لا شك أن هجرة النبي صلى الله عليه وسلم حادث جلل، وتأصيل لدين جديد أتى به النبي، هذا الدين هو الدين الخاتم، وهذا النبي خاتم الأنبياء والمرسلين؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا نبي بعدي»، هذه واحدة.
أما الثانية: فبعد أن اشتد إيذاء مشركي مكة للنبي وصحابته، وبعد أن مات عمه وزوجه صلى الله عليه وسلم، وبعد أن تخلى الكفلاء عنه، وبعد أن قُذف بالحجارة حتى تورمت قدماه أذن لبعض أصحابه بالهجرة سرًا إلى الحبشة؛ حيث بها ملك عادل لا يظلم عنده أحد.
ثم بعد ذلك أذن الله لنبيه بالهجرة إلى المدينة المنورة (طيبة الحبيبة)، فارًّا بدينه من هؤلاء، فأعطى إشارة الهجرة للمستضعفين من أصحابه أن يهاجروا سرًّا فلبوا نداءه صلى الله عليه وسلم.
ومنهم من هاجر جهرًا في وضح النهار كعمر بن الخطاب وحمزة بن عبد المطلب أسد الله، قائلين قولتهما المشهورة، من أراد أن ترمل نساؤه، أو تيتم أطفاله، أو تثكله أمه فليلحق بنا خلف هذا الوادي.
أما الثالثة: وصول نبأ هجرة النبي لصناديد وطواغيت الكفر والشرك وإجماعهم على قتل النبي والتربص به أمام منزله الشريف، واعتمادهم القرار بقتله ضربة رجل واحد فيتفرق دمه على القبائل.
لكن هيهات هيهات، أنا لهم، هذا والله عاصمه من الناس «والله يعصمك من الناس».
والرابعة: لقاء النبي صلى الله عليه وسلم بسيدنا الصديق سرا بليل في بيت أبي بكر وإخباره بالهجرة، فبادره الصديق الصحبة الصحبة يا رسول الله واتفقا على الموعد المبارك.
وخرج الصديقان سرا بليل ولا يعلم بذلك إلا ابنة الصديق وسيدنا علي، ودليل النبي، وقال قولته المشهورة، والله يا مكة إنك لاحب بقاع الأرض إلى قلبي ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت.
الخامسة: خروج النبي صلى الله عليه وسلم ملقيا التراب على وجوه وعمائم هؤلاء تاليا قوله تعالى: (وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فاغشيناهم فهم لا يبصرون).
أما السادسة: المفارقات التي حدثت مع النبي وصحبه في طريق الهجرة وفي الطرق الوعرة، ولحاق سراقة بهما وما حدث فى الغار وكيف أمنه أبا بكر بتخطيط استراتيجي بخطط تمويهية، وكيف لدغ الثعبان سيدنا الصديق، ومقولته المشهورة، لو نظر أحدهم تحت قدميه لرأونا، ورد الواثق بربه، ما بالك باثنين الله ثالثهما (إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا).
والجواب الشافي الكافي الوافي (فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها)، فأتاهما المدد من الله تعالى ولم لا وهو تعالى بالغ أمره، وهذا درس أخلاقي قيم، فمهما اجتمع أهل التيه والباطل والضلال على أهل الحق في كل زمان ومكان فإن تأييد الله لأهل الحق دوما.
السادسة: نجاح الهجرة السرية ووصول القصواء تحمل أطهر خلق الله إلى خير بقاع الكون طيبة المباركة واستقبال أهلها للنبي بالورود والرياحين، ولحاق باقي الصحابة بعد أن تركوا كل أموالهم وممتلكاتهم (ربح البيع أبا يحيي، ربح البيع صهيب)
(إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة).
نأتي إلى الأبعاد الدينية للهجرة، تعالوا معي نحلل هذه الأبعاد، صراع بين الحق الباطل، الحق دين جديد يخرج الناس من عبادة الناس إلى عبادة رب الناس.
دين لم يفرق تفرقة عنصرية بين الناس لا فرق بين سادة وعبيد، الكل سواسية أمام الله، دين يخرج الناس من الظلمات ظلمات الجهل والغرور والعجب والكبر، إلى التواضع وطرح الغرور أرضا وقتل العجب في قلوب الناس وطرده بلا رجعة.
دين أعطى للإناث حقهم في الحياة، في المعاملات، في المواريث، في إختيار شريك الحياة في النهي بمنتهى الشدة والحزم عن وأدهم (وإذا الموؤدة سئلت بأي ذنب قتلت).
فحدث هذا الصراع أهل الباطل سيفقدون مكتسباتهم وسيفقدون سيطرتهم وهيمنتهم فحاولوا الدفاع عن ذلك بكل ما أوتو من قوة.
لذلك فر النبي بدينه (ألم تكن أرض الله وأسعة فتهاجروا فيها)، وحدثت الهجرة، وبدأت الوفود تتوافد لمبايعة النبي وبدأ الدين الإسلامي فى التوسع والانتشار، إلى أن أظهره الله وفتح الرسول مكة بعد غزوات منها بدر وأحد (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون).
وراح الإسلام ينتشر عزيزا أبيا بجهود النبي وأصحابه الكرام وبفضل الله وجهود الخلفاء الراشدين، والتابعين وتابعي التابعين، فاللهم أعد للإسلام مجده وأرفع رايته خفاقة في ربوع العالمين.
وإذا ما اتجهنا إلى الأبعاد الأخلاقية، فسنجد من خلال دراستنا لسيرة الهجرة العطرة خصال كثيرة وقيم راقية علمتنا إياها.
أولها: السمع والطاعة (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم).
