رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

بالعربي

Le Dialogue بالعربي

إبراهيم نوار يكتب: الدبلوماسية المصرية.. تحركات القاهرة من غزة إلى بنغازى إلى الخرطوم

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

لم تشهد الدبلوماسية المصرية فى تاريخها الحديث ضغوطا متعددة الأطراف فى وقت واحد كما تشهد الآن. وتلعب الدبلوماسية والقوة الشاملة، الدور الرئيسى فى المحافظة على الأمن القومى المصرى.
وبعيدا عن التعريفات المتعالية للأمن القومى، ومن أجل أن يقترن تعريف المصلحة القومية عضويا بمصلحة الفرد والدولة والمجتمع، فإننا نلخصه فى ثلاث كلمات فقط هى: البقاء والنماء والارتقاء. وتكون أهداف الأمن القومى هى العمل على هذه المحاور الثلاثة بكل الوسائل الممكنة: الدفاع والدبلوماسية والقانون والتنمية والعدالة.
وتعود الضغوط الحالية التى تتعرض لها الدبلوماسية المصرية إلى أن كل محور من محاور الأمن القومى يواجه تهديدات قوية، تبدأ من أمن الحدود، الذى هو عنصر من عناصر البقاء المستدام، غير المنقوص، وتصل إلى التحديات التى تواجه تحقيق أهداف النماء بما فى ذلك من مهام اقتصادية واجتماعية، وطموحات الارتقاء، بما فيها القدرات التنافسية، والإنتاجية، والارتقاء التكنولوجى.
وليس من الصعب على المتابع للتطورات التى تجرى حولنا، أن يرصد بالعين المجردة، وجود تهديدات حدودية فى الشمال الشرقى، والغرب، والجنوب، تتفاعل معها الدبلوماسية المصرية بكل ما يتوافر لها من وسائل وإمكانيات، وتعمل القيادة السياسية والعسكرية على توفير مقومات القوة الكافية دفاعيا، لمواجهة هذه التهديدات، أو أى مخاطر مفاجئة.
الاستقطاب الدولى
صعوبة الأوضاع التى تمارس فيها الدبلوماسية المصرية نشاطها، تنبع من ثلاثة متغيرات، الأول خارجى، دولى وإقليمى، يرتبط بفترة الاضطراب الحالية التى يمر بها النظام العالمى، بين قوتين، واحدة تريد المحافظة على النظام الأحادى القطبية الآخذ فى الأفول. القوة الثانية فى مقابل ذلك، تسعى إلى إقامة نظام دولى جديد متعدد الأقطاب.
بصمة هذا الاضطراب تعكس نفسها إقليميا، حتى وصل الأمر إلى استقطاب تزداد حدته يوما بعد يوم بين توجهات كل من القوتين، حيث تقود الولايات المتحدة القوة الأولى، وتقود الصين القوة الثانية، وكأننا عدنا إلى فترة الحرب الباردة الأولى فى تاريخ العالم، التى انقسمت فيها المنطقة العربية، والشرق الأوسط عموما، بين طرفى تلك الحرب؛ فكانت السعودية فى ناحية، ومصر فى الناحية المقابلة فى ذلك الوقت.
هذا المتغير الخارجى يتطلب من الدبلوماسية المصرية التمسك بأقصى مستويات الذكاء والمهارة، وأقصى درجات المرونة والقدرة على المناورة، من أجل المحافظة على المصالح الأساسية للأمن القومى المصرى فى البقاء والنماء والارتقاء، وعدم التفريط فيها. 
الجماعات المسلحة غير الحكومية
المتغير الثانى الذى يزيد من صعوبة الظروف التى تعمل فيها الدبلوماسية المصرية، هو متغير جديد نسبيا، ألا وهو ظهور تنظيمات مسلحة غير حكومية، أصبحت تشارك فى صنع التغيير السياسى فى دول الجوار، كما هو الحال فى فلسطين، والسودان، وليبيا، واليمن، وسورية ولبنان والعراق.
ومع أن الدبلوماسية المصرية كانت قد اكتسبت خبرات تاريخية كبيرة من التعامل مع حركات التحرير الوطنى فى العالم العربى وأفريقيا والعالم الثالث فى ستينيات القرن الماضى، عندما كانت تقوده هذه الحركات تنظيمات غير حكومية مسلحة أو غير مسلحة، وعلى مدار فترة تاريخية أطول مع منظمة التحرير الفلسطينية، إلا أن هذه الخبرات تعرضت لانقطاع، وتغيرت الظروف المحيطة بها.
كذلك فإن الفترة منذ بداية القرن الحالى شهدت انتقال العديد من التنظيمات غير الحكومية المسلحة من مواقع التمرد والمعارضة إلى مواقع الحكم وصنع القرار أو المشاركة فيه، مثلما هو الحال فى العراق، واليمن، وغزة، ولبنان. كما شهدت تلك الفترة أيضا ولادة العشرات من الجماعات غير الحكومية المسلحة وغير المسلحة، الساعية للسيطرة على الحكم، أو المشاركة فى عملية صنع القرار رسميا كما هو الحال فى السودان وليبيا وتونس، وبلدان أخرى.


