من الأمور السلبية في البيئة العلمية "العربية/الإسلامية" القصور الشديد في الاهتمام بالفلسفة وإهمال دراستها، بل والتحذير منها واعتبارها شرًا محضًا، لقد تعرضت الفلسفة عبر تاريخها المديد إلى الكثير جدًا من حملات التهجُّم والتعريض والنقد بلغت أوجهًا في تكفير الفلسفة والمشتغلين بها، ولم تكن الفلسفة في الإسلام استثناءً في ذلك، حيث أنها لم تسلم من الهجوم عليها من جبهات عديدة من حيث أنها في نهاية الأمر نبرة روح أو نبضة عقل يحاول التخفف من أثقال المادة والنظر إلى الأمور بعين مجردة، وهكذا أصبحت الفلسفة كعلم أو تخصص تثير عند كثير من القراء غير المختصين شعورًا غريبًا بالنفور فهي ـ في نظرهم ـ تعبير عن شيء مبهم وغامض، لا سبيل إلى فهمه ولا جدوى من الاشتغال به إذ ليست لها ـ في زعمهم ـ نتائج عملية ملموسة في الحياة، فالاشتغال بها جهد ضائع وإنهاك للفكر فيما لا طائل من ورائه لدرجة أن البعض اتهمها بأنها أفسدت العلوم الإسلامية وبصفة خاصة علوم العقائد، وقديمًا قال أفلاطون: (إن الجمهور ميال لاعتقاد أن الفلسفة عديمة النفع)، والفيلسوف ـ في نظر البعض ـ هو أحد هؤلاء الحالمين الذين يعيشون في أبراج عاجية منعزلين عن الحياة، ولكن هذا السخط والنفور من الفلسفة والتفلسف إذا دل على شيء فإنما يدل على عدم إدراك للفلسفة، وجهل بقيمة المهمة التي أنيطت بها، يقول الفيلسوف ازفلد كولبه: (إن الأصوات التي نسمعها اليوم معلنة قرب انتهاء الفلسفة أو الزعم بأنها من الأمور الكمالية التي لا نفع فيها إن هي إلا أصوات تصدر عن جهل بماهية الفلسفة ومعناها ورسالتها التي اضطلعت بها في عصورها المختلفة).
إن القضية الأساسية التي نتناولها عند مناقشة موضوع الفلسفة الإسلامية هي: قضية الصلة بين العقل والدين في الإسلام، بل يمكن القول بأنها كانت القضية الرئيسية التي سيطرت على فكر فلاسفة الإسلام الذين حرصوا على إزالة أي تناقض بين العقل والدين، الأمر الذي جعل فريقًا من الباحثين يذهب إلى وصف هذه الفلسفة بأنها فلسفة توفيقية بمعنى أنها تنحو نحو التوفيق بين العقل والدين، لذلك وفي ظل الظروف الفكرية التي تخيم على حياتنا الثقافية سواء في مصر أو في منطقتنا العربية ومع دعوات حتمية إصلاح الفكر الديني وإزالة الغبار الذي تراكم على المفاهيم الدينية الصحيحة على مدى قرون من التخلف والانحطاط الفكري، يجب التأكيد على أن قضية إصلاح الفكر الديني لا تنفصل عن قضية إصلاح الفكر بصفة عامة، فكلاهما يؤثر في الآخر إيجابًا وسلبًا، وإصلاح الفكر يعني العودة إلى مقررات العقل السليم وتمكين العقل من أداء دوره كاملًا في الحياة، ومن هنا نجد أن الفلسفة الإسلامية تؤكد على أهمية العقل ودوره الحاسم في إحداث التغيير المطلوب والإصلاح المنشود، فإذا استقام الفكر استقام الفهم للدين واستقامت أمور الحياة وانفتح الطريق ممهدًا أمام الإنسان نحو تجديد الحياة وتطويرها والارتقاء بها وبناء الحضارة الإنسانية على أسس سليمة راسخة، ولذلك يقول الإمام محمد عبده: (العقل قوة من أفضل القوى الإنسانية، بل هو أفضلها على الحقيقة)، ويقول أيضًا: (والعقل من أَجل القوى، بل هو القوى الإنسانية وعمادها، والكون جميعه هو صحيفته التي ينظر فيها وكتابه الذي يتلوه، وكل ما يقرأ فيه فهو هداية إلى الله وسبيل للوصول إليه).
وفي الحقيقة إن التفكير الفلسفي ليس ـ كما يتصور البعض ـ احتكارًا للفلاسفة أو للمشتغلين بالفلسفة، إذ أن الإنسان كإنسان يتميز عن غيره من الكائنات بعقل وهبه الله إياه ليفكر به، والتفلسف ليس شيئًا آخر غير استخدام هذا العقل، وليست الفلسفة إلا نتاجًا للنظرة الفاحصة للعقل البشري إلى هذا الوجود، وتطلعًا مشروعًا من جانب هذا العقل إلى إدراك المبادئ الأولى في هذا الوجود، ومحاولة لحل ألغاز الحياة المتمثلة في الأسئلة التالية: من نحن؟، وإلى أين نذهب؟، وما أحسن سبيل للوصول إلى المصير؟، فالفلسفة في واقع الأمر ليست بالشيء الدخيل على الإنسان فحياته حلقات متصلة من الفكر والتأمل، ولذلك فهي ظاهرة إنسانية ملازمة لوجود الإنسان وهي ـ كما يقول كارل ياسبرس ـ أمر لا مفر منه، وقد قال أرسطو ذات مرة: (إن الذي يرفض الفلسفة يتحتم عليه أن يتفلسف) أي ليثبت ذلك، والسؤال المطروح كما يقول ـ ياسبرس ـ هو فقط: (ما إذا كان هناك وعي بالفلسفة أم لا ؟).
