يومًا بعد يوم، تتزايد الطعنات الموجهة لشخص الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، حتى باتت كل مناسبة تخصه تحتفل بها مصر موسمًا للهجوم عليه، وفرصة للموتورين للتعبير عن كراهية زعيم حركة ٢٣ يوليو ١٩٥٢، وخاصة التنظيم الدولي لجماعة الإخوان الإرهابية، الذي عجز عن الاستيلاء على الحكم، وتلقى ضربات موجعة كادت تقضي على وجوده.
في أعقاب يوليو، وضعت الثورة الجميع في اختبار حقيقي، خاصة إبان أزمة الحكم، ففي اللحظة التي تبحث فيه البلاد عن التكاتف وإعلاء المسألة الوطنية وتحقيق مبادئ الثورة، فإن جماعة الإخوان الإرهابية أعطت الأولوية للسيطرة على القرار السياسي تمهيدا للوصول للحكم والاستحواذ عليه، ما جعلها ثقلا وأزمة كبيرة في طريق التنمية الذي بادرت إليه الثورة.
ودون الوقوع في تعميمات وشعارات مؤيدة للنهاية، أو معادية، وفي كثير من الأحيان حاقدة، فإن الثورة مضت في طريقها على نحو "تجريبية المحاولة والخطأ في إطار تحقيق المبادئ والأهداف التي يتضمنها برنامجها النظري العملي"؛ بحسب وصف المفكر اليساري محمود أمين العالم ضمن مشاركته "مصر عبد الناصر" في كتاب "٢٣ يوليو خمسة أبعاد"، ومستكملا "أنها كانت ثورة من أجل الاستقلال الوطني والتنمية الاقتصادية والاجتماعية، ثورة استقلال وتحديث، ثورة معادية للاستعمار والإمبريالية ومعادية للتخلف الإقطاعي والاحتكار الرأسمالي"، لكنها في ظل طريقها الهادف للتنمية والاستقلال كانت الجماعة مُصرة على عرقلتها طالما لم تمض تحت لوائها.
الاستحواذ على القرار السياسي
اتفقت شهادة أحمد حمروش، أحد الضباط الأحرار في كتابه "ثورة ٢٣ يوليو"، مع خالد محيي الدين، أحد الضباط الأحرار في كتابه "والآن أتكلم"، مع شهادات لآخرين وثقها المؤرخ الناصري عبدالله إمام في كتابه "عبدالناصر والإخوان المسلمون"، على أن جماعة الإخوان حاولت فرض وصايتها على السلطة الجديدة، وإخلاء الساحة لها وحدها، بل وإظهار سطوتها على الجميع.
ولا يخفى على أحد أن العلاقات كانت وطيدة بين جماعة الإخوان وبين مجموعة الضباط الأحرار، بل إن بعض الضباط كانوا ينتمون فكريًا إلى الجماعة، لكن جمال عبدالناصر التزم بعدم وقوع تنظيمه تحت أي تأثير حزبي، وفي هذا الصدد تبرز شهادة خالد محيي الدين التي توضح فطنة ناصر في التواصل مع القوى المختلفة، بل والعدوة له، قائلا: "أود أن أقرر أنني لم أعتقد يومًا أن عبدالناصر كان خاضعًا للأمريكيين، لكنه كان رجلا يعرف كيف يتفاهم مع القوى المختلفة، بل ومع الأضداد، ومحاولا أن يستخلص مصلحته هو من مثل هذا التفاهم، فمنذ البداية الأولى لإنشاء تنظيم الضباط الأحرار كان جمال يتفاهم مع الإخوان، ويتفاهم أيضا مع الشيوعيين، ولم يكن يجد غضاضة في ذلك، لكنه كان حريصًا على ألا يسمح لأي طرف منهما بالسيطرة عليه أو التحكم في مسيرة التنظيم".
ووفقا للعبة السياسية فإن ناصر حاول كسب الإخوان إلى صفه، فأفرج عن عدد من المعتقلين الإخوان ممن ارتكبوا حوادث اغتيالات وإرهاب، وهو ما انتقده "محيي الدين" وعدَّه نوعًا من الأخطاء الكبيرة التي ارتكبت في سبيل كسب الإخوان.
كما عرض عليهم ناصر المشاركة في وزارة محمد نجيب الأولى، فاقترح المرشد العام حسن الهضيبي كل من أحمد حسن الباقوري لوزارة الأوقاف وأحمد حسني لوزارة العدل، وتم الاتصال بهما فعلا، ثم حضر حسن عشماوي ومنير الدلة موفدين من المرشد العام لتغيير المقترحين السابقين، بحجة أن ترشيحهما كان من المرشد بشكل شخصي ولم يكن من مكتب الإرشاد، وهو ما رفضه مجلس القيادة بـ"شدة وحدة" حسب وصف "محيي الدين" لأنها ربما تكون محاولة من الجماعة لإظهار سطوتها على الحركة وقدرتها على التلاعب بها.
ووفقا لـ"محيي الدين" فإن الباقوري تحدى أوامر الجماعة وقبل الوزارة، وحدث أول شرخ في العلاقة بيننا وبين الإخوان، وتضاعف الشرخ في صفوف الجماعة، ذلك الشرخ الذي لعب عليه عبدالناصر كثيرًا، مستفيدًا منه في استقطاب عناصر هامة من الجماعة، ومن جهازها السري إلى صفه ضد الهضيبي.
ضد مفاوضات الجلاء
ركزت الجماعة وسط أزمة الحكم على بسط نفوذها وتأكيد وجودها وقوتها، وحينما أحست بالمعارضة الشديدة من قبل عبد الناصر ورفاقه زادت من التحريض ضده، وشحن أعضاء وشباب الجماعة، بداية من أن ناصر أخلف وعده لهم بتطبيق الشريعة حال انتصار الحركة، مرورا بتفتيت رقعة الأرض الزراعية، وتمكين الإنجليز من العودة إلى مصر في أي وقت، ومقابلة مسئولين إسرائيليين في خليج العقبة على متن سفينة من أجل الاتفاق لبيع فلسطين لهم، وكلها مزاعم تشبه حاليا نفس الأكاذيب التي ترددها الجماعة الإرهابية منذ عزلهم وكسر شوكتهم في أعقاب ثورة ٣٠ يونيو ٢٠١٣. وأشار "حمروش" في كتابه إلى موقف الجماعة من قرارات يوليو، قائلا: "بعض تصرفات الحركة وقراراتها لم تجد قبولا أو حماسًا عند الإخوان، فقد مرَّ قانون الإصلاح الزراعي دون كلمة تأييد واضحة منهم، واستقبلوا إقالة رشاد مهنا بفتور شديد فقد كان قريبا منهم، وراهنوا عليه أحيانا بأنه سيكون الجواد الفائز".
يشرح علي عشماوي، قائد التنظيم الخاص والمنشق عن الجماعة لاحقا، في كتابه "التاريخ السري لجماعة الإخوان المسلمين" كيفية استغلال الجماعة لمفاوضات الجلاء من أجل إحراج ناصر، قائلا: "الواقع أن اختلاف الإخوان في هذا الأمر (يقصد الجلاء) كان نابعًا من إحساسهم بخروج عبدالناصر ومن معه على قيادتهم، وقد تم اختيار هذا الموضوع ليكون سببا للصدام لما له من ثقل وطني في حس الناس، مما يعطي للإخوان تأييدًا شعبيًا في صدامهم مع رجال الثورة". وأضاف: "بدأت المنشورات توزع على الإخوان في الشُعب وفي أماكن تجمعهم تشرح الخلاف من وجهة نظر الإخوان، فقد كانوا يرون أن احتفاظ الإنجليز بقاعدة قناة السويس هو بيع للقضية وأن الإخوان يفضلون الكفاح المسلح".
في مذكرات عشماوي، يلاحظ القارئ الشائعات التي أطلقتها الجماعة بعد مظاهرات عابدين فبراير ١٩٥٤، منها أن الحكومة تنوي اغتيال المرشد العام، فوضعت الجماعة حراسة له، ومنها أن كمال السنانيري، أحد أهم قيادات التنظيم الخاص، زعم أن الضباط الأحرار كونوا تشكيلا تابعا للإخوان داخل القوات المسلحة، اتفقوا على اتباع المرشد وقيادة الإخوان في المرحلة الانتقالية حتى يتم الإعلان الرسمي عن تطبيق شرع الله، لكنهم بعد أن استتب الأمر خرجوا على القيادة، وأن الإخوان مقبلون على معركة مصيرية معهم، وأن النصر من عند الله.
إجهاض مؤامرة
تحدث عشماوي تفصيليا عن خطة الصدام ومؤامرة الإخوان لتنفيذ انقلاب دموي يطيح بمجلس القيادة يتمثل في: أولا، تأمين الجيش عن طريق بعض الإخوان الذين كانوا في الخدمة ولا يعلم بهم عبدالناصر، وكان على هؤلاء واجب تحييد الجيش فقط والتأكد من عدم تحرك وحدات أخرى لقمع الحركة الشعبية المخططة. ثانيا، القبض على بعض الشخصيات المهمة والتي لها ثقل عند الصدام، وإذا لم يتمكن من القبض عليهم هناك خطة بديلة لاغتيالهم. ثالثا، قيام جميع الإخوان على مستوى الجمهورية بالاستيلاء على أقسام البوليس والمباني المهمة كلٌ في حدوده مستعينا بأقل عدد من الإخوان المدربين. رابعا، تقوم المجموعات الوافدة إلى القاهرة بالانضمام إلى إخوان القاهرة في عملية الاستيلاء على المباني الحكومية ذات التأثير مثل مبنى الإذاعة، أقسام البوليس، قطع الطرق المؤدية من ثكنات الجيش إلى داخل القاهرة، قطع الطرق الداخلة إلى القاهرة من جهة الإسماعيلية. خامسًا، حصار الطلبة بعد مظاهرات مسلحة للقصر الجمهوري والاستيلاء عليه. وفي النقطة الأخيرة تجدر الإشارة لانتفاع الجماعة بعد المظاهرات التي وقفت أمام قصر عابدين ولم تهدأ إلا بعد استعانة الرئيس محمد نجيب بعبدالقادر عودة، أحد قيادات الجماعة، الذي لمحه في الصفوف يلوح بقميص ملوث بالدماء، هذه الحادثة أشاعت وسط الإخوان أن هذه اللحظة كانت فرصة للانقضاض على القصر وإلقاء القبض على مجلس قيادة الثورة، ومن ثم الانفراد بالسلطة، ما سيجعلهم يفكرون بجدية في استعادة هذه الفرصة مجددا.
وشهد العام ١٩٥٤ أحداثا متصاعدة، بدأ في يناير بقرار حل جماعة الإخوان بعد سنتين كاملتين من استثناء الجماعة من حل الأحزاب، استندًا إلى تقاعس الجماعة في دعم الثورة، وعدم تأييد قانون الإصلاح الزراعي، ومحاولة فرض الوصاية على الحركة، والتسرب إلى ضباط الجيش وتشكيل وحدات تحت إشراف المرشد مباشرة، تشكيل جهاز سري خاص بعد حل الجهاز السري الذي كان يشرف عليه عبدالرحمن السندي، والاتصالات المستمرة بين أعضاء الجماعة والسفارة البريطانية.
وفي مارس كانت الأزمة الشهيرة وقرارات ناصر بحل مجلس قيادة الثورة إلى جانب عدة قرارات أخرى تم التراجع عنها في ٢٩ مارس لاحتجاج أسلحة في الجيش، وفى ١٨ أبريل أعلن مجلس قيادة الثورة إعادة تشكيل الحكومة بدون محمد نجيب وبرئاسة عبدالناصر، وفى ٢٦ أكتوبر أطلق أحد أفراد الجهاز الخاص للإخوان الرصاص على عبدالناصر في حادث المنشية بالإسكندرية، فارتبكت الجماعة وخاصة الأعضاء الذين لا يعلمون بهذه الحادثة، وتعطلت خطة انقلاب الجماعة، تلاها تحركات عاجلة من الحكومة حيث صدرت تعليمات باعتقال أعضاء الجماعة.
وبحسب عشماوي، فإن الحادث تصرف فردي قامت به مجموعة ذهبت بها الحماسة إلى آخر المدى ولم تعد قادرة على الانتظار أو التحكم مع الشحن المستمر ووجود السلاح بين أيديهم، لكن الكاتب عبدالله إمام يوثق اعترافات هاني دوير أنه تلقى تعليمات من التنظيم السري بقتل جمال عبدالناصر، وأنه كلف محمود عبداللطيف بهذه المهمة وأعطاه طبنجة الحادث.
انتهازية الجماعة
تنتهي مؤامرة الإخوان، ليبدأ بعدها سيد قطب ومجموعته في إحياء التنظيم الخاص والتدبير لمؤامرة أخرى انتهت بالقبض عليهم وتقديمهم للمحاكمات عام ١٩٦٥.
وظل عبدالناصر حتى آخر لحظة في حياته مؤمنا بأن الإخوان أعداء الثورة، ونقلا عن محمود أمين العالم فإن عبد الناصر في إحدى الجلسات الأخيرة للجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي قبل وفاته بقليل، تصدى للرد على سؤال خاص بالاستعانة بالشيوعيين في مجال الإعلام والثقافة دون اليمين المتطرف، فرد ناصر بوضوح أنه لا مكان لليمين المتطرف الذي يشكل عدو الداخل للثورة. ولا يمثل الإخوان عداء للثورة فقط وإنما يمثلون العداء الحقيقي للوطن على طول الخط، وهو ما أشار إليه البعض من أنها جماعة تبتعد عن الخط الوطني، ورغم موقف الكاتب والمفكر طلعت رضوان من ثورة يوليو ومن قادتها، حيث وجه لهم انتقادات لاذعة طوال مقالاته، فإنه أصر على وصف جماعة الإخوان بالوعي الزائف والحل السحري لعودة المحتل الأجنبي.
ويعتقد "رضوان" أن نمو الوعي القومي في أعقاب ثورة المصريين ١٩١٩ شكلَّ خطرًا كبيرا على الوجود الإنجليزي في مصر، ما دفع المحتل للبحث عن حلول سحرية لمواجهة مثل هذا الوعي بوعي بديل زائف يمكن تغذيته لضمان وجودهم وشعورهم بالأمان، فكان الحل في دعم جماعة الإخوان لتمكين شعارات الانتماء للدين بدلا من الانتماء للوطن الذي يسهل معه الجمع بين كل طوائف الشعب في هدف واحد.