في 24 سبتمبر 1973، كتبت زوجة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، السيدة تحية، مذكراتها على ورق مسطر في نحو 175 صفحة.
كان من بينها، أنه في يوم 22 يوليو 1952 في السابعة صباحا "دخل جمال الحجرة، وكان يلبس الملابس العادية -القميص والبنطلون- ولم ينم طوال الليل، جلس في حجرة السفرة يشتغل كالليلة السابقة، حياني واستعد للخروج، واستبدل بملابسه العادية الملابس العسكرية، وتناولنا الإفطار سويّا".
وأضافت: "خرج ورجع عند الظهر ومعه عددا من الضباط زملاؤه، وتناول الغداء مع الضباط، وظل معهم في الصالون وحجرة السفرة وقتا ثم خرج الضيوف.
تحدث معي جمال وقال: لم لا تخرجين وتأخذين معك هدى ومنى وخالد وتذهبون للسينما، والجو حار وتتسلون ويذهب معك إخوتي. فقلت: نعم سأفكر في الذهاب، وحيّاني وخرج".
وتتابع تحية عبد الناصر في مذكراتها: "وقبل الساعة الحادية عشرة مساء، قمت ودخلت حجرة النوم؛ رجع جمال ودخل الحجرة، فقلت في نفسي: إنه لم ينم ولا ساعة منذ يومين وها هو ذا الليلة سينام مبكرا. وجدته -بعد أن غسل وجهه- فتح الدولاب وأخرج البذلة العسكرية يرتديها، فقمت وجلست وقلت له بالحرف: أنت رايح فين بالبدلة الرسمية دلوقت؟ وكانت أول مرة أسأله أنت رايح فين منذ زواجنا؛ فرد علىّ بكل هدوء وصدر رحب: أنا لم أكمل تصحيح أوراق كلية أركان حرب، ويجب أن أنتهي من تصحيحها، وغدا تكون كلها كاملة التصحيح، ومنذ يومين وأنا أشتغل هنا، والضابط الذي يجلس معي ونشتغل سويّا قال لي نسهر الليلة في بيته نكمل تصحيح الأوراق، وسأذهب إلى الكلية وسوف لا أرجع البيت الليلة، وانتظريني غدا وقت الغداء، وحياني. وقبل خروجه من الحجرة قال لي: لا تخرجي.
ماذا حدث في تلك الليلة؟
كانت خطة التحركات العسكرية لقوات الثورة ليلة 23 يوليو 1952 قد وضعها زكريا محى الدين، بينما أشّر جمال عبد الناصر بيده على بعض الإضافات.
وتضمن خطاب الخطة العسكرية -الذي جاء بخط يد زكريا محى الدين- أن خطة التحركات العسكرية لقوات الثورة، تم شرحها بمعرفته في اجتماع القيادات بمنزل خالد محى الدين بمصر الجديدة، بعد ظهر يوم 22 يوليو 1952، هذه الخطة وضعت في تاريخ سابق بمنزل عبد الحكيم عامر بالعباسية، وعرضت على جمال عبد الناصر، فأشر بيده على بعض الإضافات.
وفي مذكراته "كنت رئيساً لمصر"، كتب الرئيس الراحل محمد نجيب: "انتهى الأمر إلى التسليم بالخطة التي وضعها زكريا محيي الدين، المدرس بكلية أركان الحرب في ذلك الوقت، والتي تقضي بأن أبقى في المنزل"؛ أما عبد الناصر فروى أنه "في ليلة 23 يوليو، لو كُنا نحسب العملية بالورقة والقلم، كُنا لقينا النجاح نسبته ضعيفة. كنا قوات قليلة، والخطة لم تكُن بلغت لكل الناس، زي دلوقتي كنت بمُر من الصبح على الضباط اللي هيشتركوا في الثورة، وكان من المفترض أنها تُنفذ في ليلة 22 يوليو ولكن لم تكُن الخطة اكتملت".
حكايات السادات
يحكي الرئيس الراحل أنور السادات في الفصل الرابع من كتابه "يا ولدي هذا عمك جمال"، عن الهيئة التأسيسية لتنظيم الضباط الأحرار، مُشيدا -بين سطور وأخرى- بعبقرية الرئيس جمال عبد الناصر التنظيمية؛ وأوضح أن التقدير الذي كان سائدا بين أفراد الهيئة هو القيام بحركتهم في عام 1955، ولكن الظروف المحلية والدولية دفعتهم لتقديم الموعد "كان ذلك التقدير مبنيا على الحساب الدقيق الذي كان يحسبه عمك جمال كعادته يوما بيوم، منذ أن تولى أمر هذه الثورة عام 1943، أي قربة تسع سنوات كاملة".
وأضاف: "وكانت نظرية عمك جمال أن الثورة من غير تنظيم قوي يسندها ويشد من أزرها لن تكون لها ثمرة".
ثم حكى السادات عن الاجتماع الذي انعقد في الأسبوع الأول من يناير عام 1952، في منزل حسن إبراهيم، والذي قررت فيه الهيئة التأسيسية بدء التحرك ضد النظام الملكي في نوفمبر من العام نفسه؛ وادعى أنه في عقب حريق القاهرة "بدأ الملك فاروق في التفكير في الهروب من مصر، وأعد قائمة بمن يريدهم أن يستصحبوه في هروبه، وفاتح بعضهم فعلا، وأعد حقائبه".
وأشار السادات إلى أنه في عقب فوز الضباط الأحرار بدأ عبد الناصر في استشعار الصدام بين التنظيم ووزير الحربية الجديد حيدر باشا "وفكر عمك جمال يا بني بسرعة.. تماما كما فكر ساعة أن سمع أزيز القاذفات البريطانية التي جاءت لتضرب مصر في مساء 31 أكتوبر 1956.... وانتهى إلى قرار هو أنه إذا كان لابد من بدء صراع، فليكن هذا الصراع من أجل مصر لا من أجل تشكيل الضباط الأحرار. وكان قرار بدء الثورة".
وتعددت حكايات السادات بشأن ليلة 23 يوليو 1952، والتي حكى كل منها في موضع يبعد زمنيا ومكانيا عن الآخر. ففي لقاء صحفي أقيم بدار "أخبار اليوم" بعد الثورة، جلسَ السادات يروي للصحفيين الأجانب ما حدث له ليلتها. قال: "وضع عبد الناصر كل ترتيبات الحركة -ليس زكريا محيي الدين كما قال نجيب- وعرف كل منّا دوره، ولكن موعد قيام الحركة لم يكن قد تقرر، كل ما كنت أعرفه أنها ستحدث أوائل أغسطس".
وأضاف: "سافرت العريش لأطلب من الضباط الذين أعتمد عليهم أن يستعدوا، ثم عدت إلى القاهرة مساء 22 يوليو 1952، وصحبت زوجتي إلى السينما، حيث تعودت أن أذهب في أيام إجازتي إلى سينما صيفية نظراً لاشتداد الحرارة، ولم يكن عندي أدنى فكرة بأن الأوامر تغيرت، وأن الرأي قد استقر على تنفيذ خطتنا بعد منتصف ليل 22 يوليو".
وتابع: "تصادف أن قطعت الكهرباء في السينما وتعطل العرض، فانصرفنا منه متأخرين نصف ساعة عن الموعد المعتاد، ولما ذهبت إلى المنزل وجدت ورقة تركها لي البكباشي جمال عبد الناصر، يخبرني فيها بأن الأوامر تغيرت، وتقرر القيام بالحركة بعد منتصف الليل، ولم تكن رسالة جمال رمزية ومبهمة، وإنما كانت مكتوبة بصراحة تامة".
وأكمل قائلا: "ارتديت ملابسي العسكرية وركبت السيارة وتوجهت إلى مقر القيادة بكوبري القبة، وعندما وصلت إلى سلاح السواري أوقفني بعض الضباط الصغار ومنعوني من المرور، إذ كانت الحركة قد بدأت وصدرت الأوامر المشددة بمنع مرور أى ضابط".
وأضاف: "كُنا قوات قليلة حوالي 90 ظابط، والخطة لم تكُن بلغت لكل الناس، زي دلوقتي، كنت بمُر على الضباط، من الصبح اللى هيشتركوا في الثورة، وكان كُلي ثقة وإيمان في الله وفي هذا الشعب، وبعد الضهر اجتمعت القيادة وقررت تنفيذ الثورة، وكان من المفترض أنها تُنفذ في ليلة 22 يوليو ولكن لم تكُن الخطة اكتملت".