وتختلف أصول وطرق إدارة العلاقات الدبلوماسية مع التنظيمات غير الحكومية اختلافا جوهريا عن أصول وطرق إدارة العلاقات مع الوحدات السياسية الرسمية والحكومات التى تمثلها. على سبيل المثال، توجد دول تعتبر تنظيمات غير حكومية من الناحية الرسمية، مثل «حماس» فى غزة، و«حزب الله» فى لبنان، تساوى بينها وبين تنظيمات مصنفة على أنها تنظيمات إرهابية مثل «القاعدة» و«داعش»، ومن ثم فإنها لا تتعامل معها وإنما تواجهها بالعقوبات أو الحرب، فى حين توجد دول أخرى تتعامل معها باعتبارها تنظيمات غير حكومية شرعية يجوز التعاون معها.
ونحن نعرف على سبيل المثال، أن الدبلوماسيتين السعودية والأمريكية، اختلفتا بشأن تصنيف الحوثيين فى اليمن؛ إذ طالبت السعودية باعتبار الحوثيين حركة إرهابية، فى حين تجنبت الدبلوماسية الأمريكية ذلك، لاعتبارات عملية على الأرجح، بعد أن صعد الحوثيون من خندق التمرد العسكرى، إلى قصر الحكم فى صنعاء، وربما لوجود قنوات لا تزال مفتوحة بين الطرفين فى شأن التعاون لمكافحة تنظيم القاعدة فى شبه الجزيرة العربية. 
وتلعب التنظيمات المسلحة غير الحكومية، دورًا رئيسيًا فى عملية التطور السياسى فى الشرق الأوسط حاليا، أكثر من أى منطقة أخرى فى العالم، بما فى ذلك أمريكا اللاتينية، التى كانت فى السبعينيات مركز نشاط الجماعات المسلحة غير الحكومية فى العالم، وإن كانت التنظيمات المسلحة الفلسطينية فى ذلك الوقت مثل الجبهة الشعبية، والجبهة الديمقراطية، وجماعة أبو نضال، قد ظلت لفترة طويلة من الوقت مركزا لاهتمام العالم.
هذا الدور الذى تقوم به الجماعات المسلحة غير الحكومية فى الشرق الأوسط، لا يمكن اعتباره دورًا معطلًا للتطور السياسى، أو محفزا له، على خط مستقيم، وهو ما يستدعى من الدبلوماسية الحكومية فى أى بلد، أن تكون مستعدة للتعامل مع هذه الجماعات، باعتبارها كيانات قائمة بالفعل، تمارس دورا إيجابيا أو سلبيا، باستخدام سلة متنوعة من الأدوات والوسائل، لتعطيل دورها السلبى، وتحفيز الدور الإيجابى الذى يمكن أن تلعبه فى التغيير. 
ومن الخطأ الاعتقاد بأن ما يصلح فى إدارة الدبلوماسية الرسمية مع الحكومات، يصلح أيضا وبنفس المقدار فى إدارة العلاقات مع الجماعات أو التنظيمات المسلحة غير الحكومية. كذلك فإن سلة أدوات ووسائل العلاقات مع المنظمات المسلحة غير الحكومية، تختلف باختلاف الظروف السياسية والعسكرية فى البلدان التى تنشط فيها هذه المنظمات.
وفى كل الأحوال، فإن دبلوماسية التعامل معها تتطلب أولا تحديد الهدف المطلوب من العلاقات، وهل هو يتعلق مثلا بوقف إطلاق النار مثلا، أم يتعلق ببناء السلام، أم يتعلق بحفظ السلام، أم إنه يتعلق بإعادة بناء الدولة. هذه العوامل وغيرها من شأنها أن تساعد على رسم استراتيجية لإدارة العلاقات بين الحكومات والجماعات المسلحة غير الحكومية النشطة فى بلدان أخرى، خصوصا إذا كانت هذه العلاقات ضرورية لتحقيق أهداف الأمن القومى للدولة.
طبيعة الجماعات المسلحة غير الحكومية
تعلمنا تجربة الدبلوماسية المصرية مع «حركة المقاومة الإسلامية» (حماس) فى غزة، أن الدبلوماسية الرسمية يجب أن تكون شديدة الحذر فى بناء استراتيجيتها تجاه الحركات المسلحة غير الحكومية النشطة فى مناطق أخرى خارج حدودها، وألا يتم وضع أى استراتيجية فى هذا الخصوص بدون فحص متغيرات المصلحة القومية بعناية شديدة، وألا تتسبب الاستراتيجية التى يتم تبنيها، فى تعريض الأمن القومى للخطر، لأن هذا يتعارض مع دور الدبلوماسية.
وبدون الدخول فى تفاصيل علاقة الدبلوماسية المصرية بحركة حماس قبل وبعد صعودها للحكم فى غزة، والاستقلال تقريبا عن السلطة الوطنية الفلسطينية منذ عام ٢٠٠٦، فإن طبيعة العلاقات بين الطرفين، لا تزال تتيح قناة مفتوحة ومفيدة أمام الدبلوماسية المصرية للتفاعل مع تطورات الوضع السياسى فى غزة، وأمن الحدود، ودور مصر فى الصراع الفلسطينى الإسرائيلى. 


نقص فائض القوة
المتغير الثالث الذى يزيد من صعوبة التحديات التى تواجه نشاط الدبلوماسية المصرية يتعلق بقدراتها الفعلية، ونطاق عملها، وتشابك القضايا وتعدد مستويات الأداء، بما يتطلب قدرا هائلا من الذكاء والمهارات العملية والمعرفة الدقيقة، لمواصلة الإبحار بأمان فى بحور مضطربة، سعيا للمحافظة على المصالح القومية والدفاع عنها.
وترتبط القدرات الفعلية للدبلوماسية بمقدار ونوعية فائض القوة القومية المتاح للاستخدام خارجيا. وبسبب انعكاسات الأزمات الاقتصادية العالمية على الاقتصاد المحلى، وعدم قدرة السياسة الاقتصادية المحلية على زيادة تعبئة الموارد، وتقليل المديونيات المستحقة على الحكومة خارجيا وماليا، فإن قدرة الدبلوماسية على المناورة، أو استخدام أدوات ضغط لتحقيقها باتت أقل.
ومع زيادة تركيز الدولة على بيع ممتلكات وطنية لمستثمرين أجانب، فإن الدبلوماسية أصبحت تواجه صعوبات أكبر ممارسة دور أكثر تأثيرا فى مواجهة تحديات الأمن القومى المصرى، مثل أزمة سد النهضة مع إثيوبيا، والمخاطر الناجمة عن فشل الدولة فى كل من ليبيا والسودان.
وجه الصعوبة هنا ينبع من أن المستثمرين الأجانب، خصوصا الخليجيين، لديهم مصالح متفرقة، ومقاصد مختلفة فى إثيوبيا والسودان وليبيا واليمن على سبيل المثال، وهو ما يترك بصمته على الدبلوماسية المصرية، التى تحاول الموازنة بين المصلحة القومية الطويلة المدى، وبين المصلحة الوقتية، المرتبطة بترويج وجذب الاستثمار الأجنبى. 
نوافذ مفتوحة للحوار 
وفى هذا السياق فإن الدبلوماسية المصرية المحترفة، تعمل على تعبئة كل المهارات والامكانيات من أجل المحافظة على نوافذ مفتوحة للحوار مع الأطراف المختلفة، ذات العلاقة بالمخاطر الراهنة، خصوصا فيما يتعلق بأمن الحدود. ورغم كل الصعوبات، فإنها لا تزال قادرة على لعب دور الوسيط الموثوق فيه، لإحلال السلام فى غزة على سبيل المثال، ومحاولة تهدئة العلاقات بين حماس والسلطة الوطنية الفلسطينية.
ولا تزال أيضا تلعب دورا ديناميكيا فى حل الصراعات بين القوى المتناحرة داخل ليبيا على الرغم من التداخل الذى تشهده الساحة الليبية من أطراف أخرى عربية وغير عربية.
وفيما يتعلق بالسودان فإن الدبلوماسية المصرية تلقى بكل ثقلها الآن فى هذه الساحة، رغم أن الملف السودانى تتداخل فيه مبادرات لا يوجد التنسيق الكافى بينها، مثل المبادرة السعودية - الأمريكية لوقف إطلاق النار، ومبادرة دول اتفاقية «إيجاد» لعمل ترتيبات لفك الاشتباك بين القوات وإقامة منطقة إنسانية خالية من القتال، تسمح بنقل المساعدات الإنسانية مثل الأغذية والأدوية إلى المدنيين الأبرياء. 
وتعود أهمية المبادرة الدبلوماسية المصرية لعقد مؤتمر لدول الجوار السودانى إلى أن هذا المؤتمر قد يصبح منصة لصهر المبادرات الكثيرة المتضاربة وغير المنسقة، التى تجرى بشأن إحلال السلام فى السودان، التى وصفها «مالك عقار»، نائب رئيس مجلس السيادة السودانى، بأنها مجرد «بازارات سياسية» لا قيمة لها.
وتتضمن الجهود المعلنة حتى الآن لحل الأزمة السودانية خمس مبادرات خارجية، واحدة سعودية - أمريكية، وثانية بواسطة دول اتفاقية «إيجاد»، وثالثة هى المبادرة الإثيوبية، ورابعة هى مبادرة إريتريا، وخامسة هى المبادرة المصرية، وهناك مبادرة محلية تقودها تنظيمات عسكرية - سياسية سودانية، تطمح إلى عقد اجتماعات فى دارفور لجمع الطرفين المتنازعين على الحكم، البرهان وحميدتى. وتعلق كل الأطراف الداعية لإحلال السلام فى السودان آمالا كبيرة على تحقيق نجاح فى حل الأزمة. 
مبادرة واحدة منسقة
ويتوقف تقييم مؤتمر دول الجوار فى مصر على مدى نجاحه فى إقامة توافق مبدئى بين دول الجوار على الالتزام بمجموعة من المبادئ، التى من شأنها تهدئة الأوضاع والتقدم خطوة على طريق إحلال السلام. وهذه مهمة ليست سهلة، نظرا لأن الخبرات التاريخية للحروب فى السودان، خصوصا فى جنوب السودان (قبل الانفصال)، ودارفور، حتى الآن، تشير إلى أن العمليات القتالية يطول أمدها لسنوات طويلة، ويتم خلالها ارتكاب فظائع وحشية ضد المدنيين، وتتميز فيها مواقف الأطراف المختلفة بالعناد، ورفض التدخل الخارجى.
الأكثر من ذلك هو أن الجماعات المسلحة غير الحكومية تحولت إلى جماعات مصالح خاصة، تتوافر لها مقومات اقتصادية وإدارية للبقاء والاستمرار فى الأنشطة المعادية للدولة، وتتوافر لها أيضا مصادر التسليح الكافية، عن طريق تجار السلاح فى السوق السوداء، والمنظمات المسلحة غير الحكومية العابرة للحدود، وسرقة الأسلحة من المخازن الحكومية، وفى بعض الأحوال فإنها تحصل على أسلحة عن طريق حلفاء إقليميين لهم مصلحة فى استمرار القتال.
لكن ما يزيد من خطورة الوضع فى السودان هو انهيار الدولة، رغم أنها لا تزال تمارس سلطات السيادة من الناحية القانونية الشكلية، من خلال عضويتها فى الأمم المتحدة. ويعتبر السودان حاليا «دولة فاشلة» بكل المقاييس، مع عجز الحكومة عن فرض النظام، وسلطة القانون، وممارسة الحكم الإدارى والاقتصادى داخل الحدود الرسمية.
نتائج مؤتمر دول الجوار للسودان فى القاهرة سيكون نجاحا باهرا للديبلوماسية المصرية، إذا تجاوز كونه مجرد مبادرة تضاف إلى المبادرات التى أعلنت منذ شهر مايو الماضى. ومن الضرورى فى كل الأحوال، نظرا لأهمية إحلال السلام فى السودان أن تواصل الدبلوماسية نشاطها، وأن تحدد الهدف من هذا النشاط بدقة، وأن يكون لديها ما تقدمه، وما تريد الحصول عليه، خصوصا أن لدينا فى مصر أكبر مجتمع سودانى فى العالم خارج السودان، وأن البلدين تربطهما مصالح مصيرية.
ويتوقف نجاح الدبلوماسية عموما على ما يتوافر لديها من أدوات الحوار والترغيب والترهيب وممارسة الضغط على الأطراف المختلفة؛ ولا تستطيع تحقيق أهدافها المرجوة بدون امتلاك تلك القدرات.