش الذي تمنحه القيمة الإنسانية من خلال عمله، كما أن له اسهامات كبيرة وكثيرة في هذا المجال مثل كتابته الشعرية المتفرده».
مضيفًا: وسامي تعرض لمشاكل صحية كثيرة جدا وللأسف الشديد لم يقف معه ، اتحاد كتاب مصر والذي كان سامي حريصًا كل الحرض على أن يواظب على دفع اشتراكاته السنوية بانتظام إلا انه كان أنه يدفع اشتراكات دون أن يحصل على خدمات في المقابل.
لافتًا إلى أن سامي الغباشي كان انسان يقترب إلى الملائكة، لفا يتسبب في إزعاج أحد أو ضرر أحد ولا ينهش في لحم أحد، وكان يرصد بعض السلبيات الموجودة ويتحدث معي بها بشكل مستمر.
وسامي كتب القصيدة العمودية مثله مثل أي شاعر حقيقي بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ، وكانت القصيدة تكتبه، فعندما تأتي إليه يمنحها قلمه فقط ويكتبه بكل كيانه ومشاعره، فهو رحمة الله عليه- وكان مهموما بصيغة وجمال الفن أيا كان هذا الفن، وعلى المستوى الشخص كانت علاقاته محدودة جدًا ولا يقرب منه سوى بعض الشخصيات القليلة، وكان مهووسا بأشعار حلمي سالم ورفعت سلام وتأثر بقصائدهما، كان شاعرا من طراز التفرد الشعري ولم يلبث ثوب أحد، فكان يبحث عن الشعرية في الآخرين كدرس أو معرفة ولم تتأثر قصائده بأي منهم.