لقد ذكرنا في المقالات السابقة حتمية استخدام العقل والفلسفة في التعامل مع الدين والحياة، فهل هذا يعني أن تحل الفلسفة والعقل محل الدين؟ إن الفلسفة منذ أنزلها "سقراط" من السماء إلى الأرض ووجه العقل الإنساني إلى محاولة اكتشاف ذاته - اعرف نفسك - لم تتفق على رأي في نظرتها إلى الإنسان أهو روح أم مادة؟ جسم يفنى أم روح يبقى؟ عقل أم شهوة؟ ملاك أم شيطان؟ الأصل فيه الخير أم الشر؟ أهو إنسان كما نراه أم ذئب مقنع؟ أهو أناني أم غيري؟ أهو فردي أم جماعي؟ أهو ثابت أم متطور؟ أتجدي فيه التربية أم لا تجدي؟ أهو مختار أم مجبور؟ اختلفت الفلسفات في الإجابة عن هذه التساؤلات وتناقضت، فلا تستطيع أن تخرج منها بطائل حتى قال الدكتور عبد الحليم محمود رحمة الله عليه - وهو أستاذ الفلسفة في كلية أصول الدين - قبل أن يكون شيخًا أسبق للأزهر الشريف: (الفلسفة لا رأي لها؛ لأنها تقول الرأي وضده والفكرة ونقيضها)، هنا نجد الفلسفة الإلهية مناقضة للفلسفة المادية، والفلسفة المثالية مناقضة للفلسفة الواقعية، وفلسفة الواجب معارضة لفلسفة المنفعة أو اللذة، إلى آخر ما نعرفه من تناقضات في الساحة الفلسفية، فهذا يثبت وذاك ينفي، وهذا يبني وذاك يهدم. ومن هنا نقول لا تستطيع الفلسفة وحدها أن تهدى الإنسان سبيلًا، أو تمنحه منهجًا يركن له ويطمئن إليه، ويقيم حياته على أساسه.
وأبعد الفلسفات عن هداية الإنسان وإسعاده هي الفلسفات المادية، التي تنكر أن للكون إلها، وأن للإنسان روحا، وأن وراء الدنيا آخرة وعلى رأس هذه الفلسفات المادية: الفلسفة الماركسية القائمة على المادة الجدلية، والتي تتبنى مقولة بعض الفلاسفة الماديين: ليس صوابا أن الله خلق الإنسان بل الصواب أن الإنسان هو الذي خلق الله!! ومثل ذلك: الفلسفات العبثية والعدمية والشكية، فكلها فلسفات تهدم ولا تبني، وتميت ولا تحيي، ومع الأسف قد انتشرت أفكارها في السنوات الأخيرة بين الشباب مع موجة الإلحاد المعاصرة.
ويبين العلامة الدكتور عبد الله دراز الفرق بين الفلسفة والدين فيرى أن الفلسفة فكرة هادئة باردة، أما الدين فهو قوة دافعة فعالة خلاقة، لا يقف في سبيلها شيء في الكون. ذلك هو فصل ما بين الفلسفة والدين غاية الفلسفة المعرفة، وغاية الدين الإيمان، مطلب الفلسفة فكرة جافة ترتسم في صورة جامدة، ومطلب الدين روح وثابة وقوة محركة، لا نقول كما يقول كثير من الناس إن الفلسفة تخاطب العقول، وإن الدين في كل أوضاعه لا يقنع بعمل العقل قليلًا أو كثيرًا حتى يضم إليه ركون القلب، إن الفلسفة تعمل إذا في جانب من جوانب النفس والدين يستحوذ عليها في جملها، ومن هنا يُستنبط فرق دقيق بين الفلسفة والدين، ذلك أن غاية الفلسفة نظرية حتى في قسمها العملي، وغاية الدين عملية حتى في جانبه العلمي، فأقصى مطالب الفلسفة أن تعرفنا الحق والخير ما هما؟، وأين هما؟ ولا يعنيها بعد ذلك موقفنا من الحق الذي تعرفه والخير الذي تحدده، أما الدين فيعرفنا الحق لا لنعرفه فحسب بل لنؤمن به ونحبه ونمجده، ويعرفنا الواجب لنؤديه ونوفيه، ونكمل نفوسنا بتحقيقه.
ثم يبين الدكتور دراز أن الدين حركة شعبية ديمقراطية عامة، والفلسفة حركة أرستقراطية خاصة، فالدين يسعى بطبيعته إلى الانتشار والفلسفة تجنح إلى العزلة، داعية الدين وسط الجماهير ورجل الفلسفة في برجه العاجي، فإذا رأيت فيلسوف يدعو إلى مذهبه فقد تغير وضعه وتحولت فكرته إلى إيمان، وإذا رأيت مؤمنا لا يهتم إلا بنفسه فقد استحالت نار إيمانه إلى رماد. أما دعوى الماركسيين أن الدين أفيون الشعوب يفعل في عقولها ما تفعله المخدرات بالأفراد، ويشغلهم عن حقوقهم المسلوبة بأماني الآخرة، ويخضعهم لإرادة الظلمة والطغاة فيطيعونهم وهم راضون - فهي دعوى باطلة، ذلك أن الدين الصحيح لا يخدر الشعب ولا يلهيه عن المطالبة بحقه في الدنيا استغراقًا بطلب النعيم في الآخرة، الدين الصحيح لا يقر الظلم ولا يرضى بالفساد والانحراف، فإن صح هذا الادعاء في شأن بعض الأديان، فلا يصح بحال في شأن الإسلام. الإسلام في الحقيقة كما يقول الشيخ الغزالي المعاصر ثورة إنسانية كبرى ثورة لتحرير الإنسان ـ كل إنسان ـ من العبودية والخضوع لغير خالقه ثورة في عالم الفكر والضمير والشعور، وثورة في عالم الواقع والتطبيق.
إذن ما نريده هو الجمع بين الفلسفة والدين، لا أن يحل أحدهما محل الآخر، نريد أن يكون شخص واحد فليسوفًا وعالمًا دينيًا، وهذا ما تحقق في كثير من علماء الإسلام، ومنهم الشيخ محمد عبده، يقول الدكتور الفيلسوف عثمان أمين: (لقد تبدت له – أي للإمام محمد عبده - صورة "الفيلسوف المسلم" في وضوح تام، أعني صورة لتلك الشخصية الواحدة والعقلية المتسقة التي تجمع بين الفلسفة والإسلام، دون تفريط في شيء منهما. أراد الشيخ محمد عبده أن يكون مسلمًا حقًا، وأراد أن يكون فيلسوفًا حقًا، واستطاع أن يتصور بين هاتين الصفتين رابطة داخلية وثقى تمسك عليهما وحدتهما، ولا توهن من قوتهما. محمد عبده فيلسوف ومحمد عبده مسلم: فالفيلسوف في نظره يقدم إلى المسلم منهجًا يستطيع أن يسير به من الاعتقاد والإيمان إلى الفهم والعقل، والمسلم يهدي إلى الفيلسوف نورًا اقتبسه من عالم التنزيل وحقائق ما فوق الطبيعة).
وإذًا فلن توفق الفلسفة إذا أرادت أن تقوم مقام الدين، وكل فلسفة تزعم إمكان الاستغناء عن الله هي فلسفة خاطئة ناقصة، وكذلك كل عقيدة تحاول أن تنازع الفلسفة أو أن تخرج على النظر والاستدلال المؤدي إلى معرفة أدلة قواعد الدين هي عقيدة باطلة ضائعة. إنما تحقق الفلسفة مقاصدها بقدر الإمكان حين يكون الإيمان ملازمًا لها غير منفك عنها، وكلما كان ذلك الإيمان أقوى وأتم كانت الفلسفة أقدر على قطع الأشواط البعيدة والتحليق إلى شواهق الخير والحق والجمال.