وبسبب عدم اكتمال الخطة، أجل الثٌنائي عبد الحكيم عامر وجمال عبد الناصر الثورة لمدة 24 ساعة، حتى تكتمل الخطة ويتم إبلاغ كافة القيادات المُشتركة، وتم اختيار توقيت الثورة نظرا لأن الملك فاروق كان يقضي عطلة الصيف في مدينة الإسكندرية.
رواية أخرى في "البحث عن الذات"
ورغم أنه لم ينفي ما حدث في تلك الليلة قط، روّج الرئيس السادات في كتابه "البحث عن الذات" أنه المؤسس الحقيقي لتنظيم الضباط الأحرار، وهو الذي أعلن بصوته قيام الثورة، وهو الذي أرغم الملك فاروق على مغادرة مصر إلى المنفى.
كما زعم أن أول تنظيم سرى للضباط أسس سنة 1939، وأنه كان هو نفسه قائداً لهذا التنظيم الذي ضم عبد المنعم عبد الرؤوف وعبد اللطيف البغدادي وحسن ابراهيم وخالد محيي الدين وأحمد سعودي حسين وحسن عزت وأحمد إسماعيل.
وكتب: "عندما دخلت المعتقل في صيف 1942 كان عبد الناصر ما زال في السودان، ولكن بمجرد نزوله بكتيبته ووصوله إلى مصر في ديسمبر 1942 اتصل به عبد المنعم عبد الرؤوف لضمه إلى التنظيم. واستجاب عبد الناصر على الفور".
وأشار السادات إلى أنه في أوائل سنة 1943 تسلم عبد الناصر التنظيم، بعدما تمكّن من إزاحة عبد المنعم عبد الرؤوف.
وكتب: "صحيح أنني كنت بدأت تنظيم الضباط الأحرار، ولكنني بقيت بعيداً عن التنظيم ثماني سنوات، وهي الفترة ما بين فصلي من الجيش سنة 1942 وعودتي إليه سنة 1950".
لكن، يفند الكاتب الكبير الراحل محمد حسنين هيكل، كلام السادات في كتابه "خريف الغضب". حيث كتب: "في النصف الثاني من سنة 1951 أصبح أنور السادات عضواً في تنظيم الضباط الأحرار، وكان جميع أعضاء اللجنة التأسيسية للتنظيم يعارضون انضمامه. ومنذ انضمامه إلى التنظيم في سنة 1951 وحتى نهاية العام نفسه، حضر اجتماعين. فقط، وطوال النصف الأول من سنة 1952 حضر اجتماعين آخرين".
كما ذكر الراحل خالد محيي الدين في كتابه "الآن أتكلم" أن الاجتماع الأول لتنظيم الضباط الأحرار جرى في خريف عام 1949 في منزل جمال عبد الناصر في كوبري القبة؛ وحضره عبد الناصر وخالد محيي الدين وعبد المنعم عبد الرؤوف وكمال الدين حسين وحسن إبراهيم وتغيب عبد الحكيم عامر.
ويضيف خالد محيي الدين: في سنة 1951 أصبحت لجنة القيادة مؤلفة من: جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر وحسن ابراهيم وعبد المنعم عبد الرؤوف وصلاح سالم وعبد اللطيف البغدادي وكمال الدين حسين وخالد ومحيي الدين؛ أي أن أنور السادات لم يكن في قيادة التنظيم، بل انضم في أواسط، وربما في أواخر عام 1951 بعد عودته إلى صفوف الجيش.
ونعود إلى السادات نفسه في كتابه "قصة الثورة كاملة"، الذي ناقض ما قاله فيما بعد في "البحث عن الذات"، عندما ذكر في فصل "الضباط الأحرار" أنه بعد الخسائر التي لاحقت تنظيم الضباط الأحرار في حرب فلسطين، عاد الباقون للعمل على إيجاد هيئة تأسيسية، تسعى للسيطرة الكاملة على الجيش، كخطوة للسيطرة على البلاد.
كتب السادات: "وتكونت الهيئة التأسيسية فعلا، وكانت تضم جمال عبد الناصر وكمال الدين حسين وحسن إبراهيم وخالد محيي الدين وعبد المنعم عبد الرؤوف. ثم تضاعف نشاط الضباط الأحرار بعد تلك الخطوة، مما حتّم زيادة أعضاء الهيئة التأسيسية، فانضم إليها عبد الحكيم عامر وجمال سالم وصلاح سالم، وعبد اللطيف البغدادي، وكاتب هذه السطور".
اقرأ على صفحات “البوابة”