الرسول الذي تلقى التكليف بتبليغ الدعوة استجاب لأمر الله عندما أمره بالهجرة، هذه الأولى، أما الثانية: استجابة الصحابة للرسول وامتثالهم دون تردد لأمره إياهم بالهجرة الأولى والثانية.
والثالثة: عندما طلب علي بن أبي طالب أن يأذن له بالهجرة وبتخطيط رباني قال له النبي باستراتيجية معصوم ورأس مدبر لا ستنام مكاني كخطة تمويهية واستجابة الإمام للنبي صلى الله عليه وسلم امتثالا لقوله تعالى (من يطع الرسول فقد أطاع الله).
أما القيمة الثانية الإيثار وهذا ما وجدناه عند أبي بكر عندما آثر سلامة النبي على نفسه وقتما لدغه الثعبان، وكذلك عندما كان يسير مرة عن يمينه وأخرى عن يساره وثالثة من خلفه، وعندما سأله النبي لماذا تفعل ذلك رد قائلا لو مت أنا ففرد واحد، أما أنت فموتك هو موت أمة بأكملها.
أيضا وجدنا هذا الإيثار في سراقة بن ناقة عندما ضحى بالمائة جمل وتركه للنبي يذهب ويمضي في طريقه ويدخل فى الإسلام.
وجدنا هذا الإيثار في أهل المدينة على ساكنها أفضل صلاة وأتم سلام، عندما تقاسموا مع المهاجرين أقواتهم واعطائهم منازلهم (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة).
وإذا ما حاولنا أن نتلمس قيمة ثالثة فسنجدها في شجاعة الإمام على وهو يعلم أنه قد يقتله المشركون لكنه نام مكان النبي صلى الله عليه وسلم وخرج النبي آمنا معافا من بيته.
أما القيمة الجميلة التي بها نحيا، قيمة الحب، فما الذي حمل هؤلاء جميعا إلى فعل مثل الأمور وإلى كل هذه التضحيات من ترك أمه وهاجر، من ترك ماله وولده، من أعطى بيته، إنها قيمة الحب لله والحب لرسول الله جادوا بكل شيء حسبة لله وللرسول صلى الله عليه وسلم.
ليتنا نعلي هذه القيمة بيننا فلم التناحر والتشاجر والتقاتل، لم كل هذا الغل والحقد، على ماذا ؟! أعلى دنيا نصيبها بربي وربكم سنتركها، على مال نجمعه سنتركه ولن ينفعنا، على منصب، كله سيزول لن يكون ولن يستمر إلا الحب، لكنها تفنى ويفنى نعيمها وتبقى الذنوب والمعاصي كما هي.
ومن الفضائل الأخلاقية قيمة التعاون، انظروا إلى الرحلة المباركة الرسول وصاحبه، وقاص الأثر، وأسماء ذات النطاقين، الجميع يعمل كخلية نحل، كل يؤدي دوره بإتقان للوصول بالرسول الذي يحمل هذه الرسالة بالوصول به سالما غانما إلى بر الأمان والوصول به إلى المدينة المنورة.
وتجلت هذه القيمة في أروع صورها عندما وصل النبي إلى للمدينة والكل يسارع فى استضافة النبي، والكلام يسارع في إيواء المهاجرين، والكل يد واحدة في بناء مسجد الرسول شرفه الله.
أيضا قيمة التسامح والإخاء فكانت الحروب مستمرة بين الأوس والخزرج فأصلح بينهما النبي صلى الله عليه وسلم، ليس هذا وحسب بل وآخى بين المهاجرين والأنصار في حزب واحد ألا وهو حزب التوحيد.(ألا إن حزب الله هم الغالبون).
وإذا ما أردنا التحدث عن البعد الإجتماعي للهجرة المباركة فقد أدرك النبي أنه لا يمكن بحال من الأحوال أن تنتشر الدعوة إلا إذا أسس وشرعن لدولة المدينة دولة قوامها العدل والمساواة والتكافل الإجتماعي، دولة جعل مركزها الرئيس قلب المدينة مسجده ففضلا عن الصلوات والعبادات كان مكانا لعقد المباحثات فى النواحي العسكرية والإجتماعية ومناقشة أمور المسلمين إذا ما حدث خلاف عن طريق مبدأ ارساه النبي صلى الله عليه وسلم (وشاورهم فى الأمر)، ليس هذا وحسب بل وحل جميع المشكلات التي كان يتعرض لها سكان المدينة.
أما الأبعاد العسكرية، فمن البدهي، لا يمكن بحال من الأحوال أن تستقيم دولة ويستقيم عودها بدون جيش قوي يحمي حماها ومن هنا راح النبي يؤسس هذا الجيش من سبعين رجل إلى سبعمائة، إلى عشرة آلاف، إلى جيوش مجيشة في عهد الخلفاء، إلى أن أصبح جيشا فتح الامبراطوريات العملاقة.
ثم الأبعاد السياسية للهجرة المباركة، مبدأ الشورى، إرسال الرسل إلى البلدان غير المسلم ودعوتهم سياسيًا عبر سفراء محنكين مفوهين، وفي ذلك دعوة للسلام، أسلموا تسلموا يؤتكم الله أجركم مرتين، هكذا كان خطاب النبي السياسي عبر سفراءه الذين كان يرسلهم إلى الأمصار غير المسلمة.
إنها الهجرة هجرة من ديار أهل الكفر والشرك، إلى ديار الإسلام والإيمان، ثم عودة إليها فاتحين إياها ناشرين الدين بعز عزيز أو بذل ذليل.
فهل لنا هجرة الآن، فلا هجرة بعد الفتح الأعظم وإنما جهاد في سبيل الله تعالى، وأعظم الجهاد جهاد النفس وجهاد فى سبيله (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين).