الإثنين 20 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

بالعربي

Le Dialogue بالعربي

عبد المنعم سعيد يكتب: تجديد الفكر المدنى.. المواجهة الفكرية تظل دائمًا حجر الزاوية فى قضية مقاومة الأصولية والإرهاب.. جهود ملموسة تجرى فى مصر والسعودية والإمارات لنشر الثقافة العلمية

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

مواجهة الإخوان وأنواع كثيرة من الأصوليات المختلفة التى تلتحف برداء الدين تتطلب استراتيجيات مركبة من الإصلاح السياسى والاقتصادى والاجتماعى، المصحوب بمشروعات وطنية كبيرة. ولكن حجر الزاوية فى القضية يبقى دائما المواجهة الفكرية التى إذا كان منها وجها ينصب على تجديد الفكر الدينى، فإن الوجه الآخر هو تجديد الفكر المدنى أيضا حتى تكتمل الدائرة التى تكفل هزيمة الفكر الرجعى والمتخلف والمتطرف والعنيف.
ولشرح المسألة هناك قصة تروى وهى أنه فى ستينيات القرن الماضى شاهدت فى القاهرة على ما كان يسمى «المسرح الحديث» مسرحية بروتولد بريخت -المؤلف المسرحى الذى عرف بالمباشرة- «إنسان ساتشوان الطيب» والتى كان الراوى فيها سقاء حاملا للماء سرعان ما أدرك متحدثا إلى الآلهة وأصحاب الحكمة أن هناك «شيئا فى عالمكم أيها النيرون غلط». لم يكن هناك أمرا منطقيا ولا صحيحا ولا مناسبا أن يكون عليه بيع الماء فى «عز المطر».
أكثر من نصف قرن مضى على إدراك هذا الخطأ فى تركيبة الحياة فى قرية صينية أعاد إلى الذهن زيارة أخرى للصين فى فبراير ٢٠٠٢ وصلت بنا إلى حى «شنبو» فى مدينة شنغهاى الساحلية والتى تعد واحدة من أيقونات التقدم فى الدولة تاريخيا وفى العصر الحديث. 
كنا فى بعثة صحفية من الأهرام الغراء للبحث فيما تغير فى هذه الدولة بعد التغيرات الكبيرة التى جرت فى العالم من أول انتهاء الحرب الباردة إلى انفراد أمريكا بقيادة العالم إلى بداية الصعود الصينى الكبير، مع إجراء الهند وباكستان لاختبارات قنابل وأسلحة نووية جعلت العالم يرتج بعد ما كان معروفا باسم الأزمة الاقتصادية الآسيوية. قابلنا كثيرين من أول الرئيس الصينى «زمين» وحتى وصلنا إلى رئيس حى صغير (أربعة ملايين نسمة) فى المدينة الساحلية الكبيرة.
حكى لنا الرجل تجربته التنموية التى جعلته يجتذب إلى الحى أربعة مليارات من الاستثمارات الأجنبية خلال العام السابق. كان الرقم مهولا، وكان طبيعيا أن تُطرح أسئلة على هذا النجاح على ضوء ما كنا نعرفه من كون الصين لا تزال دولة «اشتراكية» حتى ولو أضيفت كلمتى «السوق الاجتماعي».


وكنا نريد أن نعرف ما فعلته الصين مع عمالة القطاع العام، والعمالة الزائدة فى الحكومة، وكيف يتم التعامل مع ما كان فى ذلك الوقت ٦٠٠ مليون فقير صينى (الآن أصبحوا ١٥٠ مليون فقط أو ١٠٪ فقط من السكان). كان إلحاحنا فى الأسئلة، وعجبنا من الإجابات التى جعلت حى شنبوا يجذب الاستثمارات، ويمنع الصينيين الفقراء من المجيء إلى شنغهاى كلها إلا لعمل محدد ومتعاقد عليه؛ وعندها سكت الرجال تماما لثوانى قليلة تعليقا على المقارنات التى أجريناها مع الأحوال فى القاهرة ثم قال: «لابد من تغيير الفكر أولا"!
فى مصر فإن الخروج من أفكار القرون الوسطى المملوكية والعثمانية فى القرن التاسع عشر والقرن العشرين قام على أكتاف مدنية التعليم بما فيه تعليم النساء، وإنشاء الجمعيات العلمية من الجمعية الجغرافية إلى التاريخية إلى القانون الدولى والتشريع إلى الجمعيات العلمية بشكل عام. الآن فإن مفتاح المرحلة لن يكون مختلفا إلا فى الكم والنوع للاندفاع فى الجانب «العلمي» القائم على اكتشاف العالم والكون الذى نعيش فيه.
وللحق فإن هناك جهودا جارية فى مصر والسعودية والإمارات لنشر الثقافة العلمية، وأحيانا ما تقوم على استغلال أدوات التواصل الاجتماعى وتجمعات الأحياء الافتراضية للتداول فى أمور مدنية. المساعى الجارية فى دولة الإمارات لإرسال مركبة إلى المريخ يخلق مبادرة هامة لتطبيقات الفكر العلمى تضاف لمحاولات سابقة فى مجالات الطاقة الشمسية وفى السعودية التخلص من الكربون الملوث للطاقة فى النفط.
كل ذلك يأخذ الفكر العربى إلى دائرة الفكر العلمى العالمى والكونى التى تعيد تشكيل الإنسان العربى بعيدا عن الخرافات والشعوذة فى الوقت الذى يحافظ فيه على «السلام الروحي» الذى يستمده من الإيمان والعلاقة المباشرة مع الله عز وجل. الثقافة العلمية والتاريخية والمعرفية بوجه عام لما يحدث ويجرى فى العالم بتجاربه المختلفة، مع الاهتمام بجوانب القوة الناعمة فى الموسيقى والأدب والشعر والفنون عامة، وابتكار أشكال مختلفة لتشجيع الإبداع الأدبى والفنى يفتح أبوابا واسعة لفكر مدنى واسع النطاق يدعم الدولة الحديثة ويخلصها من التيارات المتطرفة.
وبالملاحظة والتجربة فى بلاد العالم الصناعية المتقدمة، ورغم السبق فإنه لا يزال فيها التفكير التآمرى والكثير من الشعوذة الدينية، فإن بداية التغيير تاريخيا لم تأت فقط من «الإصلاح الديني» وإنما جاءت من «العلم» و«العلوم» و«المعرفة» فى العموم. ولو أن الكتاب والمفكرين المهتمين بهذه القضية صرفوا جزءا هاما من وقتهم، ومساحات أكبر من كتابتهم، إلى التفكير العلمى والبناء المنطقى وأساليب البحث فى الأمور، والعلاقة بين المقدمات والنتائج، والكيفية التى تطورت بها الدنيا على مدى العشرة آلاف عام الماضية التى بدأ عندها التاريخ الإنسانى شاملا أديانا وأفكارا وتقاليد وأخلاقيات كانت ضرورية لتحقيق سلام الإنسان مع ذاته، وتعاونه مع أخيه الإنسان.
التاريخ هكذا ليس مجرد تسجيل صعود وهبوط الأمم، وانتصارات الإسكندر الأكبر وبطولات خالد بن الوليد وفتح الأندلس وغزوات نابليون وهتلر، وإنما هى كيف جاء الإنسان من كهفه، ورحلته من جمع الثمار حتى الوصول إلى القمر. هذا التطور منذ وقوف الإنسان على قدميه معلنا خروجه من المملكة الحيوانية وحتى بات يقترب من مركبات تسير بسرعة الضوء، وبعد أن كان يعلن «العجز» قبل سن الثلاثين وحتى بات شابا من هو فى الثمانين، هى قصة تستحق أن تروى علميا وتكنولوجيا وفلسفيا أيضا. 
وبقدر ما يحكى تاريخ البشرية قصتها مع التطور والرفعة، فإن التاريخ المصرى وحده فيه أبلغ القصص ليس فقط بإقرار الوحدانية والحساب بعد الموت، وإنما فى التعامل مع الجسد الإنسانى وقوانين الجاذبية أيضا. وظيفة التاريخ للإنسان والشعوب أنه مخزن التجربة ليس خطأ أو صوابا، وإنما عما إذا كان مفيدا أو غير مفيد.
وضع أحكام قيمية، وفى كثير من الأحيان ليبرالية ومستمدة من تجربة القرنين الأخيرين من التاريخ البشرى غير عادلة لوظيفة التاريخ الذى إذا ما أثقلناها بمعايير أخلاقية أو سياسية أو اجتماعية لما بات التاريخ تاريخا كان فيها الإنسان أسيرا لظروف العصر والزمن والتطور. التاريخ أيضا ليس هو ما فات، وإنما ما هو قادم أيضا طالما أن العلاقة واقعة مع الزمن الذى فات، والآخر الذى سوف يأتى. هنا مربط الفرس فى تجديد الفكر المدنى أن يكون نافعا فى بناء الدولة الحديثة والمعاصرة؛ وبصراحة يكون أكثر تحملا للمسئولية عن تقدم المجتمعات. 
كل ما سبق يشكل حائط صد منيع يقف أمام أشكال كثيرة من الشعوذة الدينية واستخدام الدين فى تضليل العقل البشرى، وتسمو به إلى أعلى أخلاقيا ونفسيا، وتدعوه سياسيا إلى بناء العلاقة مع نفسه ومع الآخر، وفى العلاقات الدولية مع الدول والأمم. وفى العموم فإنها مسيرة ليست سهلة وتقف أمامها عقبات كثيرة، ولكن ما حدث خلال العقد الراهن يشهد أن الانتصار فى هذه المعركة ممكن، حيث كان العلم هو الذى اكتشف اللقاحات التى تعاملت مع «كوفيد ١٩»، وكان هو الذى وضع حجر الأساس فى التعامل مع الاحتباس الحرارى، وهو الذى جعل من أمم فقيرة غنية وقوية فى الثروة والفكر أيضا.