بعد أيام قليلة من قمة فيلنيوس (11-12 يوليو) التى جمعت الدول الأعضاء فى حلف شمال الأطلسى والتى فشل خلالها الرئيس زيلينسكى فى الحصول على وعد بعضوية بلاده فى الحلف، وبعد أسبوعين من قمة غير مسبوقة للمصالحة بين بولندا وأوكرانيا المجاورة واللتين تحالفتا أكثر من أى وقت مضى ضد العدو المشترك روسيا بعد اعتراف أوكرانيا بأخطائها السابقة تجاه بولندا خلال الحرب العالمية الثانية.
يأتى هذا المقال وأنا عائد من الحرب فى أوكرانيا بعد مدة طويلة قضيتها فى المنطقة الحدودية لفيف، التى لا تبعد كثيرًا عن بولندا ورومانيا.. شهادة واقعية وحقيقية من على الأرض فى أوكرانيا وعن الوضع فى هذا الجزء من البلاد الذى يعد الأقل تضررًا بشكل مباشر من الحرب.
وفى إقليم لفيف، تختلط الهوية الأوكرانية بشكل غريب ووثيق بهوية وماض تاريخى بتاريخ بولندا. وقد أدى نفى العديد من الأوكرانيين الشرقيين الفارين من جبهة الحرب منذ نهاية فبراير 2022 إلى تكوين مزيج غير مسبوق من الأوكرانيين حيث تميز هذا المزيج بالتضامن الذى فاجأ العديد من المراقبين!
خلال إقامتى فى أوكرانيا أثناء رحلتين طويلتين امتدتا لأكثر من عام خلال الحرب، تمكنت من التحقق مباشرة من الوضع فى غرب البلاد، وهى منطقة - تبدو فى الظاهر فقط- أقل مشاركة فى الحرب. وعند وصولى إلى أوكرانيا، تمكنت من الاستقرار فى لفيف ومن الحدود مع بولندا، استطعت أن أرى صفوفًا لا نهاية لها تمتد لعدة كيلومترات، من الشاحنات كانت تدخل وتخرج من البلاد.
فى الواقع، كان هذا يتعلق بنقل مختلف الأشياء وخاصة المساعدات الإنسانية وفى نفس الوقت الدعم التكنولوجى للجهود الحربية فى الشرق والجنوب. ومما كان يثير يلفت النظر أيضا، تلك الصفوف للمركبات التى كانت تحمل حطام العديد من السيارات التى دمرت خلال الصراع.
الاختلافات بين 2022 و2023
وخلال إقامتى الطويلة السابقة فى عام 2022، كنت قد شاهدت فى الشهر الأول من الحرب، سيناريو قريب جدًا من ذلك الذى تم تصويره فى فيلم اليوم التالى، حيث تم التخلى عن العديد من السيارات على جانب الطريق عند الحدود مع هروب حشود من الأوكرانيين من البلاد ومحاولة الوصول إلى بولندا بالسيارة أو سيرًا على الأقدام. لقد انتظرت هذه الصفوف البشرية عدة أيام فى السيارات على أمل أن تتمكن أخيرًا من عبور الحدود الصعبة مع بولندا وهى حدود تفصل بشكل فعال بين الشرق والغرب فى أوروبا والعالم.
اليوم، نرى هذا الخط الحدودى مزودا بالأسلاك الشائكة كما فى حروب البلقان فى أعوام 1900 وكما رأينا برلين أثناء الحرب الباردة مع نقطة تفتيش تشارلى الشهيرة.؛ لذلك فمن الصعب الوصول إلى حدود البلاد مع بولندا، حيث يتم إجراء العديد من عمليات التفتيش الصارمة بشكل خاص ضد الشباب الأوكرانيين وبشكل عام الرجال الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و60 عامًا والذين ما زالوا يحاولون الهروب من الجبهة ومن هذه الحرب المروعة. حتى كتابتى لهذه السطور، فلا يزال هناك طوابير من السيارات والحافلات والشاحنات تمتد لعدة كيلومترات على الحدود على الجانب الأوكرانى والجانب البولندى.
ولا يمكن لأحد أن يتجاوز صفوف الانتظار والوصول مباشرة إلى بولندا (على طريق يمتد حوالى 64 كم عند حدود منطقة Shehyni Medyka ) إلا عن طريق سيارات الأجرة والسيارات المرخصة أوالدبلوماسية المخصصة لعدد قليل جدًا من المحظوظين الذين لديهم الوسائل والحق فى ذلك. وبعد فترة قصيرة، أصبحت صفوف الشاحنات الآن أكثر تنظيما بالتأكيد وتم إنشاء مناطق استراحة.
وعمليا لا يوجد ما هو جديد ليقال على الجبهة الغربية حاليا» وهوما يدفع لإعادة صياغة التعبير الشهير للكاتب الفرنسى، إريك مارى، الذى قدم ملاحظاته حول الحرب العالمية الأولى.
خلفية الحرب
فى الواقع يمكننا القول إن هناك جانبًا آخر غير معروف خارج الحدود الأوكرانية وهو الوضع الراهن وخلفية الحرب..على سبيل المثال، فى بداية الحرب فى مدينة سامبير التى تضم العديد من الثكنات مع محطة قطار على طول الحدود مع بولندا والعديد من الصناعات التكنولوجية والزراعية الغذائية، كان خطر القصف المخيف والكبير بعيدًا؛ لكن حاليا هنا فى سامبير، نرى كل يوم تقريبًا، دوى صفارات الإنذار بسبب الغارات الجوية.
وأحيانًا تكون الأيام والليالى تتخللها تنبيهات جوية متواصلة تقريبًا. وفى لفيف وسامبير أيضًا، لا غنى عن وجود الملاجيء والفواصل ذات الجدران المزدوجة للحماية من الصواريخ والقنابل والطائرات بدون طيار، وذلك حتى لا تستثنى جبهة الحرب هذا الجزء الغربى من أوكرانيا.
وفى جميع أرجاء لفيف خلال الأسبوع الماضى على سبيل المثال، وقع دمار واسع النطاق وهجمات روسية على مبانٍ حيوية مع أضرار جانبية كبيرة وتم تدمير عدة منازل مدنية، كما هوالحال فى أماكن أخرى فى أوكرانيا خلال عام ونصف من الحرب. وهكذا حدث أننا بقينا أياما وليال فى إنذارات جوية دون انقطاع.
وفى منطقة سامبير أيضًا، لا يمكن العيش بدون المخابيء والجدار المزدوج للحماية من الصواريخ والقنابل. فى منطقة Lviv Oblast بأكملها قبل أسبوعين- على سبيل المثال- تعرضت المبانى والمنازل المدنية لأضرار جانبية وفى منطقة لفيف فى سامبير، تعرضت السكك الحديدية للدمار مرارًا وتكرارًا فى عام 2022.
وخلال الحرب أيضًا، كانت أصداء الانفجارات البعيدة فى منطقة Ivanov Frankava وRivne وPolt البعيدة أيضًا، تصل فى كثير من الأحيان إلى لفيف. وبشكل منتظم، كانت اختبارات النيران المضادة للطائرات مسموعة فى منطقة لفيف.
وإلى جانب تهديدات الحرب، نجد أيضا عواقب الأشهر الأولى من القتال؛ فعلى سبيل المثال: كانت المتاجر الكبرى والمحلات شبه فارغة بالكامل. وحتى اليوم، تم إغلاق المطاعم والنوادى والمحلات التجارية بشكل دائم أوإعلان إفلاسها بسبب الحرب.
ولا يزال حظر التجول الليلى مطبقا ولايزال السيناريو شبه الميتافيزيقى لوسط المدينة الفارغ مثله مثل الريف أثناء الليل، منتشرا فى كل مكان فيسود مشهد ليلى من الصحراء الحضرية لمدة عام ونصف فى هذه المقاطعات من البلاد. لذلك فإن أوكرانيا بأكملها هى التى تجد نفسها فى هذا الوضع ليلًا وليس فقط الخطوط القريبة من الجبهة أوالعاصمة.
فترة انقطاع التيار الكهربائي
كان انقطاع الكهرباء والمياه والغاز منذ عدة أشهر ناجما عن قصف قنوات المياه ومحطات الطاقة واحتياطيات المياه فى لفيف. وفى الأيام الأخيرة، كانت هناك انقطاعات جذرية، بالتناوب، فى المياه والكهرباء والغاز.
وتم ترشيد استهلاك المياه والغاز فى المدن والمياه والكهرباء فى الريف باستمرار بسبب الانقطاعات، مع العلم أن الطاقة فى هذه المنطقة يتم توفيرها وتوزيعها من قبل شركة دنيبر للطاقة، وهى شركة تحمل اسم دنيبر، إحدى أهم المدن الصناعية فى أوكرانيا، والتى تعرضت لهجمات روسية عديدة.
