غامت ملامح وجهه بهدوء مهيب. لم أعلم سره. كان يجلس على كرسي كبير واسع يحاوط جسده الضئيل ببياضه كأنه يغرقه ويخبئه. في يده كتاب أزرق الغلاف لم أتبين عنوانه على البعد. كان يضم الكتاب إلى صدره بحنان. كأن الكتاب جزء من قلبه. شارد في حنايا موجات النيل الصغيرة المتعاقبة في هدوء وبطء تحت ثقل رطوبة الصيف. تثاءب في طلب للمزيد من الأكسجين. أخذني فضول الاقتراب منه لسبب لا أعلمه. لطالما كانت أمي ترى أنني أرتاح في صحبة من تجاوزوا السبعين ربيعًا رغم سنوات عمري الأقل بكثير. كان النادي في فترة العصر بإجازة الصيف قليل الرواد. استطعت أن أجد كرسيًا قريبًا شاغرًا. جلست محاولة استراق النظر إليه كل حين. كان شاردًا لا يفعل شيئًا. فجأة نظر إليّ مبتسمًا. حياني بهز رأسه. اقترب مني. فوجئت. قال مبتسمًا: "مساء الخير.. أنا أعرفك يا بنتي.. أنا كنت جار جدك أنا الأستاذ مصطفى مكرم"..
شعرتُ بسعادة كبيرة. لم أرَ الأستاذ مصطفى منذ كنت في الخامسة من عمري. كنت أحب هذا الرجل لأن زيارته تعني أن جدتي ستسمح لي بنصف فنجان قهوة حين تعدها له ولجدي. ابتسمت. رحبت به جدًا واندهشتُ جدًا لأنه عرفني. أخبرني أن ملامحي لم تتغير كثيرًا. دهشتُ لجرأته في السلام على شخص قد لا يعرفه. لكن من مزايا التقدم في العمر أنك تفقد بالتدريج الاهتمام بردود فعل الآخرين. انضممتُ إليه. دعاني للقهوة أيضًا.
لازلت أذكر مدام إيناس زوجة هذا الرجل الرشيقة بشكل كان يذهل الجميع. بعد أن كبرت قليلًا قصت لي أمي قصة حبه لها. لم يرزقا بذرية لكنهما رزقا بحب عظيم أنار عليهما كل الحياة فلم يريا نقصًا مظلمًا. أخبرني أنها مازالت تعد أفضل ورق عنب على سطح الأرض. وعدته بأن أكون ضيفته قريبًا. استطعتُ أن أقرأ عنوان الكتاب على القرب "فن الحياة". فجأة قال لي بصوت محتج: "إزاي بتعرفوا تحبوا في الزمن ده؟!". اعترتني صدمة ظهرت على ملامح وجههي وصمتُ. ما سبب قوله هذا؟!!. استطرد يقول وكأنني غير موجودة: "المزيكا دي إللي مش شايف فيها إلا خناقة بزعيق عالي وأحيانًا شتيمة.. بتحبوا عليها إزاي؟! مش ممكن مع المزيكا دي أشوف جمال واحدة ست ولا وردة حتى!.. الهدوم اللي بتلبسوها لا بتبين جمال أجسامكم ولا جمال قلوبكم.. الهدوم بتكسي القلب مع الجسم يا بنتي.. أنا فاهم إنكم بتتحركوا أكتر مننا والزحمة زادت بس ده مش هيخليني أقبل إنكم تخرجوا بالهدوم اللي بتناموا فيها.. إحنا مش ممكن كنا نعمل كده. إنتو بتتحدوا كل حاجة حتى الجاذبية الأرضية بتسريحات شعركم... إزاي أقولها أحبك والشعر الحرير ع الخدود مش بيهفف؟!.. أسماء المحلات شبه أسماء العصابات في أفلام التمانينات الأجنبية بالنسبة لي ساعات.. إزاي هأعزمها على ليمون في محل زي ده وأقولها فيه بحبك؟!.. ريحة الجو حتى بقت مخاصماكم ويمكن ده مش ذنبكم بس إنتوا مش بتصالحوه لا بابتسامة حلوة ولا بكلمة طيبة.. أنا واجد صعوبة كتيرة في إني أعيش بسبب إني مش عارف أحب العيشة.. الحمد لله إني ما قابلتش إيناس فى الزمن ده"..
الأستاذ مصطفى رجل من زمن الحب.. أنا لا أعرف هذا الزمن لكنني أسمع أصداءه في كلماتهم. أراه في قسمات وجوههم وبريق عيونهم الذي لا يطفئه الوقت أبدًا. فجأة انبعث صوت أم كلثوم من سماعات كافيه النادي. "عايزنا نرجع زي زمان.. قول للزمان ارجع يا زمان" وضحك الأستاذ مصطفى وضحكت معه حتى دمعت عيناه الخضراوين. لا يمكنني زيارته كما وعدته مع الأسف.