لذلك يقول المفكر والكاتب المصري الكبير زكريا إبراهيم: (التفكير الفلسفي لم يكن في يوم من الأيام وقفًا على أمة دون أمة وإنما كان وسيظل حقًا من حقوق الإنسان لا شأن له بخطوط الطول والعرض، ولا علاقة له بمسائل الجنس والدين واللون)، فإذا كان لفظ الفلسفة قد نشأ في المحيط اليوناني فليس معنى ذلك أن التفكير الفلسفي كان وقفًا على اليونان، وبالنسبة للعرب فإنهم في جاهليتهم لم يعرفوا الفلسفة بالمعنى الاصطلاحي، وإنما كانت لهم نظرات فلسفية متناثرة فيما خلفوه لنا من نثر وشعر، ولكنها كانت من خطرات الفكر وفلتات الطبع كما يقول الشهرستاني، فقد نظروا في الطبيعة واعتقدوا في ضرورة وجود خالق لهذا الكون واهتموا بأدب النفس، واشتملت حكمهم على لمحات فلسفية وكانت لهم ملاحظات دقيقة، ولكن ما خلفوه لنا من تراث لا يتعدى طور الفطرة فلم يكن لديهم اهتمام بالتعليل أو محاربة التقليد والخرافات أو البحث عن العلاقة بين المقدمات والنتائج.
ولما جاء الإسلام بعث فيهم حياة جديدة ونقلهم إلى أفق فسيح من العلم والمعرفة، وأصبحوا دعاة هداية وسلام وأقاموا صرح دولة عظمى تمتد من أقصى الصين شرقًا إلى أقصى الأندلس غربًا، وأنشأوا حضارة زاهرة كانت من أطول الحضارات عمرًا في التاريخ، وفي هذا الجو ازدهرت العلوم والمعارف على اختلاف أنواعها، وأسهم المسلمون في الجهود الفلسفية، فنقلوا فلسفة اليونان وتفلسفوا وأصبحت لهم فلسفة تحمل طابعهم وتميزهم عن غيرهم.
وقد كان أول فليسوف مسلم هو: أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي (١٨٥ هـ / ٨٠١ م، ٢٥٢ هـ / ٨٦٦ م)، وقد عرف الفلسفة بأنها: (علم الأشياء بحقائقها بقدر طاقة الإنسان، لأن غرض الفيلسوف في علمه إصابة الحق، وفي عمله العمل بالحق، واعتبر الفلسفة الأولى أعلى الصناعات الإنسانية).
وجاء بعده: أبو نصر الفارابي (٢٥٧ هـ / ٨٧٠ م، ٣٣٩ هـ / ٩٥٠ م) الذي أطلق عليه لقب المعلم الثاني، وقد عرف الفارابي الفلسفة بقوله: (الفلسفة جوهرها وماهيتها أنها العلم بالموجودات بما هي موجودة)، كما أنه يعتبر أن غاية الفلسفة ومقصدها هو هذه المعرفة حيث يقول: (وأما الغاية التي يقصد إليها في تعلم الفلسفة فهي معرفة الخالق تعالى، وأنه واحد غير متحرك، وأنه العلة الفاعلة لجميع الأشياء، وأنه المرتب لهذا العالم بجوده وحكمته وعدله).
وأما الشيخ الرئيس: أبو علي بن سينا (٣٧٠ هـ / ٩٨٠ م، ٤٢٨ هـ / ١٠٣٧م) فقد عرف الفلسفة بأنها: (صناعة نظر يستفيد منها الإنسان تحصيل ما عليه الوجود كله في نفسه، وما الواجب عليه عمله مما ينبغي أن يكتسب فعله لتشرف بذلك نفسه وتستكمل وتصير عالمًا معقولًا مضاهيًا للعالم الموجود، وتستعد للسعادة القصوى في الآخرة وذلك بحسب الطاقة الإنسانية)، ويقول أيضًا: (الحكمة ـ أي الفلسفة ـ استكمال النفس الإنسانية بتصور الأمور والتصديق بالحقائق النظرية والعملية على قدر الطاقة الإنسانية)، أي التماس تحصيل الحقائق بالنظر العقلي كما قال الشيخ مصطفى عبد الرازق.
وأخيرًا يقول الإمام الغزالي: (العقل أنموذج من نور الله)، ويقول ابن تيميه: (وأما نفي الفلسفة مطلقًا أو إثباتها فلا يمكن)، هذا على الرغم مما لهما من وجهات نظر متحفظة تجاه الفلسفة والفلاسفة.
إن من الآثار السلبية لإهمال الفلسفة في المجتمع العربي والإسلامي ظهور العديد من الشبهات حول قضية الدين والإله، واستغلال تيار الإلحاد المعاصر لهذه الشبهات لتشكيك الشباب في وجود الله وجدوى الدين، مع عدم قدرة الكثير من الشباب على التعامل مع هذه الشبهات وتفنيدها، وهو عمل عقلي وفلسفي محض، إن الفلسفة من أهم الأدوات التي تساعد على مواجهة الشبهات سواء المعاصرة والقديمة حول الله والدين.