حقيقة الحرب فى لفيف
خلال عام ونصف من الحرب، اعتدت على ليالى من الأرق دون تيار كهربائى مما يذكرنا بالحرب العالمية الثانية بكل الآثار الجانبية التى تتسم بها الحروب فى جميع أنحاء العالم وفى آسيا وأفريقيا واليوم مع الأسف فى أوروبا الشرقية.
فى العام الماضى (2022)، تحديدا فى شهر فبراير أيقظنى ضجيج محرك قاذفة روسية وهى طائرة سوداء تبدومن بعيد وكأنها غراب أو نسر مثل كل الطائرات المقاتلة فى أى حرب. لم تتأثر أوروبا أبدًا بالحرب بعد ما يسمى بحروب يوغوسلافيا السابقة (البوسنة وكرواتيا وصربيا وكوسوفو، 1994-1999)، وجورجيا (2008) أوأكثر قبل الشيشان (1994-2000).
التضامن العالمي
فى الحقيقة، هناك سمة أخرى وقاسم مشترك لكل هذه الحروب، ألا وهو الهجرة القسرية والواسعة: تضاعف سكان لفيف وسمبير بحكم الأمر الواقع خلال الحرب فى منطقة الكاربات، على سبيل المثال، سامبير التى تتكون من أقل من 25000 نسمة قبل الحرب إلى حوالى 50000 اليوم، فإن السكان الأوكرانيين فى الشرق، الأكثر تضررًا من القصف المكثف قد وجدوا ملاذًا داخليًا بعيدًا فى الجزء الغربى.
وهنا تبدو الشوارع والساحات مكتظة بشكل واضح بحيث ظهرت المراكز العامة بشكل عفوى بسبب «المنفيين الداخليين»، حيث أتت الجماهير من خاركيف وخرسون ودونباس وأيضًا من كييف وأوديسا وماريوبول وميكولايف ودنيبروبتروفسك وبولندا.
وأمام كل ذلك، أنشأت منظمة فرسان مالطا هيكل استقبال كبير جديدًا فى ملعب سامبير الذى تم افتتاحه وكان جاهزًا بالفعل لبضعة أشهر ولكنه وللمفارقة، أصبح فارغًا الآن مثل الكاتدرائية الخاوية فى الصحراء وربما أعاقته البيروقراطية اللوجستية الأوكرانية أوالإقليمية. ومع ذلك، كان كرم المواطنين والفلاحين فى المنطقة تجاه الوافدين الجدد شاملًا ومثاليًا.
وأصبح مركز لفيف مثل مركز سامبير، كما لوكان بابل مع وجود العديد من اللهجات والتعبيرات التى جاءت من كل جزء من أوكرانيا الشاسعة. وفى الريف، وجد العديد من اللاجئين أنفسهم فى منازل ومصانع مؤقتة حيث تمر الحافلات المدرسية المزينة بالألوان الوطنية كل يوم. ولا شك أن التضامن البشرى هوبالفعل شيء عظيم وجميل عندما يكون تلقائيًا وصادقًا وعالميًا.
نتيجة لذلك، وبفضل هذه الروح تجاه اللاجئين الداخليين فقد اختلطت اللهجات والثقافات المتنوعة لبلد متعدد الثقافات شاسع بقدر ما هو معقد، والأكبر فى أوروبا من حيث المساحة وذلك على الرغم من الحرب من أجل تعزيز الوحدة الثقافية الوطنية.
بالنسبة لى، فإن أوكرانيا- وفقًا للتعريف الجيوسياسى المناسب- هى «كندا أوروبا» من حيث حجمها الجغرافى وطبيعتها البيئية وموقعها تجاه روسيا، تمامًا مثل كندا المجاورة للولايات المتحدة.
ومن المؤكد أن الأوكرانيين اليوم قبل كل شيء مؤيدون للغرب وهم يشعرون بأنهم أوروبيون ولكن لسوء الحظ دون أن يكونوا كذلك، أوبثمن غالى من الدم... ومن المثير للاهتمام أن رمز ساحة سامبير المركزية، هوغزال الغابة، حيث وُلدت هناك راية مجلس أوروبا الذى تعد أوكرانيا جزءا منه، وهى ترغب فى أن تكون جزءًا من الاتحاد الأوروبى.
وهى رغبة مدمرة تتجلى بوضوح مع هذه الحرب، والتى كان أحد أسبابها رفض الرئيس الأوكرانى السابق «الموالى لروسيا» يانوكوفيتش، التوقيع على معاهدة الشراكة بين أوكرانيا والاتحاد الأوروبى.
المآسى الإنسانية للحرب
إن الجانب المأساوى والمؤلم للحرب واضح فى سامبير كما هوالحال فى لفيف، حيث أعيد العديد من الرجال الذين تتراوح أعمارهم بين 20 و40 عامًا فى الحرب كقتلى أو مصابين إلى مناطقهم الأصلية.
هذه الحروب هى دائما حزينة ومؤلمة كما هى عديمة الفائدة. وخلال إقاماتنا الأخيرة، تمكننا من ملاحظة نزيف فى صفوف الشباب فى مناطق أوكرانيا الأكثر بعدا عن الجبهة مثل سامبير، حيث شهدنا المئات من مراسم الدفن المأساوية.
افتتاح الموكب من قبل البابا الأرثوذكسي
ويتبع رئيس أبرشية المسيحيين الأرثوذكس، سفياسيلنيك، بمصاحبة رفاقه الجنود والضباط الأوكرانيين، صورة الجندى البطل الذى سقط فى المقدمة ضد الروس محاطًا بالعلم الوطنى الرسمى الذى يحمله مجموعة من الشباب.
ثم تبع ذلك الزهور التى يحملها أفراد العائلة فى مواكب طويلة وفرضية سيرًا على الأقدام وبالسيارة، حيث تبرز كل مركبة وهى تحمل العلم الأوكرانى باللونين الأصفر والأزرق جنبًا إلى جنب مع العلم التاريخى الأول للجمهورية الأوكرانية: الأحمر والأسود، العلم المثير للجدل الموجود فى ساحة قاعة بلدة سامبير مع العلم الأوروبى الأزرق المرصع بالنجوم. وبالطبع ترافق الموسيقى الأوكرانية المقدسة أوالتقليدية الحفل دائمًا.
وفى الخاتمة
استنادًا إلى تجربتنا المباشرة بين عامى 2019 و2023، من خلال العديد من الرحلات إلى أوكرانيا قبل وأثناء الحرب الحالية، يمكننا ببساطة أن نستنتج أن هذه المنطقة فى غرب أوكرانيا، كانت أيضًا أرضًا سابقة لبولندا، قبل الحرب العالمية الثانية، وأنه منذ عام 1945 تمت إزالة هذه المنطقة المليئة بالندوب من بولندا من قبل الجيش الأحمر الستالينى وذلك بعد الهزيمة الألمانية فى عام 1945، نتيجة لاستبدال كتلة من السكان المحليين بالروس أوالناطقين بالروسية.
ولا يزال هذا الجرح التاريخى يسبب الكثير من المعاناة للسكان - فى الغالب معادون لروسيا وأوروبا- مؤيدون بشكل ملموس لتكامل أوروبا داخل الناتو وأوكرانيا. وهنا من الواضح أن الشباب ينتمون إلى ثقافة أوروبا الغربية وليسوا أبدًا سلافوأرثوذكسيًا صارمًا، لأن شعور الغرب مختلف تمامًا هناك مقارنة بمشاعر أوكرانيا فى وسط وجنوب وشرق البلاد، وهى مؤيدة تاريخيًا للروس فى الخلفية.
فى النهاية، بالنسبة لى، هذه الحرب هى حرب الاستقلال، إلى حد ما مثل حروب الاستقلال فى القرن التاسع عشر. ومع ذلك، إذا كانت هذه المنطقة من لفيف وسمبير، فى ما وراء الحرب الأوكرانية، فى أقصى الغرب، على بعد حوالى 700 كيلومتر من الجبهة، فلن يكون هناك ما هوأكثر خطأ من التفكير والاستنتاج بأن أوكرانيا «الحقيقية» هى تلك التى تقاتل فى الشرق الذى يقاتل على خط المواجهة: لأن الدفاع عن الحرية والديمقراطية وأضف إلى ذلك هذا الوعى الوطنى الأوكرانى الذى أطلق هذه الحرب، التى تأتى من الشرق بل من الغرب.
إن هذا الجزء الغربى من أوكرانيا المجاور لبولندا ورومانيا والمرتبط عاطفيًا بدول البلطيق (التى استقبلت مؤخرًا: 11-12 يوليو) السيد زيلينسكى بضجة كبيرة فى فيلنيوس، لطالما شعرت بأنها غربية ومؤيدة لأوروبا وحلمها وأفقها يسمى أوروبا.
معلومات عن الكاتب:
ليوناردو دينى مفكر وفيلسوف من أصل إيطالى.. كانت أطروحته للدكتوراه حول نظرية السياسة وفلسفة القانون، له العديد من الكتب والدراسات، كما كتب الرواية إلى جانب القصائد الفلسفية.. يكتب عن الأوضاع فى أوكرانيا التى عاد منها للتو.